بالتزامن مع اشتباك قوات كبار القادة العسكريين في السودان، ظهرت تقارير تُفيد بأن مطار مروي -الواقع على بعد 320 كم شمال الخرطوم- يجري تجهيزه لوصول طائرة شحن تحمل شحنة أسلحة كبيرة. وكان من المفترض وصول الأسلحة الفتاكة إلى مجموعة فاغنر، جيش المرتزقة الروس الذي ينتشر في مساحات شاسعة من إفريقيا، كما يقول تقرير لصحيفة The Independent البريطانية.
وليس من المعروف ما إذا كانت مجموعة فاغنر قد تسلَّمت الأسلحة أم لا في مطار مروي، الذي وقع تحت سيطرة حليفها السوداني محمد حمدان دقلو "حميدتي" وقوات الدعم السريع، التي دخلت بدورها في مواجهة عنيفة ضد جيش البلاد بقيادة الجنرال عبد الفتاح البرهان.
كيف يتربّح "طباخ بوتين" ومجموعة فاغنر من الأزمة في السودان؟
يزعم بعض المسؤولين الأمنيين الأمريكيين أن فاغنر تشعل أحداث العنف في السودان، رداً على محاولات واشنطن لطرد المجموعة من البلاد. ورغم ذلك، يشكك بعض المسؤولين الغربيين والسودانيين في ما إذا كانت موسكو تريد زعزعة استقرار السودان فعلياً، نظراً لأنها على وشك إقامة استثمارات عسكرية كبيرة في البلاد، ويشمل هذا قاعدةً بحرية على البحر الأحمر.
ومن المعروف أن مجموعة فاغنر قد أقامت علاقات مربحة للغاية مع قوات الدعم السريع، بما في ذلك إنشاء سلاسل لتهريب الذهب من السودان إلى روسيا -مروراً بدبي وسوريا. بينما وجّهت المجموعة جزءاً كبيراً من أرباحها لتمويل العمليات في أوكرانيا، التي تكلف مجموعة فاغنر نحو 100 مليون دولار شهرياً.
وحصل مالك المجموعة يفغيني بريغوجين على لقب "طباخ بوتين"، بعد منح شركة التموين التي أسسها العديد من العقود الحكومية المربحة. كما يُقال إن بريغوجين هو مالك شركة M Invest المتحكمة في شركة Meroe Gold، وهي ثالث أكبر منتج للذهب في جنوب إفريقيا وتُعَدُّ من شركات التعدين التي تُوسع مصالحها سريعاً في السودان.
وقد وثّق تحقيق شبكة CNN الأمريكية 16 رحلة جوية عسكرية من السودان إلى روسيا، مروراً بمدينة اللاذقية الساحلية في سوريا وجمهورية إفريقيا الوسطى. ويُعتقد أن تلك الرحلات أسفرت عن نقل سبائك بقيمة ملياري دولار على مدار 18 شهراً، بحسب ما ذكرته الشبكة.
هل من مصلحة موسكو زعزعة الاستقرار في السودان؟
وكان الكرملين قد وافق على تصدير الأسلحة إلى البلاد وبناء قاعدة في بورتسودان، بموجب الاتفاق الموقع عام 2019 مع الرئيس السوداني السابق عمر حسن البشير. ولهذا فإن دعوات موسكو إلى وقف إطلاق النار في أحداث العنف الحالية ربما تكون صادقة، أو حتى مفيدةً لمصالحها الشخصية، كما تقول صحيفة ذي إندبندنت.
ويتمتع قائد قوات الدعم السريع دقلو بعلاقات قوية مع الحكومة الروسية ومجموعة فاغنر. حيث زار موسكو في 24 فبراير/شباط عام 2022، مع بداية الهجوم الروسي على أوكرانيا. ثم كرر الزيارة في سبتمبر/أيلول، بالتزامن مع ضغط السفير الأمريكي في الخرطوم جون غودفري على النظام السوداني لفسخ اتفاق القاعدة البحرية.
في ما يعمل صموئيل راماني كمراقب للشأن الروسي ومدرس في العلاقات الدولية بجامعة أكسفورد. ويؤمن راماني بأن مجموعة فاغنر تحافظ على أسلحتها في وضع الاستعداد داخل السودان. إذ قال: "يُمكنني القول إنهم يجلسون في وضع أكثر دفاعية، ولم يحصلوا على الضوء الأخضر من الكرملين للعب دور أكثر نشاطاً، ولهذا سيلزمون مواقعهم في الوقت الحالي على الأرجح. ومن المؤكد أننا سنشهد دوراً عسكرياً أكثر نشاطاً في حال اندلاع حرب أهلية، وتعرُّض مصالح بريغوجين في التعدين للتهديد".
تضارب مصالح بين الكرملين وفاغنر
لكننا نشهد تباعداً متزايداً في المصالح بين فاغنر وبين تسلسل القيادة في الكرملين. إذ كان بريغوجين يعمل في صمت أثناء نشر مقاتليه في الخارج من قبل، لكنه بدأ يسعى للأضواء على نحوٍ متزايد، ويهاجم الجيش الروسي بسبب استراتيجيته وتكتيكاته في أوكرانيا. وقد شارك في هذه الانتقادات القاسية الزعيم الشيشاني رمضان قديروف، الذي يشارك جنوده في الحرب أيضاً، بالإضافة إلى بعض المدونين العسكريين النافذين والمتشددين في روسيا.
وبدأت القيادة العليا في موسكو ردها على ذلك؛ حيث جرى تعليق حملة تجنيد السجناء بواسطة بريغوجين. بينما يطالب قادة بارزون بوضع فاغنر تحت تصرف الحرس الوطني، وقطع علاقة المجموعة المباشرة بوزارة الدفاع الروسية.
ولا شك أن محاولة التنبؤ بما يخفيه المستقبل لبريغوجين ستقودنا إلى طرح التساؤلات حول علاقته مع بوتين؛ إذ تؤكد بعض التقارير الروسية أن احتجاجات بريغوجين الصاخبة ضد الجيش تُمثِّل محاولة لإيصال صوته إلى الرئيس، في ظل انقطاع قنوات الاتصال المباشر بين الثنائي.
بينما يقول البعض إن بريغوجين لديه طموحاته السياسية الشخصية، التي قد تتضمن منصب الرئيس بوتين نفسه في المستقبل. حيث قال موقع الأخبار الروسي المستقل Meduza إنه يحاول السيطرة على حزب "روسيا العادلة"، بعد أن وصف زعيمه سيرغي ميرونوف أفعال فاغنر بـ"البطولية".
لكن موظف فاغنر السابق فيكتور نيكيتين، الذي رحل في الخريف الماضي ويعيش في جنوب أوروبا اليوم، نفى فكرة سعي بريغوجين لحكم روسيا.
وقال نيكيتين للصحيفة البريطانية: "لن يحدث ذلك. فهو دخيل على مؤسسة الحكم التي لن تقبل به، وسوف تحمي المؤسسة نفسها، وهو يعلم ذلك جيداً. فهل سيتحدى بريغوجين بوتين بشكلٍ مباشر؟ سيكون هذا التصرف شديد الحماقة والخطورة معاً".
ويضيف: "يمتلك بريغوجين الكثير من المال منذ وقتٍ طويل، وصار يتمتع اليوم بالنفوذ في زمن الحرب. لكن هذا النفوذ لن يدوم داخل روسيا في وقت السلم. ويمكنه الحصول على نفوذ سياسي في الخارج. وربما يحاول إدارة بلدٍ صغير في إفريقيا عبر الدمى السياسية مثلاً. لكن أعتقد أنه سيظل داخل روسيا ويحاول إعادة بناء علاقات جيدة مع الحكومة؛ إذ سيحتاج إلى الحكومة حتى يتمكن من جني المال في الدول الأجنبية".
تجارة نشر قوات فاغنر في إفريقيا
يُذكر أن نشر قوات فاغنر في الخارج جاء متبوعاً بعقود تجارية مربحة للغاية. ففي سوريا، وافق الكرملين على اتفاق يخص المصالح التجارية الروسية، ويضمن حصولها على حقوق النفط والغاز والتعدين في المواقع المستردة من تنظيم الدولة الإسلامية (داعش). وجرى التعاقد مع فاغنر بواسطة الشركات من أجل الاستيلاء على تلك المواقع، قبل أن تحصل المجموعة على حصتها من الأرباح.
ثم أبرم بريغوجين صفقات مع نظام الأسد مباشرةً في وقت لاحق. وحققت شركة EvroPolis التي يمتلكها إيرادات تقدر بـ162 مليون دولار في عام واحد، وذلك من حقل غاز الشاعر بالإضافة إلى ثلاثة مواقع أخرى.
وفي عام 2018، أرسلت موسكو مجموعة فاغنر لدعم خليفة حفتر في ليبيا، حيث يتمركز غالبية المرتزقة اليوم في محيط حقول النفط التي يسيطر عليها حفتر.
وتُعَدُّ ليبيا مركزاً لعمليات فاغنر في جمهورية إفريقيا الوسطى ومالي، حيث يحل المرتزقة محل القوات الفرنسية والبريطانية والغربية. ونشرت المجموعة قواتها في مالي للمرة الأولى بموجب صفقة بقيمة 11 مليون دولار شهرياً، مقابل تدريب ودعم القوات المحلية. وقد زار وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف مالي في شهر فبراير/شباط، عقب زيارته للسودان.
ولم يتضح كيف ستدفع مالي -التي تعاني ضائقةً مالية- لمجموعة فاغنر، أو كيف ستسدد ثمن المشتريات العسكرية. وتزعم جماعات المجتمع المدني والمعارضة أن هناك صفقات سرية قد أُبرِمَت لمنح حقوق التعدين، وأن الألماس والذهب يجري تهريبه خارج البلاد.
معادن إفريقيا النفيسة بين يدي قوات فاغنر الروسية
استولت مجموعة فاغنر على منجم ذهب بدائي في جمهورية إفريقيا الوسطى عام 2020، ثم حوّلته إلى مجمع صناعي. وفي العام نفسه، ألغت وزارة المناجم في البلاد رخصةً ممنوحة لشركة كندية، ومنحت امتيازاً لمدة 25 عاماً لشركة مسجلة في مدغشقر تحت اسم Midas Resources، وهي شركة مملوكة لبريغوجين. ووصل إجمالي أرباح فاغنر من التعدين في جمهورية إفريقيا الوسطى إلى نحو مليار دولار حتى الآن.
ودخلت فاغنر في مجال الأخشاب أيضاً. حيث حصلت شركة Bois Rouge، التي يقع مقرها في سانت بطرسبرغ ويملكها أشخاص مقربون من بريغوجين، على رخصة مدتها 30 عاماً لإدارة غابات حوض الكونغو. كما تتعامل هذه الشركة تجارياً مع شركة Meroe Gold في السودان.
ويُعتبر حوض الكونغو من أكبر الغابات المطيرة غير المستغلة في العالم. ويقول المحللون إن استغلال 30% فقط من مساحته سيؤدي إلى كارثةٍ بيئية، لكنه سيُدر 900 مليون دولار تقريباً في الأسواق الدولية.
وتحدثت الصحيفة البريطانية إلى موظف سابق في شركة فاغنر هو رومان، الذي التقت به الصحيفة للمرة الأولى في سيمفروبول بشبه جزيرة القرم عام 2014. وقد أخبر رومان مراسل الصحيفة بحجم التغيير الذي طرأ على المجموعة منذ ذلك الحين.
إذ يعيش رومان في البلقان اليوم، ويقول: "كنا هادئين للغاية في تلك الفترة، ولم نكن نحب الدعاية. لكن الحرب جعلت فاغنر تخسر الكثير من المال، في ما قرر بريغوجين أن يصبح مشهوراً. وقرر كذلك أن يعادي بعض الأشخاص من ذوي النفوذ، ودائماً ما ينطوي هذا الأمر على خطورة".