كان مشهد المصلين في العشر الأواخر من رمضان وفي صلاة العيد مهيباً، وبدد المخاوف من أن حكومة بنيامين نتنياهو المتطرفة سوف تفسد هذه الأيام المباركة باستفزاز الفلسطينيين، وإشعال الأوضاع في المسجد الأقصى وصولاً لمحاولة تغيير وضعه وفرض التقسيم الزماني والمكاني به.
ولكن مرت هذه الأيام بهدوء نسبي مقارنة بالسنوات الماضية، حسبما ورد في تقرير لصحيفة Haaretz الإسرائيلية، وهو الأمر الذي قد يبدو غريباً ليس فقط لأن حكومة نتنياهو هي الأشد تطرفاً في تاريخ إسرائيل، بل لأنها في مأزق بسبب الغضب الداخلي من الانقلاب القضائي، الأمر الذي يجعلها في حاجة لافتعال معركة خارجية مع الفلسطينيين، كما جرت العادة في الدولة العبرية.
وتقول الصحيفة: "كما نعرف جميعاً، يُنسب الفضل في النجاح إلى أطراف عدة، لكن الفشل يتيمٌ فلا يُنسب إلى أحد. فلو انفجر نوع من الثوران خلال شهر رمضان وأدى إلى صدام واضح كامل، مثلما حدث في مايو/أيار 2021، لاتجهت حكومة نتنياهو لاتخاذ إجراءات أشد عنفاً، مُتذرعةً بحجة الحفاظ على الأمن".
في الوقت ذاته، كان أعضاء مجلس الوزراء الإسرائيلي الأمني -ومن بينهم ذلك الداعي إلى تأسيس ميليشيا مسلحة وتسميتها "الحرس الوطني" (إيتمار بن غفير وزير الأمن القومي) والآخر الذي يدعو إلى محو قرية حوارة الفلسطينية من الوجود (وزير المالية الإسرائيلي بتسلئيل سموتريتش)- سيلقون اللوم على الفلسطينيين، ومواطني إسرائيل العرب، وكل مصوت يساري، لصرف الانتباه عن الأزمات الداخلية التي ورطوا البلاد فيها.
فصائل المقاومة وجيش الاحتلال تجنبا التصعيد عقب إطلاق صواريخ من غزة
برغم المحاولات المتكررة التي يبذلها القادة السياسيون الإسرائيليون لتقديم شهر رمضان على أنه تربة خصبة للعنف المنفلت، اتضح أن الجيش الإسرائيلي ومؤسسة الحكم يملكان قدرات تهدئة التوترات عن طريق اتخاذ قرارات ملموسة على الأرض.
عملياً، وقع أهم حادث في شهر رمضان الماضي -وهو إطلاق صواريخ من قطاع غزة وجنوب لبنان نحو إسرائيل- عندما شنت قوات الأمن الإسرائيلية هجوماً عنيفاً على المصلين في المسجد الأقصى. لكن استجابة إسرائيل المحسوبة، المماثلة لرد الفعل المضاد الضعيف من غزة وضبط النفس الهادئ من حزب الله في لبنان، أثبتت أن الأطراف لم تكن مهتمة بالتخلي عن قواعد اللعبة.
4 ملايين شخص صلوا في يالمسجد الأقصى خلال رمضان في رسالة واضحة للاحتلال
وفقاً لإدارة أوقاف القدس، زار نحو 4 ملايين شخصٍ المسجد الأقصى خلال شهر رمضان، وبلغ الرقم في ليلة السابع والعشرين من رمضان، التي يُعتقد أنها ليلة القدر، نحو 280 ألف شخص.
وقالت الصحيفة الإسرائيلية "إن مرور تلك الليلة بدون أي حادث أمني استثنائي، تثبت أن عديداً من المصلين الذين جاءوا لم يبحثوا عن مواجهات غير ضرورية مع قوات الأمن في إسرائيل"، حسب مزاعم الاحتلال التقليدية.
ومع ذلك، وبرغم الهدوء، لا يمكن تجاهل الرسالة التي تبينها هذه الأرقام. أوضح مئات الآلاف من المصلين -ولأي شخص اعتقد غير ذلك- أن هناك إجماعاً على مكانة الأقصى، ليس فقط بين الفلسطينيين، بل بين العالم الإسلامي والعربي كله، حسب تقرير Haaretz.
قادة عرب 48 فضلوا إرسال المصلين للقدس بدلاً من الاحتجاج في الداخل
كذلك انضم آلاف من الفلسطينيين المسلمين من عرب 48 إلى الفلسطينيين من القدس والضفة الغربية. جاء كذلك عدد أصغر من المسيحيين إلى القدس لاحتفالات النار المقدسة في كنيسة القيامة، والتي امتدت لعشرات الحواجز.
دعت لجنة المتابعة العليا للجماهير العربية إلى احتجاجات، لكن الاستجابة على الأرض عملياً كانت صغيرة.
نُظمت تظاهرات قليلة في مجتمعات الجليل ووادي عارة، لكنها لم تنتشر إلى المدن المختلطة بين العرب واليهود. ولم يدع رؤساء البلديات العرب إلى احتجاجات محلية، وفضلوا تشجيع الجماهير من فلسطينيي الداخل على القدوم إلى حرم المسجد الأقصى.
ويبدو أنهم لم يرغبوا أيضاً في رؤية مشاهد العنف التي على شاكلة الصدامات التي اندلعت خلال عملية حارس الجدار العام الماضي (والتي أطلقت عليها المقاومة سيف القدس)، وجاءت رداً على محاولات اقتحام الأقصى من قبل المتطرفين اليهود.
هكذا استطاعت المقاومة ومجمل الفلسطينيين إيجاد أدوات لردع إسرائيل
ما لم تقله الصحيفة الإسرائيلية هو أن ضبط النفس الإسرائيلي هذا قد يكون سببه قدرة المقاومة الفلسطينية، سواء عبر الفصائل في غزة أو المجموعات الشبابية العفوية بالضفة، على خلق توازن للقوى مع ممارسات الاحتلال، خاصة في مسألة الاعتداء على الأقصى.
فهبَّة فلسطينيي 48 بعد الممارسات بحق الأقصى العام الماضي، ومسارعة حماس لإطلاق صاروخ على مسيرة للمتطرفين كانت تتوجه للمسجد، وما أعقبها من صمود لغزة ضد العدوان الإسرائيلي وأداء عسكري لفصائل المقاومة على رأسها كتائب عز الدين القسام، جعلت تل أبيب تتيقن أنه لا يمكن ضمان محاصرة ردود الفعل الفلسطينية على الإساءة للأقصى، خاصة بعد أن شهدت الضفة خلال بداية العام الحالي والعام الماضي، ردود فعل عفوية من مجموعات المقاومة الشبابية على أي اعتداء إسرائيلي.
ولكن عرب الداخل يشكون من عصابات الجريمة المنظمة
ومع ذلك، لا يزال المجتمع العربي في إسرائيل (أراضي 48)، غارقاً في موجات من العنف، حسب الصحيفة الإسرائيلية.
فمنذ بداية العام، اغتيل 54 فلسطينياً، مقارنة بمقتل 23 فلسطينياً خلال الفترة نفسها من عام 2022. ومع نهاية العطلة، سوف تتسارع الانتخابات المحلية إلى وتيرة أعلى، ومعها سوف تسرّع وتيرتَها جماعاتُ الجريمة المنظمة في المجتمعات العربية، التي تسعى إلى التأثير على نتائج التصويت.
ومثل هذا النشاط قد يؤدي إلى تفاقم العنف في المجتمعات العربية، مما يعني أن الشرطة يجب عليها أن تُصعّد من معركتها ضد الجريمة داخل مجتمعات فلسطينيي 48.
ويتهم نشطاء عرب الداخل الشرطة الإسرائيلية بتعمد تجاهل التصدي لظاهرة عصابات الجريمة المنظمة داخل مجتمعاتهم.
وتقول صحيفة Haaretz الإسرائيلية إن هذه هي الطريقة الوحيدة التي تثبت بها الشرطة لعرب إسرائيل أنها تراهم مواطنين متساوين، لا مجرد مشكلة أمنية تهدد البلاد، سواء قبل شهر رمضان أو بعده.