تشتهر بوردو، الواقعة في جنوب غربي فرنسا، تقليدياً بمزارع الكروم المحيطة والسياسة المحافظة والثروة الاستعمارية. لكن تحولت بوردو الآن إلى نقطة اشتعال عنيفة في موجة احتجاجات التقاعد الفرنسية؛ فيما يمثل مقياساً لمدى الغضب الذي أثاره قرار حكومة ماكرون فرض قانون يرفع سن التقاعد إلى 64 عاماً من 62 عاماً، وأن هذا الغضب تجاوز أزمة التقاعد إلى ما هو أكبر من ذلك بكثير.
واحتل طلاب جامعة بوردو مبانيها، وأوقفوا الدراسة. وتدفق عدد قياسي من المتظاهرين إلى الشوارع الصخرية، التي أعلنتها منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو) موقعاً للتراث العالمي.
وانتهت الاحتجاجات بنيران وسُحب من الغاز المسيل للدموع، ولاحقاً أشعلت حفنة من المُحرّضين النيران في الأبواب العتيقة المؤدية إلى الفناء الواسع لمبنى مجلس المدينة، حسبما ورد في تقرير لصحيفة The New York Times الأمريكية.
بوردو غير المتمردة انضمت إلى احتجاجات التقاعد الفرنسية
وقال ماثيو أوبري، سائق حافلة وناشط نقابي، خلال مسيرة أخرى عبر وسط المدينة، يوم الثلاثاء 28 مارس/آذار 2023، وهو اليوم العاشر لاندلاع الاحتجاجات: "بوردو ليست عادةً مدينة احتجاجية".
وأضاف أوبري أنَّ خروج هذا العدد الكبير من الناس إلى الشوارع يكشف أنَّ "الحكومة قد تمادت كثيراً".
وكما هو الحال في معظم أنحاء البلاد، لم تكن احتجاجات يوم الثلاثاء ضخمة ولا عنيفة؛ مثل تلك التي حدثت الأسبوع الماضي. لكنها لا تزال تجتذب أعداداً كبيرة بما يكفي -80000 حسب تعداد النقابات، و11000 وفقاً لمدينة بوردو- في إشارة إلى أنَّ الغضب ضد الحكومة لا يزال قوياً.
ولأكثر من شهرين، احتج الفرنسيون على تعديل الرئيس إيمانويل ماكرون سن التقاعد. لكن بعدما استخدمت حكومته إجراءً دستورياً لتمرير القانون عبر البرلمان دون تصويت كامل، اشتدت الاحتجاجات.
لماذا على ماكرون القلق من انضمام الطلاب؟ فتّش عن دورهم عبر التاريخ
وفي العديد من الأماكن؛ مثل بوردو، انضم الطلاب إلى المظاهرات بقوة، ولطالما مثّل هذا تاريخياً علامة مشؤومة لمن هم في السلطة.
وقالت ميليسا ديديو، البالغة من العمر 21 عاماً، بعد ترديد هتاف آخر من هتافات الاحتجاج: "ليست باريس وحدها التي تحركت. لقد دخل ماكرون وشرطته في حرب معنا، لكننا سنحافظ على عزمنا…".
بعد فترة وجيزة من نجاة حكومة ماكرون من تصويت بحجب الثقة الأسبوع الماضي، اقتحم الطلاب أبواب مبنى العلوم الإنسانية بجامعة بوردو البالغ من العمر 140 عاماً، وأعلنوا احتلاله.
وقالت مايا لافونت (23 عاماً)، طالبة علم النفس في السنة الثالثة، وهي تقف تحت تماثيل نصفية من الحجر لعلماء فرنسيين بارزين تطل من واجهة مبنى الفنون الجميلة، المغطاة الآن برسوم غرافيتية مناهضة لماكرون: "نحن ندخل عصر الديكتاتورية".
وسيطر الطلاب على جميع الطوابق والعديد من المكاتب الإدارية، وكذلك قاعة محاضرات وساحة فناء جميلة، ويعقدون جلسات لصياغة الشعارات الاحتجاجية، وحفلات شوي حلوى الخطمي واجتماعات عامة. وعلى الرغم من أنَّ معركتهم رسمية مع الرئيس وحكومته، قال كثيرون إنهم غاضبون أيضاً من إدارة الجامعة؛ لعدم اتخاذ موقف رسمي ضد قانون التقاعد.
وأضافت الطالبة لافونت، وهي تراقب بتوترٍ ثلاثة رجال شرطة يمرون: "لم يدافعوا عن مصالحنا على المدى الطويل".
طلاب يحتلون حرم جامعة بأكمله ويوقفون الدراسة
بينما في جامعة بوردو مونتاني، الواقعة بضواحي المدينة، ذهب الطلاب لأبعد من ذلك باحتلال الحرم الجامعي بأكمله. وعادةً ما يضم حرم جامعة الفنون الحرة 18000 طالب، حتى تشعر كأنه مشهد من فيلم خيال علمي عن نهاية العالم. والآن، يحيط مداخل مبانيها طاولات ومقاعد، والعديد من جدرانها البيضاء مكتوب عليها رسائل غاضبة؛ من ضمنها تلك الرسالة المروعة "تحيا النار".
من جانبها، أوضحت جوليا تشينارو (27 عاماً)، وهي تخرج من مبنى الطلاب الذي تحوّل الآن إلى غرفة نوم مشتركة: "لقد أغلقنا المدرسة لتمكين الطلاب من التعبئة. حتى لو لم يكن لديك فصول دراسية، مع 35 ساعة في الأسبوع من الدراسة والبحث، فلا يوجد وقت للاحتجاج".
مضى على احتلال الجامعة الآن أسبوعان، لكن أعداد الطلاب المحتجين تتضخم بعدما فرضت الحكومة القانون. واتسعت المظالم بشدة من الغضب، من القانون الفردي لإصلاح نظام التقاعد إلى أسلوب الحكومة في الحكم والدستور الذي يسمح لها بذلك.
وأوضح أكسل ميتشين (22 عاماً)، طالب مسرح ومجند حديثاً في الاحتلال الطلابي: "أصواتنا لا تُسمَع، وهذا غير ديمقراطي تماماً. إذا كنا نريد تغيير هذا، فالآن هو الوقت المناسب".
ليس لديهم ما يخسرونه.. الحركات الطلابية كانت قادرة دوماً على تخويف الحكومات
عبر تاريخ فرنسا، كانت للحركات الطلابية القدرة على تخويف الحكومات. أطلق طلاب الجامعات شرارة ثورة 1968 التي دامت شهوراً، والتي قلبت الأعراف الاجتماعية للبلاد ودفعت الرئيس وقتها إلى حل حكومته والدعوة إلى انتخابات جديدة. وفي مواجهة احتجاجات طلابية كبيرة في عام 2006، ألغت الحكومة عقد وظائف الشباب بعد وقت قصير من تمريره.
ولفت ليونيل لاري، رئيس جامعة بوردو مونتاني، إلى أنَّ "إعادة الطلاب إلى دراستهم أصعب بكثير. فليس لديهم الكثير ليخسروه. وأعدادهم هائلة".
وقال لاري: "أخشى أن تزداد الحركة راديكالية، ويعتقد الناس أنه ليس لديهم ما يخسرونه".
هناك عدم ثقة بالنظام والبعض يفضل الاشتباك مع الشرطة
ومن داخل مبنى مجلس مدينة بوردو الذي أحرق المحتجون أبوابه الأثرية منذ أيام، يقلق العمدة بيير هيرميك أيضاً. فبعد أن مرت الأزمة بمرحلة اجتماعية وسياسية، يرى هيرميك أنها كشفت عن شيء أكثر إثارة للقلق وهو "شرخ ديمقراطي بين الحكومة والمحكومين".
ويبدو أنَّ إحراق أبواب مجلس المدينة يدعم هذه النظرية ضمنياً.
ومن غير الواضح ما إذا كان لحادث الحرق هذا صلة بالاحتجاجات، لكن إذا كُشف عن مثل هذه الصلة، فستلحق الضرر بالحركة. وفي باريس، تخلى بعض المتظاهرين عن المسيرات النقابية المعتادة، معتبرين أنها غير فعالة، واختاروا الخروج في مسيرات ليلية "جامحة" والتي غالباً ما تؤدي إلى مواجهات عنيفة مع الشرطة.
وفي بوردو، أعرب العديد من الطلاب عن رفضهم للعنف، لكنهم تفهموا الغضب الذي يحرّكه. قال رافائيل ديبلات (19 عاماً)، وهو طالب في كلية علوم بو بوردو، التي أغلقها طلابها أيضاً: "لست متأكداً من أنَّ العنف حل جيد، لكنني لا أرى أيضاً حلاً آخر".
وذهب البعض إلى حد القول إنَّ أبواب مبنى مجلس المدينة المحترقة تمثل "رمزاً للمقاومة".
قالت الطالبة مايا لافونت: "إنها توصل رسالة بألا يُطبِّق (ماكرون) القانون الجديد، وأننا سنبذل قصارى جهدنا للتأكد من حدوث ذلك".
صراعهم الآن بات مع الدستور ورئاسة ماكرون
لكن بالنسبة لكثيرين، فإنَّ إلغاء قانون التقاعد -أو تعليقه مؤقتاً، كما اقترح زعيم نقابي وطني مؤخراً- لم يعد كافياً. فقد صار صراعهم الآن مع دستور يمنح كثيراً من السلطة للرئاسة، ولحكم ماكرون على وجه الخصوص.
وقالت هيلين سيركلي (22 عاماً)، من بين حشد من طلاب يغنون بقيادة فرقة موسيقية في مسيرة يوم الثلاثاء 28 مارس/آذار: "انتصارنا سيكون نهاية هذه الحكومة". وأشارت سيركلي إلى أنها لا تخشى من أنَّ الاحتجاجات ستضعُف، لكنها "خائفة في الغالب من ألا يغير كل هذا شيئاً".