عندما تقع مصيبة في دولة ما، على الأرجح تستفيد منها دولة أو دول أخرى، وهذا ما حدث في حرب اليمن، التي يبدو أنها أوشكت على أن تضع أوزارها أخيراً، بعدد الاتفاق السعودي الإيراني، فكيف استفادت بعض دول الجوار من تلك المأساة؟
تتجلى هذه الاستفادة في الكيفية التي أسفرت بها الحرب في اليمن عن التأسيس لعلاقات غير متوقعة بين السعودية والإمارات من ناحية، وبين الدول الواقعة على الجانب الآخر من البحر الأحمر في منطقة القرن الإفريقي من ناحية أخرى.
وجلبت تلك العلاقات معها العديد من المكاسب المفاجئة لإريتريا وأرض الصومال، وفقاً لما كتبه كريستوفر فيليبس، في مقاله المنشور بموقع Middle East Eye البريطاني، وعنوانه "كيف وفّرت حرب اليمن دفعةً غير متوقعة لإريتريا وأرض الصومال؟".
أبرز المستفيدين من "مصيبة اليمن"
كريستوفر فيليبس هو أستاذ العلاقات الدولية، ونائب العميد في كلية الملكة ماري بجامعة لندن، واستهل مقاله بالحديث عن الانفراجة الأخيرة بين إيران والسعودية، التي أثارت احتمالية اتجاه حرب اليمن المُطوّلة إلى نهايتها أخيراً.
كانت إيران والسعودية قد أعلنتا مؤخراً استئناف العلاقات بينهما بعد قطيعة استمرت 6 سنوات، وهددت الاستقرار والأمن في الخليج، وساعدت في تأجيج الصراعات في الشرق الأوسط من اليمن إلى سوريا.
وجاء هذا الاتفاق بين السعودية وإيران ليفتح آفاقاً جديدة لشرق أوسط بدون أمريكا، فالعامل الرئيسي في هذه الصفقة هو بلا شك عدم تدخل واشنطن في الأمر مطلقاً، ويعتبر كثير من المحللين أن غياب الولايات المتحدة عن المنطقة يعتبر أمراً إيجابياً في حد ذاته.
كان الصراع في اليمن قد اندلع عام 2014، عندما انقلب الحوثيون على الحوكمة الشرعية في اليمن وأطاحوا بها، وسحب معه الرياض وأبوظبي وطهران وغيرها من عواصم المنطقة، ليدمر أفقر دولة في العالم العربي. وسيستغرق اليمن سنوات للتعافي حتى في حال تحقيق السلام، الذي من المرجح أن تستغرق المفاوضات لتحقيقه عدة شهور أو ربما أكثر.
وربما يعاني اليمن بصورةٍ لا تدع مجالاً للشك، لكن فيليبس أوضح أن بعض الدول خرجت مستفيدةً من الحرب الطويلة بصورةٍ مفاجئة، لينطبق المثل القائل إن مصائب قوم عند قوم فوائد.
فعلى الجانب الآخر من مضيق باب المندب وخليج عدن على الترتيب؛ تبدّلت حظوظ إريتريا وأرض الصومال نتيجةً للصراع، ولم يتوقع الكثيرون ذلك عندما بدأت الحرب الأهلية في اليمن، أو عندما تدخلت السعودية على رأس تحالفها عام 2015 تحديداً، لكن تداعيات الحرب كان لها أثر غير مباشر عزّز من المكانة الدولية لأسمرة وهرجيسا.
ويعتقد فيليبس أن التغييرات الأكثر دراماتيكية ظهرت في إريتريا، إذ عاشت إريتريا في عزلة دولية وكانت خاضعةً لعقوبات الأمم المتحدة قبل حرب اليمن، حيث حصلت على الاستقلال عام 1991 بعد حرب دامت لـ30 عاماً مع إثيوبيا، لكنها ظلت متشككة في الغرباء، ومنغلقةً نسبياً في تعاملها مع العالم الخارجي منذ ذلك الحين.
وأشرف حاكمها، المقاتل السابق أسياس أفورقي، على نظامٍ ديكتاتوري يتّسم بالقسوة ويفرض الخدمة الوطنية الإجبارية على جميع الإريتريين حتى منتصف العمر. وأدى عداء إريتريا مع الجيران إلى تفاقم الوضع، بحسب فيليبس. حيث انتهت حرب أخرى مع إثيوبيا بين عامي 1998 و2000 دون حل، ما ترك حدودهما الطويلة مغلقة وخنق التجارة العابرة.
وفي الوقت ذاته، أدت المناوشات مع جيبوتي في الجنوب إلى فرض الأمم المتحدة لحظر الأسلحة وغيرها من العقوبات عام 2009. وأسفرت العلاقات الدولية القليلة لإريتريا عن زيادة الضغائن، مع اتهام أسمرة بدعم حركة الشباب في الصومال بسبب موقفها المعادي لإثيوبيا.
اتفاق سلام بين إريتريا وإثيوبيا
ثم اندلعت الحرب في اليمن. وأصبحت الرياض، وخاصةً حليفتها الرئيسية أبوظبي، بحاجةٍ إلى قواعد عسكرية وموانئ أقرب لخط المواجهة. ويقول فيليبس إن إريتريا كانت مثاليةً لذلك الغرض، حيث تطلعوا في البداية إلى استخدام جيبوتي، لكن الدولة الصغيرة اختلفت مع الإمارات حول طريقة إدارة شركة موانئ دبي العالمية لمينائها، ما أجبر دبي على البحث عن مكان آخر.
واقتنعت إريتريا بقطع علاقاتها مع إيران والانضمام إلى التحالف ضد الحوثيين، حلفاء طهران في اليمن، ما سمح للإمارات باستخدام ميناء عصب على البحر الأحمر كقاعدةٍ عسكرية.
وفي المقابل، وعدت السعودية والإمارات أفورقي بتقديم الاستثمارات التي تحتاجها بلاده بشدة، والمساعدة في إنهاء عزلتها الدولية وفقاً للكاتب، الذي يرى أن النتائج جاءت أفضل من المتوقع. حيث استغلت الإمارات ميناء عصب بشكلٍ مكثف، ونقلت إليه المقاتلين السودانيين، المنتمين إلى قوات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو، الشهير بحميدتي، للانضمام إلى الصراع في البداية، ثم استخدمته كقاعدة لقواتها الجوية.
كما حصلت أسمرة على استثمارات حيوية، لكن الأهم من ذلك هو أن أبوظبي أوفت بوعودها بتحقيق المصالحة الدولية، عندما توسطت في اتفاق سلام بين إثيوبيا وإريتريا عام 2018.
وأسفر ذلك عن فتح حدود إريتريا الطويلة أخيراً والسماح بتدفق البضائع والتجارة، علاوةً على التأسيس لثورة دبلوماسية في منطقة القرن الإفريقي، إذ شكّلت أسمرة تحالفاً مفاجئاً مع أديس أبابا، لتشتركا معاً في الهجوم على المتمردين الإثيوبيين خلال حرب تيغراي الشرسة بين عامي 2020 و2022. ثم استأنفت إريتريا علاقاتها مع الحكومة الصومالية، وسوّت نزاعاتها الحدودية مع جيبوتي. وأسفرت تلك المصالحات، وضغوطات الإمارات الإضافية، عن رفع الأمم المتحدة لمجموعة من العقوبات عام 2018، لكن حظر الأسلحة ظل قائماً.
لكن على المستوى المحلي، لم يشهد الموقف أي تغييرات حقيقية، حيث ظل نظام أفورقي القابض على الأمور بقبضة من حديد قائماً كما هو، أما علاقات إريتريا الخارجية فهي التي شهدت تحوّلاً جذرياً، وأرجع فيليبس الفضل في ذلك إلى حرب اليمن في الأغلب.
مطالبات السيادة
يعتقد فيليبس أن أرض الصومال شهدت تغييرات أقل دراماتيكية، لكنها تظل تغييرات مهمة، إذ يتمتع هذا البلد بنفس حدود مستعمرة الصومال البريطاني السابقة تقريباً. وقد انفصلت أرض الصومال عن الصومال عام 1991، لتلغي الاندماج مع مستعمرة الصومال الإيطالي السابقة، الذي حدث عقب الاستقلال من الاستعمار عام 1960.
لكن مطالبات هرجيسا بالسيادة ليس معترفاً بها من أي دولة أخرى، كما يعيقها على نحوٍ خاص عزوف الاتحاد الإفريقي عن قبول انفصال الجمهورية دون موافقة مقديشو، التي ترفض الأمر بشكل قاطع.
ولم تكن هرجيسا معزولةً بالكامل، حيث تتمتع بعلاقات غير رسمية مع عدد من الدول، بينما تحرص الحكومات الغربية على دعم هذا المثال النادر للديمقراطية المستقرة والفعالة في منطقة القرن الإفريقي، لكن تداعيات حرب اليمن عززت آمال هرجيسا في ترجمة تلك العلاقات إلى اعتراف دولي كامل.
ويرى فيليبس أن الإمارات كانت العامل المحفز لذلك أيضاً، إذ سعت أبوظبي للحصول على المزيد من القواعد العسكرية من أجل التكامل مع قاعدة عصب، كجزءٍ من تركيزها على مسرح الأحداث في جنوب اليمن.
بينما يتمتع ميناء بربرة في أرض الصومال بموقع مثالي على الجانب المقابل لخليج عدن. وقد أبرمت الإمارات صفقة للاستحواذ على الميناء، ولا شك أن الحسابات العسكرية كانت المحرك الأول لاهتمام أبوظبي بالميناء، لكن فيليبس يؤكد أن المنطق التجاري القوي للصفقة كان موجوداً طوال الوقت، حيث ضغطت إثيوبيا على الإمارات للاستثمار في الميناء الذي تدرك أنه قد يصبح منفذاً رئيسياً لأديس أبابا، لأن إثيوبيا تُعَدُّ دولة حبيسة، ولطالما كانت تجارتها مقصورةً على جيبوتي.
وللمساعدة في هذا الصدد، استثمرت الإمارات مبلغ 442 مليون دولار في تطوير مرافق ميناء بربرة، واشتركت مع المملكة المتحدة في تمويل طريق إثيوبيا-بربرة السريع بتكلفة 400 مليون دولار لتسهيل التجارة.
ويعتقد فيليبس أن هذه الخطط ستوفر دفعةً لاقتصاد أرض الصومال، كما ستمنحها الرعاية الخارجية من دولتين قويتين مثل الإمارات وإثيوبيا. وستكون الإمارات وإثيوبيا على استعداد للدفاع عن أرض الصومال في مواجهة مطالبات الصومال، فضلاً عن الدعوة للاعتراف بها رسمياً في المستقبل.
كان تراجع انخراط أبوظبي في اليمن قد أدى إلى تقليل وجودها العسكري في عصب، بينما لم تبدأ العمليات في قاعدة بربرة مطلقاً، لكن العلاقات الدبلوماسية والتجارية التي أسستها الإمارات- والسعودية بدرجةٍ أقل- نتيجة صراع اليمن لا تزال قائمةً في منطقة القرن الإفريقي.
ولا يرى فيليبس ضمانات على استمرار تلك العلاقات في السنوات المقبلة، إذ ستعتمد الكثير من الأمور على ردود أفعال قادة إريتريا وأرض الصومال على تغير المناخ. لكن مكانتهما تحسّنت على المستوى الدولي بفضل حرب اليمن.
ويعتقد الكاتب البريطاني أن هذه النتائج تتضاءل عند مقارنتها بعدد الأرواح التي دمرتها الحرب في اليمن نفسه، لكنها تكشف كيف يمكن لصراعات من هذا النوع أن تُسفر عن تداعيات دراماتيكية وغير متوقعة في أماكن أخرى من العالم.