"اتهام بالتجسس واعتقال وحظر للسفر والمحظوظ من يتم ترحيله"، هذه ليست إلا مشاهد من المخاطر التي يتعرض لها النشطاء والعاملون في مجال مساعدة اللاجئين باليونان، تكشفها شهادات وتقارير أممية وحقوقية وسط موقف مثير للريبة للاتحاد الأوروبي ومؤسساته.
فحين علم الناشط بمجال حقوق اللاجئين بانايوتي ديميتراس أنَّه تم توجيه اتهامات له على صِلة بعمله، كان يعرف أنَّ السلطات "تريد إسكاته بأسرع ما يمكن"، حسبما ورد في تقرير لموقع Middle East Eye البريطاني.
كان ديميتراس الذي يعمل كمدير فرع منظمة "مرصد هلسنكي" في اليونان يدافع عن اللاجئين والمهاجرين الذين يخوضون الرحلة الخطرة من تركيا. كان جزء من هذا الدفاع يعني توثيق وصولهم إلى الجزر اليونانية وإبلاغ الشرطة بمواقعهم حتى لا يتم ترحيلهم فورياً على الحدود أو طردهم بصورة غير قانونية من البلاد.
لكن في ديسمبر/كانون الأول الماضي، اتهم مدعٍ بجزيرة كوس اليونانية ديميتراس وناشط آخر، هو تومي أولسن المقيم في النرويج والذي يدير منظمة "تقارير قوارب إيجة" (Aegean Boat Reports)، بجرائم متعلقة بعمليات تهريب مزعومة.
تجدر الإشارة إلى أن صحيفة الباييس الإسبانية ذكرت، في تقرير بحثي بالتعاون مع موقع "سولومون" الإخباري اليوناني، الإثنين 6 مارس/آذار 2023، أن الشرطة اليونانية سرقت أكثر من مليوني يورو من الأموال أو الأشياء الثمينة من المهاجرين غير النظاميين الذين أعيدوا إلى تركيا خلال الفترة 2017-2022.
هكذا تنتقم الشرطة من النشطاء والعاملين في مجال مساعدة اللاجئين باليونان
"كنا شوكة في حلق السلطات اليونانية؛ لأنَّنا نُوثِّق عمليات الترحيل الفوري والعنف المرتبط بها"، واصفاً الاتهامات بأنَّها صورة من صور "الانتقام"، هكذا قال ديميتراس لموقع Middle East Eye.
وينتظر ديميتراس الآن مضي القضية قدماً، وقد اضطر لدفع كفالة بقيمة 10 آلاف يورو، وحُظِرَ من السفر خارج البلاد، ويتعين عليه تسجيل الحضور مرتين شهرياً في أحد أقسام الشرطة، ومُنِعَ من القيام بأعمال مرتبطة بمرصد هلسنكي.
لم يكن ديميتراس وأولسن أول عاملين بالمجال الإنساني تستهدفهما اليونان باتهامات مماثلة. ويتهم المنتقدون الحكومة اليونانية بخلق بيئة من الخوف لردع الناس عن العمل مع اللاجئين والمهاجرين.
يأتي القمع وسط جهود أوسع من جانب الحكومة اليونانية لردع اللاجئين والمهاجرين عن محاولة دخول البلاد.
ففي يناير/كانون الثاني الماضي، أسقطت محكمة بجزيرة ليسبوس اتهامات جنائية بحق 24 عامل إغاثة. وكان العاملون الإغاثيون، وبينهم الناشط الأيرلندي الألماني شون بيندر واللاجئة السورية سارة مارديني، قد اتُّهِموا بالتجسس، والكشف عن أسرار الدولة، والاستخدام غير القانوني لترددات لاسلكية، والتزوير.
لكنَّ المجموعة لا تزال تواجه حفنة من الاتهامات الجنائية، بما في ذلك مساعدة شبكات التهريب، وعضوية منظمات إجرامية، وغسيل الأموال.
كتاب من ثلاثة آلاف صفحة عن عنف أثينا خلال عمليات الترحيل الفوري للاجئين
في عام 2015، ارتفع عدد اللاجئين والمهاجرين الذين وصلوا إلى أوروبا، بما في ذلك اليونان، في خضم الصراع المسلح في سوريا والعراق وأفغانستان وكذلك عدم الاستقرار السياسي والاقتصادي في مناطق أخرى.
وصل أكثر من 900 ألف شخص إلى اليونان أو عبروا من خلالها في 2015، لكنَّ ذلك الرقم تراجع منذ ذلك الحين.
ففي عام 2021، وثَّقت مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين نحو 9157 حالة وصول إلى اليونان براً وبحراً، في حين شهد عام 2022 وصول نحو 18780 شخصاً إلى البلاد.
وصل حزب "الديمقراطية الجديدة" اليميني إلى السلطة في انتخابات يوليو/تموز 2019 بعد حملة انتخابية قامت على وعود بزيادة عمليات الترحيل وتكثيف الدوريات على حدود اليونان البرية والبحرية.
وتُتَّهم الحكومة اليونانية منذ بداية الجائحة في مطلع 2020 بتنفيذ عمليات ترحيل فوري واسعة النطاق.
ينفي المسؤولون اليونانيون أنَّ السلطات تستخدم أسلوب الترحيل الفوري للاجئين. وفي ديسمبر/كانون الأول الماضي، ظهر وزير الهجرة اليوناني، نوتيس ميتاراشي، على محطة ERT الرسمية وقال إنَّ مزاعم الترحيل الفوري هي جزء من "هجوم مُنظَّم" على البلاد.
ورأى ميتاراشي أنَّ المنتقدين لسياسات الهجرة الخاصة بالحكومة اليونانية "يريدون أن تعيد أوروبا فتح حدودها والسماح لملايين الناس بعبورها".
لكن في ديسمبر/كانون الأول الماضي، نشرت "شبكة مراقبة العنف على الحدود"، وهو تحالف من مجموعات الإغاثة والمراقبين، تقرير "الكتاب الأسود للترحيل الفوري" (Black Book of Pushbacks). يحتوي الكتاب الأسود على أكثر من 3 آلاف صفحة من الشهادات بشأن حالات الترحيل الفوري والعنف على حدود أوروبا.
أُعِدَّ الملف بتفويض من مجموعة "اليسار" السياسي، وقد أورد تفاصيل حالات الضرب والتهديد والترهيب للاجئين والمهاجرين على الحدود، بما في ذلك حدود اليونان وبلغاريا والمجر وكرواتيا.
اليونان تشن حملة ترهيب مخيفة للعاملين بالمجال الإنساني
قالت روحي أختر، مؤسسة منظمة "Refugee Biriyani & Bananas" المعنية باللاجئين، إنَّ قمع الحكومة اليونانية جزء من حملة لخلق تأثير مخيف بين العاملين بالمجال الإنساني.
وقالت أختر، التي استُهدِفَت بتحقيق جنائي دون توجيه اتهامات ضدها، إنَّ هنالك جهوداً متضافرة لترهيب العاملين بالمجال الإنساني ومجموعات الإغاثة، لاسيما أولئك الذين يدقون ناقوس الخطر بشأن عملايت الترحيل الفوري.
وأضافت أنَّ "تجريم" إغاثة اللاجئين والدفاع عنهم يمكن أن "يؤدي إلى المزيد من الوفيات" وردع الآخرين عن "ممارسة العمل الإنساني".
واعتقلت الشرطة في جزيرة خيوس اليونانية مادي ويليامسون، وهي ممرضة تعمل مع اللاجئين والمهاجرين، في مايو/أيار 2021 بينما كانت تستعد لمغادرة الجزيرة. وقالت ويليامسون إنَّ الشرطة احتجزتها واستجوبتها وفتَّشتها تفتيشاً ذاتياً وصادرت أيضاً حاسوبها المحمول وهواتفها. وكما هو الحال مع روحي أختر، لم تُتَّهم بأي جرائم.
وصفت ويليامسون تحقيقات اليونان مع العاملين في المجال الإنساني بأنَّه "أسلوب ترهيب واسع النطاق" و"ليس له أي شرعية في نظر القانون".
فرَّ يونس محمدي من أفغانستان ووصل إلى اليونان لاجئاً قبل أكثر من عقدين من الزمن. وظلَّ يتحدَّث علانيةً طيلة سنوات ضد عنف المدنيين الذي يستهدف المهاجرين وكذلك ضد سياسات اليونان الصارمة على نحوٍ متزايد بشأن الحدود.
واللاجئون يموتون بسبب عدم قدرتهم على الوصول للعاملين بالمجال الإنساني
ويتلقَّى محمدي مكالمات ورسائل من أناس يائسين يحاولون الوصول إلى البلاد بصورة يومية تقريباً بصفته رئيساً للمنتدى اليوناني للاجئين. وقال لموقع Middle East Eye: "للأسف، أنهي المحادثة في معظم الأوقات لأنَّني أعلم أنَّ هاتفي مُراقَب من السلطات".
وأضاف: "يمكنهم أن يدينوك في أي لحظة باعتبارك مُهرِّباً".
وحملة القمع، مثلما يراها محمدي، تجعل أيضاً اعتماد اللاجئين والمهاجرين على العاملين بمجال الإغاثة أكثر خطورة. ويوضح: "العديد من الناس يموتون. ما يجري على الحدود فظيع حقاً".
.. أو يلجأون لطرق هجرة أكثر خطورة
في غضون ذلك، أجبر استخدام اليونان المزعوم للترحيل الفوري الكثير من اللاجئين والمهاجرين على سلوك طرق أكثر خطورة وفتكاً على أمل الوصول إلى أوروبا.
إذ أوضح ألكسندروس جورجوليس، وهو محام في جزيرة خيوس يمثِّل كلاً من طالبي اللجوء والعاملين بالمجال الإنساني على حد سواء، إنَّ القوارب التي تغادر تركيا حاولت في بعض الحالات تجاوز اليونان تماماً.
وأضاف: "إنَّنا نتحدث عن مسافة أطول مئة مرة، بالتالي، نتحدث عن رحلة أخطر مئة مرة".
ولقي 22 لاجئاً ومهاجراً على الأقل مصرعهم في حوادث منفصلة لغرق قوارب في أكتوبر/تشرين الأول الماضي. تحطم القارب الأول قرب جزيرة ليسبوس، في حين أفادت تقارير بأنَّ قارباً آخر حاول تجاوز البلاد وبلوغ إيطاليا مباشرةً.
أكثر من 2400 شخص ماتوا خلال خلال محاولتهم الوصول لليونان منذ 2015
لقي أكثر من ألفَي شخص حتفهم أو فُقِدوا خلال محاولتهم الوصول إلى الأراضي اليونانية بين عامَي 2015 و2022، وفقاً لمفوضية الأمم المتحدة السامية لشؤون اللاجئين.
ولقي أكثر من 441 شخصاً مصرعهم أثناء عبورهم منتصف البحر المتوسط بين شمال إفريقيا وأوروبا خلال الأشهر الثلاثة الأولى من عام 2023، حسب المنظمة الدولية للهجرة.
حصيلة الوفيات تلك جعلتها أكثر فترة ثلاثة أشهر دموية منذ ست سنوات، ولو أنَّ الرقم الحقيقي لأولئك الذين لقوا حتفهم على الأرجح أعلى بكثير.
وانتقدت ماري لولور، مقررة الأمم المتحدة الخاصة المعنية بالمدافعين عن حقوق الإنسان، الحكومة اليونانية على خلفية الضغط على العاملين بالمجال الإنساني والإغاثي.
وكانت لولور قد زارت اليونان في يونيو/حزيران 2022 لبحث وضع المدافعين عن حقوق الإنسان في البلاد، بمن فيهم ذلك أولئك الذين يعملون مع اللاجئين والمهاجرين. وقدَّمت في مارس/آذار الماضي نتائجها إلى مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة.
وأشارت لولور في تقريرها إلى أنَّ "محامي حقوق الإنسان، والعاملين في المجال الإنساني، والمتطوعين، والصحفيين الذين يُغطُّون الهجرة يتعرَّضون لحملات تشهير، وبيئة تنظيمية متغيِّرة، وتهديدات، وهجمات، وإساءة استغلال القانون الجنائي ضدهم، بدرجة صادمة".
من جانبه، يقول ديميتراس إنَّ "كل خطوة تقريباً" من جانب السلطات تُمثِّل "انتهاكاً لقانونها".
وأضاف: "هذا ليس نوع المناخ الذي تجده في دول من المفترض أنَّها ديمقراطية تعمل بصورة صحيحة".
اللافت أنه بينما تسلط منظمات المجتمع المدني وبعض المنظمات الدولية والأممية الضوء على انتهاكات بحق اللاجئين في اليونان وكذلك عمليات مطاردة العاملين بالمجال الإنساني، فإن صوت الاتحاد الأوروبي ومؤسساته الذي طالما صدع العالم بإلقاء العظات حول حقوق الإنسان يبدو خافتاً أو غير موجود، ونادراً ما يراه ينتقد عضوته الجنوبية التي كانت يوماً نفسها بلداً فقيراً عانى من حروب أهلية وفقر جعلاه يوماً بلداً طارداً للاجئين والمهاجرين بعضهم فر للبلدان العربية ومنها سوريا، قبل أن تنضم أثينا للمجموعة الأوروبية وتغلق الباب لمن أراد أن يأتي خلفها للنجاة بحياته.