صنَّفتها واشنطن "منظمة إجرامية عابرة للحدود" وتحيط بها الأساطير وكأنها سوبرمان روسي يمكنه فعل المستحيل.
إنها "فاغنر".. تلك الشبكة العنكبوتية التي يقال إنها تحولت، خلال سنوات قليلة، إلى كابوس يقض مضاجع الغرب أكثر من الرعب من ترسانة روسيا النووية، فكيف تلاشى الخيط الرفيع بين الحقيقة والخيال لهذه الدرجة وخلال هذا الوقت القصير؟
متى بدأت قصة فاغنر بالتحديد؟ وكيف بدأت؟ وماذا حققت حتى اليوم؟ حقيقة الأمر هي أنه لا توجد رواية واحدة تحظى بالإجماع وتجيب عن هذه التساؤلات، فهناك روايات متعددة يقترب بعضها من تلك الهالة المحيطة بالأساطير، وكأن الأمر يتعلق بكائن أسطوري حطَّ في موسكو، حصل على التعليمات، وانطلق لتنفيذها في أركان المعمورة.
فمن هو يفغيني بريغوجين مؤسس فاغنر؟ ولماذا حصل على لقب "طباخ بوتين"؟ وكيف أصبح الرجل الروسي أحد أهم أضلاع الدائرة الضيقة التي تحيط بالرئيس فلاديمير بوتين، بعد أن بدأ حياته محتالاً ومن أرباب السوابق؟
دعونا نأخذكم في رحلة داخل عالم فاغنر؛ حيث تختلط الحقائق بالتضليل، ويختفي الخط الفاصل بين الحقيقة والفبركة. فقد نشرت صحيفة Politico الأمريكية تحقيقاً مطوّلاً حول بريغوجين وفاغنر وروسيا وبوتين، يعتمد بطبيعة الحال على كيف ترى العواصم الغربية تلك الشبكة، التي يصفونها بأنهم "مرتزقة" مرتبطون بموسكو، حققوا نمواً مذهلاً خلال سنوات قليلة.
الغرب يصف فاغنر بالأخطبوط
تتحرك العواصم الغربية، من واشنطن إلى لندن وباريس وبروكسل، بغرض إحباط التوسع السريع لفاغنر، وهي مجموعة شبه عسكرية روسية يديرها أحد أفراد الأوليغارشية المرتبطة ببوتين؛ حيث تستولي على المدن الرئيسية في أوكرانيا لصالح موسكو وتنشر نفوذها في إفريقيا وأركان أخرى من العالم.
ويقول مسؤولون أمريكيون وأوروبيون إنه بوجود عشرات الآلاف من المقاتلين، وكثير منهم الآن تدربوا في ساحة المعركة، فإن ظهور مجموعة فاغنر كتهديد عسكري مارق يمكن أن يصبح تحدياً عالمياً خطيراً في السنوات المقبلة.
فُصِّلَت أنشطة فاغنر المكثفة في إفريقيا؛ حيث يؤدي مقاتلوها المدربون وظائف أمنية رئيسية للأنظمة في السودان وجمهورية إفريقيا الوسطى ودول أخرى، في سلسلة من المراسلات والوثائق الحكومية الأمريكية من الشبكة الداخلية لزعيم الجماعة، يفغيني بريغوجين، حصلت عليها صحيفة Politico الأمريكية وتحققت منها من خبراء خارجيين.
إن القوة المتزايدة لبريغوجين في الدائرة الداخلية المتقلصة للرئيس الروسي فلاديمير بوتين، والتي فُصِّلَت هي الأخرى في المراسلات والوثائق، تدفع الحكومات الغربية إلى اتخاذ خطوات لدرء تهديد يحسبون أنه يمكن أن يُلحق عواقب سياسية بأمنهم القومي على نطاق واسع في السنوات المقبلة.
التقى دبلوماسيون من الولايات المتحدة وأوروبا وإفريقيا خلف أبواب مغلقة في عواصم متفرقة في جميع أنحاء العالم، بما في ذلك بانغي وكيجالي وبروكسل وواشنطن وكييف ولندن ولشبونة، لمناقشة سبل وضع حد لوجود فاغنر. حتى إن المسؤولين صاغوا ووزعوا خارطة طريق استراتيجية لإخراج المجموعة من جمهورية إفريقيا الوسطى؛ حيث أرسلت جنوداً للسيطرة على منطقة كانت في السابق منجماً للذهب، وحولتها إلى مجمع مترامي الأطراف، وفقاً للمراسلات. ويناقش المسؤولون الأمريكيون أيضاً ما إذا كانوا سيصنفون فاغنر كمنظمة إرهابية دولية.
وخلال يناير/كانون الثاني 2023، أصدرت إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن قراراً بتصنيف مجموعة فاغنر "منظمة إجرامية عابرة للحدود"، وهو القرار الذي اعتبرته موسكو غير مؤثر على روسيا أو المجموعة نفسها؛ إذ قال ديمتري بيسكوف، متحدث الكرملين: "لا أعتقد أن لهذا أي أهمية عملية لبلدنا، أو حتى أكثر من ذلك بالنسبة لشركة فاغنر العسكرية الخاصة"، مشيراً إلى أنه "من غير المرجح أن يؤثر القرار على روسيا أو المجموعة نفسها".
وكان المتحدث باسم مجلس الأمن القومي الأمريكي، جون كيربي، قد قال للصحفيين، إنه بالإضافة إلى قرار وزارة الخزانة بتصنيف مجموعة فاغنر على أنها "منظمة إجرامية عابرة للحدود"، فإن إدارة الرئيس جو بايدن "ستفرض عقوبات اقتصادية على المنظمة والداعمين لها".
لكن رئيس شركة فاغنر الروسية الخاصة للمتعاقدين العسكريين نشر رسالة قصيرة موجهة إلى البيت الأبيض، يسأل فيها عن الجريمة التي تُتهم شركته بارتكابها، وذلك بعد أن أعلنت واشنطن أنها ستفرض عقوبات جديدة عليها. فيما تقول رسالة نُشرت عبر تليغرام، على قناة الخدمة الإعلامية التابعة لبريغوجين، مؤسس فاغنر: "عزيزي السيد كيربي، هل يمكنك توضيح الجريمة التي ارتكبتها شركة فاغنر؟"
فاغنر.. رأس الحربة في حرب أوكرانيا
في هذه الأثناء، منذ أن بدأت روسيا في استهداف أوكرانيا، جندت مجموعة فاغنر آلاف الجنود الجدد للانضمام إلى صفوفها في ساحة المعركة، مما سمح للمجموعة بتحقيق انتصارات عسكرية في منطقة دونباس، بما في ذلك مدينة سوليدار.
اعترف بريغوجين، الذي كان قد نفى في السابق أي ارتباط بالمجموعة، بصِلاته بها علناً في العام الماضي. غالباً ما يظهر في مقاطع فيديو دعائية ومنشورات على وسائل التواصل الاجتماعي من الخطوط الأمامية في أوكرانيا؛ حيث يروج لقواته كأبطال وقادة للحرب، بينما يسخر في الوقت نفسه من العقوبات الغربية.
ليست فاغنر سوى جزء من مجال تأثير بريغوجين الأكبر. أُبلِغَ سابقاً عن بعض العمليات المرتبطة بشبكة من الشركات التابعة لبريغوجين -حتى إن بريغوجين اعترف علناً بالتدخل في انتخابات الدول الأجنبية. لقد حُدِّدَ أنه مرتبط بحسابات وهمية روسية خُصِّصَت للولايات المتحدة للتدخل في الانتخابات الأمريكية. واعترف مؤخراً بقيادة وتمويل مجموعة كبيرة من الحسابات معروفة بـ"وكالة أبحاث الإنترنت". وجرى تتبُّع وجود المجموعة وعملياتها في إفريقيا أيضاً من قِبَل منظمات حقوقية دولية.
لكن التحقيق الذي استمر لشهور من قِبل صحيفة Politico كشف تفاصيل جديدة حصرية حول كيفية تطور شبكة بريغوجين، التي تضم فاغنر، إلى عملية نفوذ عسكري وسياسي دولي بعيد المدى. كشف التحقيق أيضاً عن تفاصيل لم يُبلَّغ عنها سابقاً حول كيفية سعي الولايات المتحدة وحلفائها لتقليص توسع ونفوذ فاغنر، خاصة في إفريقيا.
قال المسؤولون إن البصمة الموسعة لفاغنر تشهد على الطموحات المتزايدة لبريغوجين -الذي تعتقد الولايات المتحدة وأوروبا أنه ساعد في تنظيم الأحداث التي أدت إلى انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان مثل استهداف المدنيين والتهجير القسري للأشخاص في إفريقيا، بما في ذلك في جمهورية إفريقيا الوسطى.
قال مسؤول أمريكي لبوليتيكو: "فاغنر هي ذراع الكرملين الفريد نسبياً.. إن بوتين يستخدمها كإحدى أدواته في إفريقيا وحول العالم. لذا، هناك مخاوف في سياستنا تجاه إفريقيا. لكن بالنسبة لنا، هذه أيضاً مشكلة تتعلق بكيفية طمس روسيا للخط الفاصل بين العمل السري والعمل العسكري والتأثير السياسي".
فالتقارير الغربية تقول إن بداية تأسيس فاغنر ترجع إلى عام 2014 عندما ضمت موسكو شبه جزير القرم وساندت حركات انفصالية في إقليم دونباس. "رجال خضر" لا يحملون هويات تربطهم بروسيا رسمياً، ولم يكن أحد يتخيل أن يتحولوا خلال سنوات قليلة إلى رأس الحربة في استراتيجية توسيع النفوذ الروسي حول العالم بتلك الطريقة.
ومن بين النتائج التي توصلت لها صحيفة Politico:
شبكة بريغوجين العالمية، التي تضم فاغنر، لها علاقات مباشرة مع الدولة الروسية، مما يسمح لها بتوسيع عملياتها في جميع أنحاء العالم. ويتواصل موظفوها ومقاتلوها بشكل متكرر مع كبار المسؤولين الروس، بمن فيهم العاملون في الأجهزة الأمنية ووزارة الدفاع.
تتدخل شبكة بريغوجين منذ سنوات في الأنظمة السياسية في البلدان الأخرى؛ لكن على مدى السنوات العديدة الماضية، حاولت توسيع عمليات التضليل والتأثير السياسي هذه لتشمل دولاً في الاتحاد الأوروبي، بما في ذلك إستونيا، في محاولة لإثارة المشاعر المعادية لحلف شمال الأطلسي (الناتو) والمعادية للغرب. وحاولت كذلك توسيع مكاتبها إلى المكسيك، لكن يبدو أن الجائحة أوقفت تلك الخطة.
عززت فاغنر وجودها العسكري والسياسي والتجاري في إفريقيا على مدى السنوات العديدة الماضية، مما زاد من المخاوف الغربية بشأن النفوذ الروسي المتزايد في القارة في البلدان التي اعتمدت تاريخياً بشدة على الدعم المالي والعسكري للولايات المتحدة وأوروبا.
يستند هذا التقرير جزئياً إلى مراسلات الحكومة الأمريكية التي حصلت عليها الصحيفة الأمريكية والتي تركز بشكل مباشر على فاغنر. ويستند كذلك إلى وثائق ومذكرات داخلية مكتوبة باللغة الروسية من شبكة بريغوجين حُصِلَ عليها عبر تعاون صحفي دولي مع منافذ إعلامية في الولايات المتحدة وأوروبا. وقد حصل منفذ الأخبار الألماني WELT أولاً على الوثائق وشاركها مع مؤسسات إعلامية أخرى، بما في ذلك تلك التي تملكها شركة أكسل شبرينغر، التي تمتلك صحيفة Politico أيضاً.
تؤكد الوثائق والمراسلات والتقارير والأبحاث المنشورة سابقاً حول الشركات التابعة لشبكة بريغوجين، بما في ذلك تلك التي تشارك في أعمال التضليل. وهي تقدم نظرة ثاقبة غير مسبوقة حول كيفية عمل إحدى المجموعات شبه العسكرية الرائدة في العالم، فاغنر، بصفة يومية، بما في ذلك كيفية انضباط مقاتليها، وتحديد أولويات المشاريع، وتحديد وقت إنفاق الأموال، إلى جانب مدى صِلاتها بكبار المسؤولين الحكوميين في جميع أنحاء العالم.
ولمزيد من التفاصيل يرجى الضغط هنا