الأزمة الاقتصادية الخانقة التي تعاني منها مصر لم ينجُ منها أبرز معالم شهر رمضان 2023 وهو موائد الرحمن، التي تراجعت أعدادها بشكل لافت، فهل السبب ارتفاع الأسعار فقط؟
وتعاني مصر من أزمة ديون متراكمة، يدفع المواطن العادي كُلفتها الباهظة، بسبب التأثير المباشر لها على أسعار السلع الأساسية، التي لا يستطيع أحدٌ العيشَ من دونها مهما ارتفعت الأسعار، إذ فقد الجنيه أكثر من 65% من قيمته مقابل الدولار الأمريكي خلال عام واحد تقريباً.
وتُواصل أسعار الغذاء تحديداً الارتفاعَ بدرجة مرهقة للغاية، وتبدو الحكومة عاجزةً عن السيطرة عليها، ليتحول توفير الطعام إلى كابوس للفقراء، الذين كانت موائد الرحمن خلال شهر رمضان تمثل مصدراً أساسياً أمامهم للحصول على وجبة فيها بروتين من لحوم أو دجاج.
تراجع أعداد موائد الرحمن في مصر
لكن أعداد موائد الرحمن في شهر رمضان، التي تعرفها مصر منذ مئات السنين، تراجعت بشدة هذا العام (2023) بسبب الارتفاع في أسعار المواد الغذائية اللازمة للموائد، بحسب تقرير لموقع Middle East Eye البريطاني عنوانه "موائد الرحمن في مصر.. تقليد رمضاني تأثر بالمشكلات الاقتصادية".
إسماعيل الحسيني (46 عاماً)، الذي يعمل طاهياً في حفلات الزفاف، عادة ما يأخذ استراحة من حفلات الزفاف خلال شهر رمضان ويتفرغ لموائد الرحمن، وهي عبارة عن تقليد مصري يتيح للمارة والمحتاجين وآخرين الجلوس وتناول الإفطار مجاناً على مائدة كبيرة.
ويعود تاريخ موائد الرحمن في مصر، بحسب أغلب المؤرخين، إلى عهد السلطان أحمد بن طولون عام 880 ميلادية، أي قبل 1245 عاماً. وكان ابن طولون أول من أقام مائدة الرحمن، لكنه أعدها لكبار التجار والأعيان في مصر للإفطار في أول يوم من شهر رمضان، وكان هدفه هو أن يذكرهم بالإحسان إلى الفقراء والمساكين. وأمر ابن طولون بأن تظل مائدة الإفطار مقامة طوال أيام شهر رمضان.
وقام الأعيان وكبار التجار بتقليد السلطان فأعدوا أيضاً موائد إفطار للفقراء والمحتاجين وعابري السبيل، وهكذا أصبحت موائد الرحمن من أبرز التقاليد المرتبطة بشهر رمضان في مصر.
وبالعودة إلى الحسيني، الذي عادة ما يكون جدوله ممتلئاً طوال شهر رمضان في القاهرة والجيزة، لإعداد الطعام لموائد الرحمن، إلا أن الأزمة الاقتصادية التي تشهدها البلاد في رمضان هذا العام أثرت على عمله. وقال لموقع Middle East Eye: "أؤدي هذا العمل منذ 15 عاماً. وهذا العام أول عام لا يمتلئ فيه جدول مواعيدي عن آخره".
وقال الحسيني: "انخفض عدد موائد الرحمن انخفاضاً كبيراً، وتناقصت أعداد المتبرعين للأعمال الخيرية بسبب ارتفاع الأسعار. ومائدة رحمن واحدة كانت تكفي لإطعام 2500 شخص في المرة الواحدة – وأكثر من ذلك أحياناً- لكن هذا صعب الآن".
وفي موائد الرحمن التي زارها موقع Middle East Eye في القاهرة والجيزة، جلس أشخاص من الجنسين ومن مختلف الطبقات والخلفيات الاجتماعية إلى الموائد، ومن ضمنهم عمال توصيل وممرضات ومجندون ومارة. لكن أعداد موائد الرحمن، التي تعرفها مصر منذ مئات السنين، تراجعت بسبب الارتفاع في أسعار المواد الغذائية اللازمة للموائد.
أول مرة على مائدة الرحمن في رمضان
وفي حي السيدة زينب، أحد أحياء الطبقة العاملة المزدحمة بالسكان في وسط القاهرة بالقرب من مسجد السيدة زينب، كانت أسرة مكونة من أربعة أفراد تنتظر في طابور أمام إحدى موائد الرحمن.
وعائلة سليم، المكونة من زوجين وطفلين، من مدينة سوهاج، أتوا إلى العاصمة لإتمام بعض الأوراق الحكومية، لكنهم لا يستطيعون تحمل أسعار المواد الغذائية في العاصمة. قال الزوج محمد لموقع Middle East Eye: "أصطحب طفلَي وزوجتي إلى هذه الموائد. وإلا فلن نجد غير الخبز والجبن".
أما سيدة عثمان، وهي ربة منزل تبلغ من العمر 56 عاماً من إمبابة، حي الطبقة العاملة في شمال الجيزة، فقد كانت حتى العام الماضي قادرة على سد نفقاتها وكانت دوماً حريصة على دعوة أسرتها في شهر رمضان، ومساعدة الآخرين المحتاجين. أما هذا العام، فوقعت الأم لثلاثة أطفال، مثل آلاف المصريين الآخرين، في دائرة الفقر وتتمنى أن يوفر لهم الشهر الكريم بعض المنح الخيرية.
فعادة ما يرتفع حجم التبرعات الخيرية في شهر رمضان، وينتظر الآلاف في مصر هذا الشهر لتناول وجبة غنية بالبروتين، مثل اللحوم أو الدجاج، فيما يعتمد آخرون على المساعدات المالية المقدمة من الجمعيات الخيرية أو المؤسسات الدينية.
وقالت سيدة لموقع Middle East Eye إنها سجلت في ثلاثة مساجد وتنتظر دورها لتلقي أي دعم لها ولأبنائها. وهي تأمل أيضاً أن تحصل على كرتونة مساعدات غذائية من التي تحتوي عادة على كميات من الأرز والزيت والمعكرونة والسكر يبلغ وزنها الإجمالي حوالي 10 كيلوغرامات. وهي لا تكفي لتلبية احتياجات الفقراء لنحو أسبوع، لكنها كافية لمواجهة غلاء المعيشة.
وقالت للموقع البريطاني: "لم يخطر ببالي يوماً أنني سأطلب المساعدة أو أنتظر من الناس أن يعطوني بعض المال أو بعض الطعام"، وأضافت أن وضع العائلات في دوائرها لا يختلف كثيراً عن وضعها: "أرى أشخاصاً كُثُراً أعرفهم يقفون في طوابير الأعمال الخيرية ليسجلوا أسماءهم. وأنا من حرجي ارتديت النقاب حتى لا يعرفني أحد ويخجل أبنائي".
وقالت إنصاف (45 عاماً)، الممرضة، لموقع Middle East Eye: "رمضان كان شهراً نتسابق فيه على طهي أشهى الوجبات، ولكن هذا العام مجرد إطعام العائلة يشعرنا بالسعادة".
وإنصاف، التي تعمل من التاسعة إلى الخامسة في مستشفى حكومي، تعمل أيضاً ممرضة خاصة في إحدى دور المسنين. وقالت: "كنت أرفض أخذ بقايا الطعام من الدار التي أعمل بها، لكني أضطر لأخذها الآن".
ماذا تفعل الحكومة لمواجهة الأزمة؟
عامل آخر في مؤسسة خيرية تنظم مائدة رحمن، اسمه سعيد جنيش، يعتبر أن اللوائح الحكومية سبب آخر لانخفاض أعداد موائد الرحمن المتاحة. وأشار إلى إلزام الحكومة بالحصول على الموافقات والتراخيص الأمنية التي اعتبرها "غير مقبولة" لأن هذه الموائد عمل خيري لا يهدف إلى الربح.
وقال جنيش: "أتمنى أن يسهّلوا الحياة علينا وألا يعقدوا الأمور. ففي النهاية، يجلس العشرات من المجندين وضباط الرتب الصغيرة إلى هذه الموائد ليأكلوا. هذا عمل خيري لوجه الله".
وقال ياسر (55 عاماً)، العامل في جمعية خيرية تنظم مائدة رحمن، لموقع Middle East Eye: "في السنوات السابقة، كان الناس يحجزون مكاناً قبل صلاة المغرب بساعة، لكنهم الآن يحجزون قبلها بـ3 ساعات".
وأضاف ياسر، الذي يعمل مع إحدى الطوائف الصوفية في القاهرة منذ خمس سنوات: "هذا العام، يقف شباب ورجال يرتدون بدلات ونساء بمظهر جيد في الطوابير للحصول على وجبات".
الحكومة المصرية أطلقت الأسبوع الماضي مبادرة "كتف بكتف" لتوزيع المواد الغذائية علناً على الفقراء، في حفل كبير في ستاد القاهرة الدولي حضره الرئيس عبد الفتاح السيسي وبث على الهواء مباشرة.
وبحسب أصحاب المبادرة، فهم يوزعون حوالي ستة ملايين كرتونة من المواد الغذائية، لكن هذه المبادرة قوبلت بانتقادات ووصفت بأن غرضها دعائي و"مهينة للمصريين".
إذ قال عضو بارز في الحركة المدنية الديمقراطية، وهي عبارة عن ائتلاف من سبعة أحزاب معارضة ليبرالية اشتراكية، لموقع Middle East Eye إن "النظام يعلن أنه يعالج الأزمة الاقتصادية بكراتين الحصص الغذائية والأعمال الخيرية، وليس بإجراءات اقتصادية شاملة تضع حداً لهذه الأزمة".
وقال الناشط السياسي: "جمع الآلاف من الناس لمنحهم الأرز والسكر لن ينقذ النظام، واستغلال فقر الملايين والتقاط الصور لهم وهم يمنحونهم الطعام حيلة رخيصة".
وقالت متطوعة أخرى تدعى ندى (35 عاماً)، وهي من إمبابة: "مؤلم جداً أن تعلم أن جيرانك ربما لا يتمكنون من الاحتفال بشهر رمضان كما كانوا يفعلون في السنوات الماضية".
وأشارت ندى إلى أن الكثير من الجمعيات الخيرية أغلقت أبوابها أو أغلقتها الحكومة، وقالت: "أُغلقت الكثير من المنظمات الخيرية ذات التوجهات الإسلامية أو قُيدت أنشطتها بسبب خصومة الحكومة مع الإخوان المسلمين والسلفيين". وأضافت أن بعض الناس يخافون التبرع للجمعيات الخيرية الباقية خشية اتهامهم بالإرهاب.
وتنتمي ندى لعائلة من الطبقة المتوسطة، وتخشى أن تكون هي وعائلتها من يطلبون المساعدات المالية الغذائية خلال السنوات القليلة المقبلة. وقالت للموقع البريطاني: "أتمنى أن يجنّبني عملي التطوعي ذلك".
الخلاصة هنا أن الأزمة الاقتصادية التي تواجهها مصر لا تبدو لها نهاية وشيكة، إذ قرر البنك المركزي، مساء الخميس 30 مارس/آذار الماضي، رفع سعر الفائدة بنسبة 2% في محاولة للسيطرة على التضخم الذي سجل ارتفاعات قياسية خلال فبراير/شباط الماضي.
وتظهر انعكاسات الأزمة بصورة مأساوية أحياناً، مثل القبض على سيدة تبلغ من العمر 45 عاماً، لسرقتها عبوة برجر من سوبر ماركت في مصر من أجل إطعام أطفالها، وصرَّح مصدر قانوني لموقع Middle East Eye، بأنَّه جرى إخلاء سبيل السيدة بعد انهيارها أمام وكيل النيابة. وأصبحت مثل هذه الحوادث أكثر شيوعاً في مصر، بعد أن دفع التضخم المرتفع جداً المزيد والمزيد من الأسر نحو الفقر والعجز عن شراء المنتجات الغذائية الأساسية.