تمر مصر بإحدى أزمات الديون الأكثر دراماتيكية في تاريخها الحديث، وتم تخفيض قيمة الجنيه ثلاث مرات في العام الماضي، وسط تساؤلات بشأن إلى متى تستمر الأزمة الاقتصادية في مصر وطرق حلها في ظل الشروط الصارمة التي وضعتها دول الخليج مقابل دعم مصر.
ويعاني اقتصاد الدولة العربية الأكبر من حيث عدد السكان بعد ضربات جائحة Covid-19 على قطاع السياحة فيها، كما أدت الحرب في أوكرانيا إلى ارتفاع أسعار المواد الغذائية والسلع العالمية، وهروب الأموال الساخنة من أسواق الديون المصرية، إضافة إلى تأثيرات سياسة الحكومة بالتوسع في القروض للإنفاق على مشروعات البنية التحتية العملاقة.
وارتفع معدل التضخم إلى أكثر من 40%، وتعد العملة المصرية من أسوأ العملات أداءً على مستوى العالم هذا العام؛ مما دفع ملايين آخرين إلى براثن الفقر، حسبما ورد في تقرير لصحيفة Wall Street Journal الأمريكية.
وقد تفاقم هذا الوضع، بسبب التكهنات بشأن تخفيض آخر وشيك لقيمة العملة. مع استمرار النقص في الدولار، أدى تراكم الواردات إلى تفاقم الأزمة، مما أدى إلى نقص في السوق وضغط على القطاع الخاص، على الرغم من تأكيد مصر في يناير/كانون الثاني، أن التأخير قد تم حله.
مصر باعت سندات بـ35 ألف دولار في مزايدة بـ3 مليارات جنيه!
وفي مؤشر مقلق، باع البنك المركزي المصري مؤخراً جزءاً ضئيلاً من سندات لأجل ثلاث سنواتٍ عرضها للبيع في مزاد، في أول عطاء لبيع سندات الخزانة المصرية بعد الرفع الأخير للفائدة بنسبة 2%.
وباعت الحكومة نحو مليون جنيه من السندات أي نحو 35 ألف دولار فقط بعائد 21.7%، من بين سندات مطروحة بقيمة 3 مليارات جنيه، وهو أقل ما جمعته على الإطلاق في بيع سندات محلية، وفقاً لبيانات "بلومبرغ".
ورفضت الحكومة زيادة العائد الذي طالب به المستثمرون القلقون من احتمال خفض قيمة العملة.
وأكد محللون أن بعض المستثمرين توقفوا عن شراء السندات المصرية، في ظل توقعات برفع العوائد عليها قريباً لتتماشى مع الزيادة الأخيرة في أسعار الفائدة.
السعودية ودول الخليج تجدد شروطها بعد أن قدمت 100 مليار جنيه خلال السنوات الماضية
يبدو أن برنامج الخصخصة الذي أعلنته الحكومة المصرية استجابة لأزمة الديون متوقف.
في أواخر شهر مارس/آذار، أفادت التقارير بتعليق بيع حصة 10% في "المصرية للاتصالات" التي تسيطر عليها الدولة، من قبل الحكومة وسط ظروف السوق المعاكسة.
وأخفقت زيارة الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي الأخيرة لجدة بالمملكة العربية السعودية ولقاؤه بالأمير محمد بن سلمان، في إقناع الرياض بتقديم مساعدات عاجلة، حيث تشترط دول الخليج تنفيذ مزيد من التخفيض في قيمة الجنيه، ليصبح قرب قيمته الحقيقية، مما يجعل صفقات شراء أصول مصرية أكثر ربحية، وتخفيف دور الجيش في الاقتصاد، وأيضاً قيادة أكثر فاعلية لإدارة شؤونها المالية، وسط مخاوف بشأن سوء الإدارة والفساد، حسبما نقلت صحيفة Wall Street Journal عما وصفته بمصادر مطلعة.
منذ تولي الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي السلطة في عام 2013، قدمت دول الخليج عشرات المليارات من الدولارات لمصر في شكل مساعدات وودائع مباشرة لدعم حليف يعد أيضاً شريكاً أمنياً رئيسياً في المنطقة.
بين عامي 2013 و2020، زودت دول الخليج مصر بما مجموعه 97 مليار دولار من ودائع البنك المركزي والاستثمار المباشر وأشكال أخرى من المساعدات المالية، وفقاً لتتبُّع كارين إي يونج، الباحثة في الاقتصاد السياسي للشرق الأوسط بمعهد "أمريكان إنتربرايز".
وقادت المملكة العربية السعودية هذا التوجه، حيث قدمت أكثر من 46 مليار دولار.
عندما بدأت الحرب في أوكرانيا تضر بالاقتصاد المصري في أوائل عام 2022، أودعت بعض دول الخليج 13 مليار دولار في البنك المركزي المصري، مما ساعد السلطات المصرية على تعزيز احتياطياتها من العملات الأجنبية. وشملت 5 مليارات دولار من المملكة العربية السعودية في مارس/آذار الماضي.
ولكن مؤخراً، حذَّرت المملكة العربية السعودية ودول الخليج العربية الأخرى مصر من أن أي خطة إنقاذ مالية ستعتمد على خفض القاهرة قيمة عملتها وتعيين مسؤولين جدد لإدارة اقتصادها، وفقاً لمسؤولين مصريين وخليجيين.
"التعويم الرابع".. توقعات بتخفيض حاد جديد للعملة قريباً
لم تفعل مصر، حتى الآن، سوى القليل لتلبية مطالب دول الخليج. يتوقع المحللون أن تسمح القاهرة قريباً بتراجع العملة بشكل حاد، في رابع تخفيض لقيمة العملة من قبل البنك المركزي المصري منذ غزو روسيا لأوكرانيا في فبراير/شباط 2022، حسب الصحيفة الأمريكية.
وتمكن الاقتصاد المصري من الصمود بفضل صندوق النقد الدولي. ووافق الدائن الدولي، العام الماضي، على إقراض مصر 3 مليارات دولار على مدى السنوات الأربع المقبلة، وقدم في ديسمبر/كانون الأول 2022 الشريحة الأولى من تسع شرائح. لكن خبراء الاقتصاد يقولون إن خطة الإنقاذ ليست كافية لسد فجوة التمويل التي تواجهها مصر في السنوات المقبلة، حيث تسعى إلى سداد ديون تقدر بعشرات المليارات من الدولارات.
وقال صندوق النقد الدولي إنه يتوقع أن تجلب مصر تمويلاً إضافياً بقيمة 14 مليار دولار من الخليج ودول أخرى في إطار زمني مدته أربع سنوات.
للمساعدة في تغطية الاحتياجات التمويلية الفورية للبلاد، كلف القادة المصريون صندوق الثروة السيادية بجمع 2.5 مليار دولار بحلول يونيو/حزيران 2023. ستأتي بعض الأموال من حملة الخصخصة التي أطلقتها السلطات المصرية مؤخراً لبيع حصص في 32 شركة مملوكة للدولة، على الرغم من أنه من المتوقع أن يستمر هذا البرنامج حتى أوائل عام 2024.
ولكن توقفت المفاوضات مع صناديق الثروة السيادية والشركات في الخليج بشأن أصول حكومية مختلفة، وفقاً لأشخاص مطلعين على المناقشات، ولم تؤتِ أي صفقات ثمارها. فهم يرون أن الجنيه المصري لا يزال مبالغاً فيه على الرغم من انخفاض العملة بأكثر من 40% مقابل الدولار الأمريكي خلال العام الماضي.
وقالت مصادر لصحيفة وول ستريت جورنال، إن دول الخليج تتفق أيضاً مع صندوق النقد الدولي على أن مصر بحاجة إلى كبح جماح الإنفاق المالي وتقليص دور جيشها في الاقتصاد.
قال أيمن سليمان، الرئيس التنفيذي للصندوق السيادي المصري، في مقابلة، إن الصندوق يساعد في إدارة بيع 14 شركة من أصل 32 شركة مملوكة للدولة، ويهدف إلى الإعلان عن صفقتين قريباً، مما يساعد الصندوق على الوصول إلى هدف جمع 2.5 مليار دولار، وقال: "إن الهدف قابل للتحقيق".
تزعم بعض التقارير التي أغلبها معارضة للنظام في مصر، أنّ طلب صندوق النقد الدولي ودول الخليج تخفيف دور الشركات العسكرية في الاقتصاد، يعرقله رفض قادة الجيش لذلك، يصعب التأكد من ذلك في دولة قوية أمنياً مثل مصر، كما يصعب توقع أن قادة الجيش يعبّرون علناً أو سراً عن معارضتهم للرئيس السيسي، والأرجح هو معارضة السيسي نفسه للفكرة، لأن دور الجيش في الاقتصاد يمثل إرثاً أساسياً له.
الرياض تتخذ موقفاً مماثلاً مع باكستان
في المنتدى الاقتصادي العالمي بدافوس في يناير/كانون الثاني الماضي، أوضح محمد الجدعان، وزير المالية السعودي، السياسة الجديدة للمملكة بشكل لا لبس فيها.
إذ قال وزير المالية السعودي: "كنا نهب المنح والودائع المباشرة دون قيود، ونحن نغير ذلك. نحن نعمل مع مؤسسات متعددة الأطراف لنقول في الواقع إننا بحاجة إلى رؤية الإصلاحات".
وفُهم هذا التصريح أنه موجة لمصر وباكستان تحديداً، وكلتاهما دولتان إسلاميتان كبيرتان لطالما اعتمد كل منهما على الدعم الخليجي في الأزمات، ولكن يبدو أن الرياض وباقي العواصم الخليجية مُصرة هذه المرة على تقييد الإقراض للبلدين، وإلزامهما بتنفيذ إصلاحات صندوق النقد، وأن يكون التدفق المالي في شكل استثمارات بالأساس وليس قروضاً أو منحاً.
والإمارات رفضت أن تكون ضامناً لمصر لدى صندوق النقد
وهناك تساؤلات حول احتمالية مساعدة دول الخليج لمصر بشكل كافٍ في ظل الفجوة في المواقف بين الجانبين.
فعندما نظر صندوق النقد الدولي في شروط حزمة الإنقاذ، رفضت الإمارات العربية المتحدة التصرف كضامن بتحويل نسبة مئوية من إجمالي قيمة القرض كوديعة إلى البنك المركزي المصري، وذلك وفقاً لما نقلته الصحيفة الأمريكية عن مسؤولين مطلعين على المناقشة.
وقال المسؤولون إن هذا دفع القاهرة إلى اللجوء إلى السعودية والكويت، لكنهما رفضتا المساعدة أيضاً.
متى تنتهي الأزمة الاقتصادية في مصر، وهل يكفي تعويم جديد لحلها؟
فمع تمنع دول الخليج عن دعم مصر، إلا بشروط تراها القاهرة قاسية، تثار تساؤلات حول المدى الزمني للخروج من هذه الأزمة وهل يؤدي تخفيض آخر للعملة لإيجاد حل قريب وذلك في ضوء تضخم الديون المصرية.
وخفضت مصر عملتها ثلاث مرات منذ الأزمة الأوكرانية من 15.5 للدولار، إلى نحو 30.8 حالياً كسعر رسمي (بينما يدور السعر في السوق الموازية بين 35 إلى 37).
وكلما خفضت البلاد سعر العملة لتقترب من توقعات المؤسسات الدولية والسوق السوداء، سرعان ما تعود الفجوة مجدداً وينخفض الجنيه في السوق الموازية وتوقعات المؤسسات الدولية للسعر الرسمي بسبب عدم توافر العملة.
وباتت هناك تساؤلات حول هل يؤدي تخفيض آخر لقيمة الجنيه لحل الأزمة؟
المشكلة أن "التعديل الخارجي الحاد" الذي رأيناه في العام الماضي لم يكن كافياً للتخفيف من اختلال ميزان المدفوعات للبلاد، انخفضت قيمة الجنيه بأكثر من 50% منذ مارس/آذار 2022، كما انخفضت الواردات، فيما ارتفعت معدلات التضخم وأسعار الفائدة، وتباطأ النمو، إلا أن كل ذلك لم يكن كافياً للتخفيف من ضغوط ميزان المدفوعات على الاقتصاد، بحسب بنك غولدمان ساكس الأمريكي. ويعني ذلك أن الطلب على العملات الأجنبية لا يزال يفوق المعروض وأن سعر الصرف في السوق الموازية لا يزال في ارتفاع مع آثار ضارة محتملة على الاقتصاد.
وقالت مجموعة غولدمان ساكس في تقرير حديث إن على مصر تسريع وتيرة إصلاحاتها أو إجراء المزيد من "التعديلات المؤلمة" لانتشال اقتصادها من أزمة متفاقمة.
خيارات مصر تبدو محدودة، في ظل موقف دول الخليج، وصندوق النقد الدولي من غير المرجح أن يعرض على مصر أي قروض كبيرة أخرى "دون مضاعفة جهود الإصلاح"، حسب تقرير لـ"غولدمان ساكس".
تدين مصر بالفعل للصندوق الذي يتخذ من واشنطن مقراً له بنحو 20 مليار دولار، مما يجعلها ثاني أكبر مقترض من صندوق النقد الدولي في العالم بعد الأرجنتين.
عدم اليقين بشأن قيمة الجنيه أمام الدولار يمنع سوق الدين المصري من استعادة جاذبيته السابقة.
ما لا يقل عن 20 مليار دولار من الاستثمار في سوق الديون في البلاد غادر البلاد بسرعة في الأيام والأسابيع التي أعقبت الغزو الروسي لأوكرانيا في فبراير/شباط 2022.
سيكون لعمق هذه الأزمة ومدتها تداعيات اقتصادية وسياسية عميقة، يمتد بعضها إلى ما هو أبعد من نظام الرئيس عبد الفتاح السيسي. الأكثر وضوحاً، والأكثر تكلفة، هو الزيادة السريعة في الفقر، مع توقع سقوط ملايين آخرين تحت خط الفقر، حسب تقرير لموقع Middle East Eye البريطاني.
ديون مصر ستصل إلى أكثر من 500 مليار عام 2027
وكان حجم ديون مصر الخارجية 34.9 مليار دولار في عام 2011 وقت اندلاع ثورة 25 يناير/كانون الثاني، وارتفعت إلى 43.2 في عام 2013، وبلغت 48.1 مليار دولار في العام 2015.
ويعتقد أن حجم الديون المصرية المسجلة بلغ في منتصف عام 2022 نحو 157.8 مليار دولار.
ومن المتوقع أن يرتفع الدين القومي لمصر بشكل مستمر بين عامي 2022 و2027 حيث سيزيد بنحو 217.7 مليار دولار أمريكي (+75.35%)، لتصل ديون مصر عام 2027 إلى 506.58 مليار دولار أمريكي، حسب تقرير لموقع Trading Economics.
وكان من المتوقع أن تنخفض نسبة الدين القومي إلى الناتج المحلي الإجمالي لمصر بشكل مستمر بين عامي 2022 و2027 بإجمالي 9.3 نقطة مئوية.
ويتوقع أن تبلغ النسبة بنحو 79.89% في عام 2027، ويسعى صندوق النقد للضغط على الحكومة لضغط النفقات لتحقيق هدف خفض نسبة الدين للناتج المحلي.
ومصر تواجه جدولاً مزدحماً بالتزامات الديون الخارجية حتى 2026، حسب وصف صحيفة "إندبندنت عربية".
وذكر تقرير لمجلة Forbes الأمريكية أن الديون المصرية المستحقة في السنة المالية عام 2024، تبلغ 20.4 مليار دولار، و23.2 مليار دولار في العام التالي، أي أن عام الذروة سيكون في 2025، وفقاً لهذا التقدير، وهذا يشمل على ما يبدو الديون القصيرة والمتوسطة وطويلة الأجل.
أما في عام 2026 فيتعين سداد 6.6 مليار دولار خلال النصف الأول من العام بخلاف 10.2 مليار دولار خلال النصف الثاني من ذلك العام.
لا يعني ذلك أن مصر قد تتخلف عن السداد وهي لم تفعل ذلك منذ أكثر من 120 عاماً (منذ عهد الخديو إسماعيل الذي أدت أزمة الديون في عهده لاحتلال مصر).
ولكن تأثيرات الأزمة ستكون كبيرة على مستويات الفقر الداخلية.
لماذا تبدو القاهرة قادرة على تجنب مصير سريلانكا؟
تركز العديد من التقارير الاقتصادية على أن مصر من بين ثلاثة دول عربية انضمت لقائمة من عشر دول تواجه خطر أن تقع في أزمة ديون،.
ولكن في مذكرة بحثية صدرت في أغسطس/آب 2022، كشفت مؤسسة "أكسفورد إيكونوميكس أفريكا" عن أن مصر بحاجة إلى "تفادي خطر التخلف عن السداد، لكن مصر ليست سريلانكا – فهي لديها احتياطي أعلى بكثير وخيارات تمويل أفضل بكثير في المستقبل، واعتبر أن مشكلة مصر يمكن السيطرة عليها من خلال سياسات أكثر صرامة ودعم الدائنين الرسميين".
ولدى مصر سلطة مركزية قوية قادرة على اتخاذ قرارات ضاغطة على الشعب عكس دول ديمقراطية أو شبه ديمقراطية مثل باكستان وسريلانكا.
إليك من سيدفع ثمن محاولة الخروج من هذه الأزمة؟
ستؤدي الاستجابة لشروط صندوق النقد الدولي على الأرجح إلى تخفيض جديد قد لا يكون أخيراً في قيمة العملة، إضافة لرفع أسعار الوقود والطاقة الكهربائية، وهو ما قد يؤدي لموجة تضخم جديدة.
من ناحية أخرى، فإن عدم الاستجابة لهذه الشروط معناه تفاقم أزمة العملة، ومواجهة مصر مشكلة في تدبير قروض لسداد القروض السابقة، وفي كلتا الحالتين فإن العبء سيقع على الطبقة الوسطى والفقراء، وخاصة أصحاب الدخول الثابتة، رغم قيام الحكومة بتنفيذ زيادتين في الأجور الأولى في نوفمبر/تشرين الثاني 2022، بقيمة 300 جنيه، (تعادل أقل من 10 دولارات حالياً)، والثانية بحد ألف جنيه (أقل من 30 دولاراً حالياً).
يقول تقرير موقع Middle East Eye البريطاني: يحتاج المرء فقط إلى النظر في عواقب تخفيض قيمة العملة عام 2016 لفهم التأثير القادم للأزمة.
بين عامي 2015 و2018، ارتفعت معدلات الفقر من 27.8% إلى 32.5%، وفقاً لبيانات حكومية. وهذا يعادل خمسة ملايين شخص إضافي يسقطون تحت خط الفقر.
من المرجح أن يكون عمق ومدى انتشار الفقر في الأزمة الحالية أسوأ بكثير لسببين. أولاً، لا توجد تدفقات رأسمالية إلى مشاريع البنية التحتية الضخمة، والتي يمكن أن تعمل على التخفيف جزئياً من آثار تخفيض قيمة العملة.
ثانياً، من المتوقع أن يكون عمق ومدى انخفاض قيمة العملة أعمق بكثير وأكثر طولاً. بالنظر إلى نقص تدفقات رأس المال، والحاجة التمويلية الخارجية المتوقعة البالغة 19 مليار دولار في السنة المالية 2023، و22.5 مليار دولار في السنة المالية 2024، سيستمر الجنيه في مواجهة ضغوط شديدة، مما يضيف المزيد من الضغط على تكلفة المعيشة.
يمكن القول إن التأثير الأكثر عمقاً وأطول أمداً للأزمة هو المديونية المتزايدة للاقتصاد المصري، والعقبات الكبيرة للتنمية التي ستواجهها أي حكومة مستقبلية. في الواقع، في المستقبل المنظور، سيتم توجيه معظم موارد البلاد نحو سداد ديون النظام، حسب Middle East Eye.
ويقول الموقع البريطاني: "سيترتب على ذلك انخفاض كبير في الاستثمار في الخدمات الاجتماعية والصحة والتعليم – جميع متطلبات تكوين قوة عاملة منتجة. كما سيؤدي إلى استنزاف رأس المال من البلاد، مما يعوق تنمية قطاع خاص قادر على البقاء وتنافسي. سيؤدي هذا إلى إعاقة قدرة مصر التنموية على المدى الطويل".
تخفيض العملة يتيح الفرصة لتعزيز الصادرات والسياحة، ولكن هل تستطيع مصر كسر حلقة الديون؟
بالطبع الجانب الإيجابي للأزمة هو أن التخفيض الكبير في قيمة العملة، جعل المنتجات المصرية رخيصة وخلق زيادة لافتة في الصادرات (لا سيما الخضراوات والفاكهة) والسياحة، ويمكن تعزيز الصادرات في المنتجات المصنعة، إذ طور المصنعون المحليون قدراتهم بدعم حكومي.
ولكن يزعم موقع Middle East Eye البريطاني أن كسر حلقة الدين هو احتمال بعيد الاحتمال، حيث تخطط الحكومة لاقتراض 44 مليار دولار من السوق المحلية في الربع الثاني من السنة المالية الحالية، من أجل موازنة الميزانية. حتى إذا كانت الحكومة قادرة على سد فجوة التمويل الكبيرة في العامين المقبلين، فستكون قادرة على القيام بذلك فقط عن طريق اقتراض المزيد من الأموال بتكاليف تمويل متزايدة بشكل كبير.
في فبراير/شباط 2023، أصدرت الحكومة المصرية ما قيمته 1.5 مليار دولار من السندات الإسلامية، والمعروفة باسم الصكوك، بمعدل باهظ يبلغ 11%. كان الهدف مساعدة مصر على سداد 1.25 مليار دولار في سندات اليوروبوندز مدتها خمس سنوات، والتي يتم إصدارها بسعر فائدة ثابت يبلغ 5.6%، مما يزيد الضغط على الميزانية.
يظهر الفارق الهائل بين فوائد السندات الجديدة والقديمة أن مصر تحصل على ديون باهظة لسداد ديون أقل تكلفة، في مؤشر على أن الديون قد تصعد بوتيرة متوالية هندسية، ولهذا السبب قد يكون تركيز صندوق النقد الدولي على ضرورة سد الفجوة المالية بالأساس عن طريق بيع أصول، وتشجيع التدفق الاستثماري الخارجي وليس التوسع في الاقتراض.
بدون ذلك ستواصل سداد الديون في امتصاص الموارد الاقتصادية للبلاد في المستقبل المنظور، مما يجعل مصر عرضة لأضرار رأس المال المالي الدولي والاضطرابات العالمية، وقد تكون أزمة الائتمان مخربة للاقتصاد المصري.
في الواقع، تشير جميع الدلائل إلى أزمة مطولة ستستمر لسنوات – في ظل أن حلفاء مصر الخليجيين غير مستعدين لتقديم المساعدة دون إصلاحات اقتصادية جوهرية في خروج ملحوظ عن سياستهم التقليدية تجاه القاهرة سابقاً، والتي كانت تقدم مساعدات غير مشروطة، حسبما ورد في تقرير لموقع Middle East Eye البريطاني.
يقول تقرير الموقع البريطاني: "ما نشهده هو تحول جذري في الاقتصاد السياسي المصري. ستدوم آثاره إلى ما هو أبعد من عهد السيسي، وربما سيكون إرثه الأكثر ديمومة".