لليوم العاشر تواليا، يستمر القتال في السودان بين الجيش بقيادة البرهان والدعم السريع بقيادة حميدتي، وتتواصل عمليات إجلاء الأجانب، بينما عاد "جبل عامر" للواجهة مرة أخرى، فما قصة تلال الذهب هناك، ومن يسيطر عليها؟
كان السودان يوم 15 أبريل/نيسان قد شهد انفجار الموقف المتوتر بين الرجلين القويين المتنافسين على السلطة في البلاد: الجنرال عبد الفتاح البرهان، الحاكم الفعلي للبلاد وقائد القوات المسلحة السودانية، والجنرال محمد حمدان دقلو، المعروف على نطاق واسع باسم حميدتي، الذي يقود "قوات الدعم السريع"، حيث بدأت حرب شوارع في الخرطوم، ثم امتدت إلى جميع أنحاء البلاد.
ومع استمرار القتال لليوم العاشر، وفشل الهدنة 3 مرات، وإجلاء الدول رعاياها، بات شبح تحول القتال إلى حرب أهلية قد تمتد لأشهر وربما سنوات، على غرار ما حدث في اليمن، تثار تساؤلات متعددة حول التداعيات الكارثية داخل السودان وفي المنطقة وحول العالم.
جبل عامر.. تلال الذهب في دارفور
أحد أسئلة هذه الحرب الكارثية مرتبط بشقها الاقتصادي، في ظل مؤشرات تحولها إلى حرب أهلية ممتدة، وهنا يأتي دور جبل عامر وتلاله العامرة بالذهب، فما قصة ذلك الجبل؟
"جبل عامر" عبارة عن منطقة استراتيجية تقع في شمال دارفور وقد لعبت دوراً جوهرياً في رسم الخريطة السياسية بالسودان منذ انفصال الجنوب الغني بالنفط عن الشمال عام 2011.
بعد الانفصال، بدأ السودان في البحث عن بدائل، فوجد ضالته في التعدين وخاصة الذهب، وهنا تكمن الأهمية الحقيقية لجبل عامر الواقع في منطقة السريف بني حسين في ولاية شمال دارفور.
فقد تم اكتشاف الذهب في تلال جبل عامر من قبل معدنين متجولين في أبريل/نيسان 2012، أي قبل 11 عاماً تقريباً، ومنذ ذلك الوقت تحولت المنطقة إلى أغلى مورد طبيعي في البلاد. لكن بمجرد أن انتشر خبر وجود الذهب بوفرة في تلك المنطقة، توافد عليها الباحثون عن الثروة، ليس فقط من مختلف أنحاء السودان ولكن أيضاً من إفريقيا الوسطى وتشاد والنيجر ومالي ونيجيريا.
وتم إطلاق اسم "سويسرا" على أحد مناجم جبل عامر، كناية على احتوائه على مخزون ضخم من الذهب. وهكذا وفي غضون وقت قصير، تحول جبل عامر إلى واحدة من أكثر المناطق خطورة بسبب انتشار الجماعات والعصابات المسلحة.
لكن هذه الثروات الطائلة التي جادت بها أرض السودان لم تؤد إلى انتشال أهله من الفقر والبطالة، حيث سعت الأطراف الأقوى والنافذة إلى السيطرة على ذهب جبل عامر وتوظيفه لمصالحها الخاصة بطبيعة الحال.
ومنذ بدايات اكتشاف الذهب في منطقة جبل عامر، وضعت ميليشيات الجنجويد، التي كان يقودها في ذلك الوقت موسى هلال، يدها على المنطقة بعد قتال عنيف مع قبيلة بني حسين، سكان الجبل الأصليين. وأصدرت الأمم المتحدة تقريراً يشير إلى أن الذهب المستخرج من جبل عامر كان يتم تهريبه إلى الإمارات، من خلال شبكة تضم قيادات ميليشيات الجنجويد ومسؤولين أمنيين في نظام الرئيس المعزول عمر حسن البشير.
وخلال عام 2012 فقط، تشير التقارير إلى أن المناجم التقليدية الصغيرة في السودان استخرجت من الذهب ما تزيد قيمته عن 1.3 مليار دولار. وبحسب تقرير لرويترز، وصل الإنتاج من جبل عامر نحو 50 طناً من الذهب سنوياً، وهو ما يجعله ثالث أكبر منجم ذهب في إفريقيا.
سيطرة حميدتي على مناجم الذهب
منذ اللحظة الأولى لاكتشاف تلك الثروات الهائلة، فرضت ميليشيات الجنجويد سيطرتها المطلقة على منطقة جبل عامر، وبعد أن تولى محمد حمدان دقلو الشهير بحميدتي قيادة تلك الميليشيات، التي أصبح اسمها قوات الدعم السريع وأصبح حميدتي يحمل رتبة عسكرية رسمية، أحكم قبضته تماماً على هذا المصدر الهائل للتفوق الاقتصادي.
وبفضل هذا المصدر الضخم، أصبح حميدتي، بعد الإطاحة بالبشير، يحمل رتبة فريق أول ومنصباً رسمياً رفيعاً هو نائب رئيس مجلس السيادة، خلف قائد الجيش عبد الفتاح البرهان.
وكان تحقيق استقصائي لوكالة رويترز، نشر في 27 نوفمبر/تشرين الثاني 2019، قد سلط الأضواء على ملفات جديدة في قضية جبل عامر، احتل فيها اسم حميدتي العنوان الأبرز. وبحسب التقرير، فإن حميدتي، الذي كان يتهم رجال البشير بالتربح على حساب الشعب، كانت شركة تملكها أسرته تنقل سبائك ذهب بملايين الدولارات إلى دبي. إلا أن حميدتي نفى، في رد على طلب رويترز التعليق على هذا التقرير، عبر مكتبه، صحة المعلومات الواردة في التقرير.
ونقل التقرير عن مسؤولين حاليين وسابقين ومصادر من قطاع الذهب قولهم إنه عام 2018، عندما كان الاقتصاد السوداني ينهار، أطلق البشير يد حميدتي في بيع الذهب، عن طريق مجموعة الجنيد التي تملكها أسرته.
وقالت نحو ستة مصادر لرويترز إن مجموعة الجنيد كانت في بعض الأحيان تتجاوز قواعد البنك المركزي المنظمة لتصدير الذهب، وفي أحيان أخرى كانت تبيعه للبنك المركزي نفسه بسعر تفضيلي. بيد أن متحدثاً باسم البنك المركزي قال إنه ليس لديه علم بالأمر، الأمر الذي يزيد من ضبابية هذه القضية. بينما قال تقرير رويترز إن فواتير الطيران وقسائم الدفع، التي اطلعت عليها الوكالة، ألقت الضوء على تعاملات شركة الجنيد.
وفي السابق كان حميدتي يتحدث صراحة عن امتلاك أعمال في قطاع الذهب، وتحدث عن ذلك مؤخراً في مقابلة مع هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي.سي) في أغسطس/آب الماضي.
وبحلول عام 2017، بلغت مبيعات الذهب 40 في المئة من صادرات السودان، وكان حميدتي حريصاً على السيطرة عليها. وكان يمتلك بالفعل بعض المناجم، ولكن عندما تحدى موسى هلال الرئيس السابق البشير ومنع الحكومة من الوصول إلى مناجم جبل عامر، قامت قوات حميدتي بشن هجوم مضاد على قوات هلال، وفي نوفمبر/تشرين الثاني 2017، اعتقلت قواته هلال، واستولت قوات الدعم السريع على مناجم الذهب بشكل منفرد، بحسب تقرير لهيئة الإذاعة البريطانية BBC.
ماذا يعني الذهب بالنسبة لحرب السودان؟
وظف حميدتي، خلال السنوات الماضية، مناجم الذهب في جبل عامر سياسياً أيضاً، وليس اقتصادياً فقط. فالأموال الطائلة التي يجنيها تساعد في تسليح قواته وزيادة أعدادها من جهة، إضافة إلى توطيد علاقاته بلاعبين إقليميين مثل الإمارات ولاعب دولي كبير مثل روسيا.
إذ تشير التقارير إلى وجود علاقة قوية بين حميدتي وموسكو وتنسيق كبير مع مرتزقة فاغنر العاملين في إفريقيا، وقضى حميدتي أسبوعاً في روسيا خلال الربيع الماضي، دافع خلال إقامته عن هجوم بوتين على أوكرانيا، وقال إنه منفتحٌ على فكرة بناء موسكو لقاعدة بحرية على ساحل البحر الأحمر السوداني، بحسب موقع Middle East Eye البريطاني.
وكان حميدتي قد تحدث، في الرابع من يناير/كانون الثاني الماضي، عن الصراع في جمهورية إفريقيا الوسطى، وهو ما زاد التكهنات المتواصلة حول دور قوات الدعم السريع وفاغنر الروسية في الصراع الدائر داخل البلد المجاور.
وبالتالي فإن ذهب جبل عامر يمثل سلاحاً قوياً في الصراع على السلطة المستعر حالياً في السودان بين الجيش وقوات الدعم السريع، وبما أن حميدتي هو المسيطر الأول على هذا الذهب، فهو يمتلك سلاحاً لا يستهان به بطبيعة الحال. وبعد أن كان لجبل عامر وذهبه دور رئيسي في تأجيج الصراع الدامي في دارفور، يبدو أنه سيلعب دوراً رئيسياً أيضاً في الصراع الحالي بين البرهان وحميدتي.
وكانت محاولات الأطراف إحكام سيطرتها على المنطقة قد تسببت في تشريد عشرات الآلاف من السكان من قبل، كما لقي العشرات مصرعهم بسبب انهيار آبار الحفر أو التسمم بالزئبق أو السيانايد المستخدم في معالجة وتنقية الذهب الخام.
ومن الواضح الآن أن ذهب جبل عامر يلعب دوراً رئيسياً في تأجيج الصراع الحالي كذلك، إذ تشير التقارير إلى دعم إماراتي ضخم لقوات حميدتي، وعرض روسي بإرسال أسلحة متطورة لمساعدته أيضاً، مما يشير إلى أن معاناة السودانيين قد تستمر طويلاً.
وأجلت القوات المسلحة في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة موظفي سفارتي البلدين من السودان، كما سارعت دول أخرى لنقل رعاياها إلى بر الأمان، في ظل استمرار القتال بين الجيش والدعم السريع في العاصمة الخرطوم، وهو القتال الذي أودى بحياة 240 قتيلاً، حتى مساء الأحد 23 أبريل/نيسان، وحال دون حصول ملايين السودانيين على الخدمات الأساسية.
ومع محاولة الناس الفرار من الفوضى، بدأت بعض الدول في إنزال طائرات وتنظيم قوافل في الخرطوم لإخراج رعاياها، وأصيب بعض الأجانب. وأفاد مراسل لرويترز بسماع دوي إطلاق نار في أنحاء العاصمة وتصاعد الدخان الأسود في السماء.
وتبادل الجيش السوداني وقوات الدعم السريع الاتهامات بمهاجمة قافلة فرنسية، وقال الجانبان إن فرنسياً أصيب. ولم تعلق وزارة الخارجية الفرنسية على تلك التقارير. وكانت الوزارة ذكرت في وقت سابق أنها ستجلي دبلوماسيين ومواطنين.
وتسببت جهود إجلاء الرعايا الأجانب من السودان في إحباط بعض السودانيين الذين شعروا أن الفصيلين المتناحرين لم يبديا هذا القدر من الاهتمام بسلامتهم. بينما وردت تقارير عن أعمال العنف الأسوأ من دارفور، حيث يقع منجم "سويسرا" للذهب في جبل عامر، بينما أعلنت وزارة الخارجية السويسرية أن سويسرا أغلقت سفارتها في العاصمة السودانية الخرطوم وأجلت موظفيها وعائلاتهم بسبب الوضع الأمني الحالي هناك.