تدريجياً تتحول القضية الفلسطينية لقضية داخلية أمريكية، بين مؤيد ومعارض لها، بعد أن كان دعم فلسطين في أمريكا وانتقاد إسرائيل خطاً أحمر، مع تسجيل التعاطف الأمريكي مع فلسطين على المستوى الشعبي أعلى مستوى في تاريخه.
وفي وقتٍ سابق من الأسبوع الجاري، انتشرت على الشبكات الاجتماعية مقاطع فيديو لأفراد القوات الإسرائيلية وهم يستخدمون كعوب بنادقهم للاعتداء على المصلين. وفي الوقت ذاته، انتشرت لقطات غير مؤكدة تُظهر رجال الشرطة وهم يسيرون فوق سجاجيد الصلاة، وشاهدها أكثر من مليون شخص على حسابٍ واحدٍ فقط في تويتر.
ولا شك أن ارتفاع معدلات العنف في المسجد الأقصى اليوم يُذكرنا بالمواجهات العنيفة التي اندلعت عام 2021.
ولا تزال دورات العنف في الصراع الطويل بين الفلسطينيين والإسرائيليين على حالها دون تغيير، لكن نظرة الأمريكيين أنفسهم للصراع هي التي بدأت تتغير، حسب ما ورد في تقرير لموقع Business Insider الأمريكي.
التعاطف الأمريكي مع فلسطين في أعلى مستوى في تاريخه ولكنه مازال أقل من إسرائيل
سجلت معدلات تعاطف البالغين الأمريكيين مع الفلسطينيين "ارتفاعاً قياسياً جديداً" عند 31%، بينما سجلت نسبة من يفضلون عدم الانحياز لأحد الجانبين انخفاضاً جديداً عند 15%، وذلك وفقاً لاستطلاعٍ جديد أجرته مؤسسة Gallup.
وكشفت اتجاهات استطلاع Gallup للشؤون العالمية عن فجوة قدرها 23 نقطة في مستويات التعاطف تجاه إسرائيل والفلسطينيين لصالح تل أبيب، لكن هذه الفجوة تمثل الأفضلية الضعيفة الوحيدة التي تتمتع بها إسرائيل في هذا السياق. فضلاً عن كونها المرة الأولى التي لا تحظى فيها إسرائيل بأفضلية أكبر من الضعف على الفلسطينيين، وذلك فيما يتعلق بتعاطف الأمريكيين، وفقاً لـGallup.
وقد أجرت Gallup مقابلات مع عينة تضم 1,008 بالغين في الولايات المتحدة، وأجرت الاستطلاع بين يومي الأول والـ23 من فبراير/شباط العام الجاري، في تحديثٍ لاستطلاعها السنوي حول الشؤون العالمية.
السبب الأول لذلك استخدام الفلسطينيين للشبكات الاجتماعية
ويقول الخبراء إن العامل الذي قوّض الدعم السياسي الصريح لإسرائيل بين الأمريكيين هو زيادة استخدام الفلسطينيين على الأرض للشبكات الاجتماعية، التي تأتي كبديل للحصول على المعلومات عن الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي عبر مصادر الأخبار الرائجة.
حيث أوضح خالد الجندي، مدير برنامج فلسطين في مركز أبحاث Middle East Institute، لموقع Business Insider الأمريكي أن السياسات الإسرائيلية بدأت تتجه إلى اليمين ومواجهة الفلسطينيين بصورةٍ متزايدة. ولهذا يقول إن "الوصول الفوري إلى ذلك الواقع عبر الشبكات الاجتماعية" يساهم في الصعود المتسارع للاتجاهات الظاهرة في بيانات Gallup.
وأردف الجندي أن "التوافر الفوري للصور، ومقاطع الفيديو، والأخبار عن القمع في فلسطين، هو أمر له تأثيره".
وقد أدانت إسرائيل بعض المشاهير الأمريكيين البارزين، مثل عارضتي الأزياء جيجي وبيلا حديد، بسبب محتواهما المؤيد لفلسطين بوضوح عبر حساباتهما الضخمة على الشبكات الاجتماعية. يُذكر أن جيجي وبيلا فلسطينيتا المولد، ولهذا بدأتا الدفاع عن القضية بقوة خلال السنوات الأخيرة.
واحتجاجات "حياة السود مهمة" جعلت نضال الفلسطينيين قضية داخلية أمريكية
بينما صرّح طارق كيني-شاوا، زميل مركز أبحاث الشبكة، بأن زيادة الدعم الأمريكي لحقوق الفلسطينيين تصادفت مع تضخم احتجاجات "حياة السود مهمة" عام 2020، وذلك إثر مقتل جورج فلويد على يد الشرطة.
وأوضح كيني-شاوا للموقع الأمريكي قائلاً: "عندما نضع هذا الأمر في الاعتبار، فمن المهم النظر إلى مسألة زيادة الدعم للفلسطينيين باعتبارها شديدة التقاطع مع -وجزءاً من نسيج- الجهود الأوسع لمواجهة العنف المنهجي، ومواجهة انعدام المساواة في أمريكا".
فالنقاش حول العرق في إسرائيل وفلسطين لديه القدرة على اكتساب قوة جذبٍ بين جيل الشباب الذي يتحدَّى بلا كللٍ الأحكام الجاهزة السابقة بشأن القضايا العالمية؛ من تغيُّر المناخ إلى عدم المساواة الاقتصادية.
ويشكِّل اليهود الأمريكيون الشباب قوةً حاسمة في هذه الرمال الثقافية المتحرِّكة، وهم يكافحون من أجل التوفيق بين وجهات نظرهم التقدُّمية بشأن السياسة والعرق من ناحية وأفعال إسرائيل من ناحيةٍ أخرى، ويتساءلون: "لماذا يعني الوطن الآمن لنا إخضاع الآخرين؟".
وتستثمر حركة "حياة السود مهمة" رمزيتها في دعم كفاح الفلسطينيين، ولذا فهي تلفت الانتباه إلى النضال الأساسي والعالمي من أجل التحرُّر من العنصرية، والذي ينطبق مع وضع الشعب الفلسطيني تحت الاحتلال، حسب ما ورد في تقرير لمجلة Foreign Policy الأمريكية.
وسبق أن قال السناتور الديمقراطي المرموق بيرني ساندرز إن حياة الفلسطينيين مهمة أيضاً".
هذا الباب الجديد لمساءلة الحديث الإسرائيلي الرسمي قد غيَّر بالفعل المفردات في المحادثات داخل الولايات المتحدة حول الصراع بطرقٍ لافتة للنظر.
وبدأ البعض في الولايات المتحدة يتحدثون علناً عن كون إسرائيل نظاماً للفصل العنصري، حسب ما ورد في مقال نشر بمجلة The American Prospect الأمريكية لسارة ليا ويتسون، المديرة التنفيذية لمنظمة الديمقراطية الآن للعالم العربي (DAWN)، والمديرة التنفيذية السابقة لقسم شؤون شمال إفريقيا والشرق الأوسط بمنظمة "هيومن رايتس ووتش".
هذا يترجم في انخفاض حاد في تعاطف الديمقراطيين مع الإسرائيليين
شهد الرأي العام الأمريكي في الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي تحولاً أكثر وضوحاً بين الديمقراطيين الأمريكيين، وفقاً لـGallup.
إذ وجد الاستطلاع أن 49% من المشاركين الديمقراطيين يتعاطفون مع الفلسطينيين، بينما انخفضت نسبة المتعاطفين مع الإسرائيليين إلى 38%.
يُذكر أن مؤسسة Gallup وجدت عام 2016 أن 23% فقط من الديمقراطيين يتعاطفون مع الفلسطينيين.
ويُمكن القول إن الديمقراطيين في الولايات المتحدة قد "زاد تقاربهم" مع القضية الفلسطينية على مدار العقد الماضي، وذلك بحسب بيانات Gallup. ويلعب السكان الأصغر من جيل الألفية والجيل زد دوراً في تحريك "الانخفاض الحاد" في معدلات التعاطف مع الإسرائيليين.
وقال الجندي: "لقد اجتزنا عتبةً جديدة"، حيث يتفوق دعم الفلسطينيين على دعم الإسرائيليين بين صفوف الديمقراطيين حالياً، ولا شك أنها "لحظة بارزة للغاية، وللعديد من الأسباب".
دعم إسرائيل كدولة مازال كبيراً بينما موقف الأمريكيين من السلطة شديد السلبية
وأظهرت بيانات Gallup وجه اختلاف أساسياً بين التعاطف الأمريكي مع الفلسطينيين والإسرائيليين، وبين التعاطف مع السلطة الفلسطينية وإسرائيل.
إذ لا يزال الدعم لدولة إسرائيل قوياً بشكل عام. حيث ينظر 68% من الأمريكيين بإيجابية إلى إسرائيل. بينما تنخفض النسبة إلى 26% عند الحديث عن السلطة الفلسطينية.
وبسؤالهم عن رأيهم العام في إسرائيل والسلطة الفلسطينية، قالت أغلبية صغيرة من الديمقراطيين إنهم ينظرون بإيجابية إلى إسرائيل، لكنها تظل نسبة صغيرة جداً عند مقارنتها بـ82% من الجمهوريين الذين تراودهم المشاعر نفسها.
تزايد الاستقطاب بين الديمقراطيين والجمهوريين حول فلسطين، والمستقلون ازداد تعاطفهم
كما أظهرت البيانات الجديدة من استطلاع غالوب انخفاض عدد المشاركين "المتأرجحين في الرأي" بأكثر من النصف، وذلك خلال السنوات العشر الماضية، ما يكشف عن زيادة الاستقطاب بين الجمهوريين والديمقراطيين، في ترديدٍ لأصداء "الحروب الثقافية" السياسية التي عاشتها أمريكا في السنوات الأخيرة.
ولا تزال المواقف الإيجابية تجاه الإسرائيليين قويةً بين صفوف الأحزاب السياسية الأخرى. إذ ظلت وجهات نظر الجمهوريين على حالها بدعم 78% منهم للإسرائيليين. بينما أعرب 49% من المستقلين عن دعمهم للإسرائيليين، لكن تعاطف المستقلين سياسياً مع الفلسطينيين سجّل ارتفاعاً قياسياً جديداً بست نقاط مئوية، ليبلغ 32% بحسب الاستطلاع.
وتجلّى الدعم الجمهوري القوي في العلاقات الودية للرئيس السابق دونالد ترامب مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو.
علاوةً على أن الفضل في انتشار الدعم المحافظ لإسرائيل يرجع جزئياً إلى المسيحيين الإنجيليين، الذين يرون في دعم الدولة اليهودية ضرورةً في عقيدتهم، كما هو حال خطاب "الحرب على الإرهاب" والإسلاموفوبيا.
الفلسطينيون لا يستفيدون شيئاً من هذا التعاطف الشعبي
قال كيني-شاوا: "يمكننا الاحتفاء بهذا التحول في الرواية وزيادة التعاطف الأمريكي مع فلسطين والقضية الفلسطينية كما نشاء، لكن إذا نظرنا إلى الأمر من زاوية فلسطيني يعيش تحت الاحتلال في الضفة الغربية -أو تحت الحصار الخانق في غزة-؛ فسنكتشف أن هذا لم يغير شيئاً بالنسبة لهم".
بينما قالت جماعة Democratic Majority for Israel إن استطلاع Gallup كان "معيباً"، حيث كتبت على تويتر في الشهر الماضي أن "التعاطف هو كلمة غامضة وتحتمل عدة معان". وأردفت الجماعة أنه بإمكان المرء التعاطف مع الظروف التي يعيشها الفلسطينيون، مع الحفاظ على "تأييد إسرائيل" في الوقت ذاته.
هل ستُغيِّر الولايات المتحدة سياستها تجاه إسرائيل نتيجة لهذا التحول؟
رغم تغير المواقف الديمقراطية الواضح تجاه القضية الفلسطينية، ولكنها لا تزال قضية غير مركزية بالنسبة للحزب، لكي يستثمر فيها.
ولكن يشهد الجناح اليساري في الحزب الديمقراطي بعض الحركة في اتجاه المشاعر المؤيدة للفلسطينيين، بما في ذلك حملة ترشح بيرني ساندرز للرئاسة، و"الفرقة" التقدمية التي تضم رشيدة طليب، أول امرأة أمريكية من أصل فلسطيني تخدم في الكونغرس. لكن هذا الاتجاه لا يمثل الموقف المهيمن داخل الحزب.
ومؤخراً، ترأّس بعض المُشرّعين الأمريكيين التقدميين، يقودهم جمال بوومان وبيرني ساندرز، ما يصفها نشطاء بأنها حملة غير مسبوقة لمطالبة إدارة بايدن بالتحقيق فيما إذا كانت إسرائيل تستخدم الأسلحة الأمريكية في انتهاك حقوق الإنسان للفلسطينيين، حيث إن قانون مراقبة تصدير الأسلحة، وقانون المساعدات الأجنبية، يمنعان توجيه المساعدات الأمريكية للوحدات العسكرية الأجنبية المُشتبَه في ارتكابها انتهاكات حقوقية.
وقالت بيث ميلر، المديرة السياسية في منظمة Jewish Voice for Peace Action، عبر رسالة بالبريد الإلكتروني إلى الموقع الأمريكي: "يجب أن يكون هذا الاستطلاع بمثابة صيحة استفاقة لقيادة الحزب الديمقراطي".
فيما قال الجندي إن تغيير الآراء الديمقراطية "من المرجح أن يؤثر على السياسة. فهل سيستغرق ذلك 5 سنوات؟ أم 10 سنوات؟ أم جيلاً بالكامل؟ سنعرف الإجابة مع الوقت".