وقع السودان في براثن الصراع على السلطة، وباتت الحرب الأهلية الممتدة الاحتمال الأكثر ترجيحاً، وسارعت أمريكا وحلفاؤها وباقي الدول إلى إجلاء مواطنيها، فلماذا تخلى الغرب عن حل الأزمة عندما كان ذلك ممكناً؟
كان السودان قد شهد، منذ يوم 15 أبريل/نيسان، انفجاراً عنيفاً في الموقف المتوتر بين الرجلين القويين المتنافسين على السلطة في البلاد: الجنرال عبد الفتاح البرهان، الحاكم الفعلي للبلاد وقائد القوات المسلحة السودانية، والجنرال محمد حمدان دقلو، المعروف على نطاق واسع باسم حميدتي، الذي يقود قوات الدعم السريع؛ حيث بدأت حرب شوارع في الخرطوم، ثم امتدت إلى جميع أنحاء البلاد.
وبعد أن فشلت محاولات إقناعهما بوقف إطلاق النار، وافق طرفا الصراع مساء الإثنين على هدنة جديدة لمدة 72 ساعة اعتباراً من الثلاثاء 25 أبريل/نيسان، لإفساح المجال للدول الغربية والعربية والآسيوية لإجلاء رعاياها من البلاد.
كيف "تخلّت" أمريكا والغرب عن السودان؟
أصدر وزير الخارجية الأمريكي تصريحات كثيرة بشأن الوضع في السودان منذ اندلاع الكارثة الحالية، كان آخرها ما يتعلق بضغط أمريكي على طرفي الصراع للموافقة على هدنة واحترامها كي يتم إجلاء الرعايا الأمريكيين والأجانب، وهو ما يناقض تصريحاته الأولية قبل 10 أيام عندما شدد على أنه لن تكون هناك عمليات إجلاء وأن الجهود تتركز على "وقف فوري لإطلاق النار والعودة إلى المسار السياسي".
على الأرجح أن الوزير الأمريكي وزملاءه الدبلوماسيين الغربيين قد بذلوا ما في وسعهم لوقف إطلاق النار، لكن القطار كان قد غادر المحطة بالفعل فوصلوا متأخرين، أي أن فرصة هذه المحاولات لم تعد موجودة، فهل كانت هناك فرصة سانحة لتجنيب السودانيين ويلات الاقتتال الداخلي من الأساس؟
مجلة Foreign Policy الأمريكية قدمت إجابة مباشرة عن هذا السؤال في تحليل لها بعنوان "السياسات الأمريكية مهّدت الطريق للحرب في السودان"، رصد كيف فوّتت واشنطن وحلفاؤها الغربيون الفرصة على السودانيين الطامحين إلى التخلص من الحكم العسكري، من خلال التركيز على المصالح الغربية الضيقة في اللحظات الحاسمة.
والحقيقة نفسها أكدت عليها صحيفة The Independent البريطانية في تحليل عنوانه "في لحظة مفصلية، كان يمكن للغرب أن ينقذ السودان، لكنه لم يفعل!"، رصد أيضاً كيف أن الغرب كان يمكنه مساعدة السودان على الانتقال من الحكم العسكري إلى الحكم المدني، لكنهم أفسدوا الأمر تماماً.
هذه اللحظة المفصلية يرجع تاريخها إلى 4 سنوات مضت، عندما أجبرت الثورة الشعبية في السودان القيادات العسكرية على عزل الرئيس عمر البشير، الذي حكم البلاد لثلاثة عقود بالحديد والنار، وتسبب ذلك في إفقار السودانيين ونهب ثرواتهم وخسارة خاصرتهم الجنوبية بعد انفصال جنوب السودان، إضافة إلى التمرد الدموي في دارفور.
في تلك اللحظة، التي يرجع تاريخها إلى أبريل/نيسان 2019، انفتحت نافذة الأمل على مصراعيها وبدا طريق الانتقال إلى الحكم الديمقراطي أو على الأقل الحكم المدني ممهداً. "وربما إذا اهتم المجتمع الدولي وقتها بالانخراط بفعالية مع الأوضاع في السودان، أو غلب الجنرالات مصلحة البلاد على مصلحتهم الشخصية"، لتحققت تلك الآمال بسهولة.
لكن، كما تقول الصحيفة البريطانية في تحليلها، تخلّى الغرب عن السودان في مفترق الطرق ذاك، واستغل الرئيس الأمريكي السابق، دونالد ترامب، الموقف لتحقيق مصلحة سياسية شخصية بدلاً من توفير الدعم لإنجاح التجربة الديمقراطية الهشة في الدولة العربية الإفريقية.
كان ترامب قد مارس ما وصفه أغلب المراقبين والمحللين بالضغوط والابتزاز على السودان للموافقة على التطبيع مع إسرائيل، وظل يماطل في رفع العقوبات التي كانت مفروضة على نظام عمر البشير حتى تعلن الخرطوم موافقتها على ما أسماها ترامب "اتفاقيات أبراهام". وأدى ذلك الموقف إلى تعقيد الأمور في السودان أكثر مما كانت عليه، ليتدهور الموقف الاقتصادي وتخفت الآمال في تحقيق الانتقال إلى الحكم المدني.
المعايير الغربية المزدوجة
في الأيام والأشهر التي تلت عزل البشير، كان الموقف في السودان متسماً بالسيولة التامة والانفتاح على جميع الاحتمالات، لكن المعنويات كانت مرتفعة والأمل في تحول حقيقي نحو إرساء حكم مدني يبدو شاباً ومفعماً بالحيوية، وكان الهم الأكبر في تلك اللحظة هو الأعباء الاقتصادية.
وكان وضع أمريكا السودان على القائمة السوداء (للدول الراعية للإرهاب) هو حجر العثرة أمام انطلاق الاقتصاد السوداني، فالشركات والمؤسسات المالية العالمية تحجم عن الاستثمار في السودان؛ حيث وفرة الموارد الطبيعية؛ زراعية كانت أو حيوانية أو معدنية من خيرات الأرض كالذهب في جبل عامر. وكان الدكتور عبد الله حمدوم، رئيس الحكومة الانتقالية، خبيراً اقتصادياً له شأنه دولياً.
تلك هي اللحظة المفصلية التي "تخلت" فيها أمريكا وباقي حلفائها الغربيين عن السودان. كان بإمكانهم أن يفتحوا الأبواب أمام الاستثمارات في السودان وتحسين الاقتصاد ورفع مستوى معيشة السودانيين، وهو ما كان من شأنه أن يقوي المدنيين في البلاد ويسرع المسار الانتقالي، لكن ذلك لم يحدث.
ظل ترامب يماطل في رفع السودان من القائمة السوداء، راهناً تلك الخطوة المنطقية والبديهية بموافقة السودانيين على التطبيع مع إسرائيل. وظل قادة الغرب يتحججون بتلك العقبة على الرغم من زيارات حمدوك إلى واشنطن وبروكسل ولندن باقي العواصم الغربية لشرح الموقف الخطير.
وهكذا تعامل ترامب والغرب مع تلك اللحظة المفصلية في السودان على أنها "لحظة سانحة" لتحقيق مصلحة ما بالنسبة لهم. فأصر رجل الصفقات (ترامب) على أن توقع الخرطوم أولاً على "اتفاقيات أبراهام" للتطبيع مع إسرائيل، بل وأن تدفع الخرطوم 335 مليون دولار كتعويضات لأهالي ضحايا هجمات إرهابية عامي 1998 و2000، اتهمت واشنطن نظام البشير بالضلوع فيها، وذلك قبل رفع السودان من القائمة السوداء.
وحتى بعد أن غادر ترامب البيت الأبيض وتولى الرئيس الحالي، جو بايدن، قيادة "العالم الحر"، وأعلن عودة أمريكا ووضع "الديمقراطية وحقوق الإنسان" عنواناً لسياسة بلاده الخارجية، لم يجد السودانيون مكاناً لهم ضمن "أولويات" أمريكا. فلا الشرق الأوسط، الذي يعتبر السودان جزءاً منه، ولا إفريقيا، التي يعتبر السودان أيضاً جزءاً منها، كان لهم نصيب من اهتمام بايدن، الذي صبّ تركيزه على الصراع مع روسيا والصين.
وحتى عندما وقع الانقلاب الأخير في السودان، في أكتوبر/تشرين الأول 2021، وأطاح البرهان بالحكومة المدنية برئاسة حمدوك وبالمرحلة الانتقالية برمّتها وأعاد السودان إلى لحظة أخرى مفصلية، لم تحرك واشنطن ولا الغرب ولا المجتمع الدولي برمته ساكناً، لتفقد القوى المدنية في البلاد زخمها أكثر وأكثر، في ظل إطباق الأزمة الاقتصادية على السودانيين وتبخر أحلام التحول الديمقراطي. فأين ذهب حديث الديمقراطية وحقوق الإنسان الذي لا يكل الغرب عن ترديده ليلاً ونهاراً؟
"تقاعس" الغرب عندما انفجر الموقف في السودان
وحتى عندما استيقظ السودانيون والعالم، السبت 15 أبريل/نيسان الجاري، على انفجارات القنابل والقذائف وأصوات الصواريخ، لم يحرك المجتمع الدولي ساكناً، باستثناء التصريحات الدبلوماسية التي تطالب طرفي الصراع بوقف إطلاق النار، وهي تصريحات لا تسمن ولا تغني من جوع بطبيعة الحال.
وعلى الرغم من دخول القتال الدامي أسبوعه الثاني، لم يجتمع مجلس الأمن الدولي ولو على سبيل ذر الرماد في العيون، لمناقشة الموقف، كما يحدث عادة في مثل هذه الأمور. ولم يعلن عن انعقاد المجلس لمناقشة "الأوضاع في السودان" إلا بعد الإعلان عن هدنة لإجلاء الرعايا الأجانب، وهكذا تقرر عقد الاجتماع الثلاثاء 25 أبريل/نيسان.
اللافت هنا هو أن الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، ناشد أعضاء مجلس الأمن الدولي الخمسة عشر استخدام نفوذهم لإنهاء العنف وإعادة السودان إلى طريق الانتقال الديمقراطي، مضيفاً أن العنف بين الفصيلين المتناحرين "ينذر بتصاعد كارثي للحرب في السودان يمكن أن يمتد إلى المنطقة بأسرها وإلى خارجها".
لكن سبق السيف العذل، كما يقول المثل العربي؛ إذ لا توجد مؤشرات على امتلاك المجتمع الدولي أوراقاً للضغط أو إحداث تأثير يذكر على الصراع الدموي في السودان، حسبما اتفق ضيوف حلقة برنامج "ما وراء الخبر" على قناة الجزيرة، رداً على تصريح مسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي، جوزيب بوريل، بأن دول الاتحاد ستواصل الدفع من أجل تسوية سياسية للصراع الجاري في السودان، رغم إجلاء الدبلوماسيين والمواطنين الأوروبيين منه.
الدكتور عبد الحميد صيام، متحدث سابق باسم الأمم المتحدة وخبير في شؤونها، قال إن قدرة المجتمع الدولي على التأثير في الصراع ضئيلة، وإن أغلب الدول لا تأثير لها على طرفي الصراع في السودان، وإن أصدرت تصريحات تتعلق بالأحداث الجارية فيه.
"هناك دول محددة لها دور في الوضع السوداني، خاصة دول الخليج، وحتى هذه الدول التي لها علاقات مميزة مع الطرفين أو أحدهما، إمكانياتها في هذه المرحلة للضغط على الطرفين تكاد تكون معدومة، لأن كل طرف قرر الانتصار عسكرياً على الآخر".
ويرى أغلب الخبراء الآن أن الصراع على السلطة في السودان تحوَّل إلى معادلة صفرية تماماً بين حميدتي والبرهان، بمعنى أن كليهما يدرك الآن أن استمراره لن يتم إلا بإزاحة الآخر.
وفي هذا السياق، اعتبر صيام أن الجهود الحالية المنصبة على إجلاء المدنيين، وما تقوم به الدول في هذا السياق، دليل شؤم بأن المواجهات ستستمر، وأنه ربما يتكرر سيناريو جنوب السودان بين سلفاكير ومشار؛ حيث استمرت المواجهات سنتين أو أكثر، وهذا ما لا يمكن أن يتحمله السودان في ظل تدهور أوضاعه الإنسانية بشكل كبير.
الخلاصة هنا هي أن أمريكا والغرب والمجتمع الدولي تخلّوا تماماً عن السودانيين عندما كان التحول إلى الحكم المدني ممكناً، ثم تقاعس الجميع أيضاً عن التحرك بجدية لإيقاف القتال الحالي عندما اندلع، فوصلت الأمور إلى ما وصلت إليه، وسارع الجميع بإجلاء مواطنيهم، تاركين السودانيين لمصيرهم المحتوم.