قد تدفع قريباً أكثر من 100 دولار زيادة في سعر الهاتف المحمول بسبب قانون أمريكي ييأتي في طار حرب التكنولوجيا بين الصين وأمريكا يهدف إلى محاصرة بكين، يمكن وصفه بأنه بداية موت العولمة التي عرفناها منذ عقود، ومكنتنا من الحصول على التكنولوجيا بأسعار مناسبة.
فالعولمة بمفهومها الحديث تكاد تكون نتاج شراكة صينية أمريكية، مع دور أوروبي وآسيوي كبير، حيث يقدم الهاتف الشهير الآيفون، نموذجاً واضحاً لذلك، حيث يصمَّم في أمريكا ويُصنَّع في الصين، ويستهلك في بقية العالم.
ولكن هذا النمط من الإنتاج يوشك على الانتهاء، وهو ما أظهرته التفاصيل التنظيمية لقانون الرقائق الإلكترونية، الذي يستهدف نقل هذه الصناعة إلى الأراضي الأمريكية، إذ جاءت القيود التي فرضها القانون على تعامل الشركات العالمية مع الصين أشد من المتوقع.
فقد تواجه الشركات المنتجة لأشباه الموصلات، التي تسعى للحصول على منح فيدرالية بموجب قانون الرقائق قراراً صعباً، وهو الاختيار بين تلقي مساعدة واشنطن للتوسع في الولايات المتحدة، أو الحفاظ على قدرتها على التوسع في الصين، حسبما ورد في تقرير لصحيفة Wall Street Journal الأمريكية.
مسموح لكم بالبقاء في الصين ولكن دون توسع
وطرحت إدارة بايدن الأسبوع الماضي قواعد جديدة توضح بالتفصيل القيود التي قد تواجهها الشركات المنتجة للرقائق على العمليات في الصين ودول أخرى يصفها القانون بالمثيرة للقلق.
وهي قيود على شركات التكنولوجيا الالتزام بها إذا قبلت الحصول على تمويل حكومي أمريكي.
كانت بعض القيود المقترحة، والمعروفة باسم حواجز الحماية في مواجهة الصين، أكثر صرامة مما توقعه مديرو الصناعة والمحامون ومحللو الأمن القومي -سواء بالنسبة لمصانع أشباه الموصلات المتطورة اللازمة لأنظمة الأسلحة العسكرية المتقدمة، أو تلك المصانع التي تنتج ما يسمى بالرقائق القديمة المستخدمة في الإلكترونيات الاستهلاكية.
ويهدف قانون الرقائق، الذي وقع عليه الرئيس الأمريكي، جو بايدن، في أغسطس/آب، وتبلغ تكلفته 50 مليار دولار، إلى تجديد ريادة الولايات المتحدة في تكنولوجيا أشباه الموصلات المتقدمة، ودرء المنافسة مع الصين. ويحظر القانون "المعاملات المهمة التي تنطوي على التوسع المادي" للقدرة التصنيعية لأشباه الموصلات الرائدة والمتقدمة في البلدان الأجنبية محل الاهتمام.
سيمنع قانون الرقائق الشركات التي تفوز بمنح مقدمة من الحكومة من زيادة إنتاجها بنسبة 5٪ للرقائق المتقدمة في الصين، و10٪ للتكنولوجيا الأقدم. كما حددت وزارة التجارة الأمريكية تدابير أخرى بما في ذلك سقف إنفاق قدره 100 ألف دولار على الاستثمارات في القدرات المتقدمة في الصين.
وتغطي هذه القواعد فترة 10 سنوات، للسماح للشركات بإجراء تعديلات في استراتيجيتها طويلة الأجل للصين.
القانون يهدف إلى محاصرة الصين تكنولوجياً
وقال المتحدث باسم وزارة الخارجية الصينية، وانغ ون بين، يوم الأربعاء في مؤتمر صحفي في بكين، إن حكومته قدمت شكوى دبلوماسية إلى الولايات المتحدة بشأن القيود الأخيرة.
وأضاف: "إن هذا حصار علمي وتكنولوجي شامل وحمائية"، مضيفاً أن بكين ستحمي حقوق ومصالح الشركات الصينية. "والاحتواء لن يمنع الصين من النمو، وسوف يقوي فقط قرارنا بالسعي إلى التنمية الذاتية".
وتراجعت أسهم شركة إنتل 2.4% في نيويورك، يوم الأربعاء.
وقالت وزيرة التجارة الأمريكية، جينا ريموندو، في بيان: "قانون الرقائق لأمريكا في الأساس مبادرة للأمن القومي، وتساعد هذه الحواجز على ضمان عدم وصول ما وصفته بـ"الجهات الفاعلة الخبيثة" إلى التكنولوجيا المتطورة التي يمكن استخدامها ضد أمريكا وحلفائها".
في حين أن القواعد المقترحة تحدّ من التوسع في التصنيع في الصين، ولكن لا يزال بإمكان متلقي المنح إجراء ترقيات تكنولوجية لمنشآته الحالية لإنتاج أشباه موصلات أكثر تقدماً هناك، إذا حصلت الشركات على التراخيص الضرورية للرقابة على الصادرات من وزارة التجارة للقيام بذلك، حسبما نقلت وكالة "Bloomberg" الأمريكية عن مسؤول مطلع على القاعدة.
يمكن للحكومة الفيدرالية أيضاً استرداد تخفيضات ضريبية إذا زادت الشركات طاقة إنتاج أشباه الموصلات في بلد أجنبي مثير للقلق (حسب توصيف القانون للصين وروسيا) في غضون 10 سنوات من فوز الشركة المعنية بهذه الحوافز.
تساوي هذه التخفيضات التي يمكن استردادها بشكل عام 25٪ من الاستثمارات المؤهلة في منشأة لتصنيع أشباه الموصلات أو إنتاج آلات إنتاج الرقائق في الولايات المتحدة، وفقاً لبيان منفصل من وزارة الخزانة الأمريكية.
سيتم أيضاً منع متلقي المنح الفيدرالية من المشاركة في بحث مشترك مع أو ترخيص التكنولوجيا إلى كيان أجنبي من دول خاضعة لعقوبات القانون. سيغطي ذلك أي بحث وتطوير يقوم به شخصان أو أكثر.
الشركات أمام خيار صعب بين الصين وأمريكا، وبعضها قد يفضّل عدم تلقي منح من واشنطن
العديد من شركات التكنولوجيا أمام خيار صعب بين العملاقين الاقتصاديين الصين وأمريكا.
وقالت أنجيلا ستايلز، المحامية التي تعمل في شركة أكين غامب للمحاماة، التي تقدم المشورة لشركات صناعة أشباه الموصلات: "هذه القيود ستجعل العديد من الشركات تتساءل عما إذا كانت تريد قبول التمويل الفيدرالي لصناعة الرقائق".
ستكون القيود مرهقة بشكل خاص لشركات شرق آسيا التي لديها عمليات كبيرة في الصين، حيث استثمرت بالفعل مليارات الدولارات. ومن بين هذه الشركات شركة سامسونغ للإلكترونيات، وشركة SK Hynix الكورية الجنوبية، وهما أكبر شركتين في العالم لتصنيع شرائح الذاكرة، وشركة تايوان لصناعة أشباه الموصلات المحدودة، أكبر شركة لتصنيع الرقائق في العالم.
وقال وزير التجارة، آن دوك-جيون، في سيول مؤخراً، قبل تقديم مقترحات مفصلة من وزارة التجارة الأمريكية بشأن حواجز الحماية لقانون الرقائق، إن القيود الأمريكية المفروضة على صادرات الرقائق المتقدمة والمعدات اللازمة لتصنيع الرقائق إلى بكين ستصعِّب استمرار الشركات الكورية الجنوبية في الاستثمار في الصين.
وقال إن الأمر متروك للشركات لاتخاذ هذه القرارات.
قالت وزيرة التجارة الأمريكية، جينا رايموندو، إن إدارة بايدن لا تسعى إلى الانفصال اقتصادياً عن الصين.
وأضافت، في مقابلةٍ صحفية مع صحيفة Wall Street Journal الأمريكية: "نريد أن تواصل الشركات الأمريكية القيام بأعمال تجارية في الصين ومعها. لكن علينا أن نكون متفهمين تماماً للمخاطر التي تتعرض لها الولايات المتحدة".
وقالت إن الصين أوضحت أنها تريد الوصول إلى التكنولوجيا الأمريكية الأكثر تقدماً لدمجها في قدرتها العسكرية. قالت: "هذا ما لا يمكننا السماح به".
وقالت رايموندو إنها قد تزور الصين هذا الخريف؛ للحفاظ على التواصل مفتوحاً مع بكين، وللتأكد من أن الشركات الأمريكية يمكن أن تعمل على أساس تكافؤ الفرص.
رسالة للشركات الكبرى بعدم المراهنة على بكين مستقبلاً
الشركات الكبرى التي يُنظر إليها على أنها مرشحة للحصول على تمويل قانون الرقائق تحجب إلى حد كبير التعليقات العامة في الوقت الحالي في ظل حيرتها أمام نذر حرب التكنولوجيا بين الصين وأمريكا.
قالت شركة سامسونغ إنها تجري "مناقشات وثيقة مع الوكالات الحكومية ذات الصلة في الولايات المتحدة وكوريا" وتخطط لتحديد خطواتها التالية بعد مراجعة تفاصيل التمويل.
تقوم سامسونغ ببناء مصنع متطور لصناعة الرقائق بقيمة 17 مليار دولار في تايلور، تكساس، وفي العام الماضي طرحت خططاً لاستثمار ما يصل إلى 200 مليار دولار في مصانع تصنيع الرقائق في تكساس.
ورفضت شركة تايوان لصناعة أشباه الموصلات المحدودة، التي لديها خطة 40 مليار دولار لبناء مجمع للرقائق المتطورة في ولاية أريزونا، التعليق.
وكشفت شركة SK Hynix عن خطط لإنشاء مصنع جديد لتعبئة الرقائق المتقدمة في الولايات المتحدة، حيث ستجري الخطوات النهائية لعملية تصنيع أشباه الموصلات. وقالت إن الغموض الذي يكتنف عمليات منشآتها الصينية قد تلاشى من خلال المحادثات بين حكومتي كوريا الجنوبية والولايات المتحدة، وإنها ستراجع عن كثب إعلانات واشنطن.
وقالت ريفا جوجون، مديرة استشارات الشركات الصينية في مركز Rhodium Group البحثي: "تستخدم الولايات المتحدة السياسة الصناعية لتوجيه سلاسل التوريد لأشباه الموصلات في الاتجاه الذي تريده، ومن الواضح أن هذا الاتجاه بعيد عن الصين".
وقالت إن السياسة ترسل إلى مثل هذه الشركات "إشارة واضحة بأن عليها أن تضع في اعتبارها ألا يكون لها وجود في مجال إنتاج أشباه الموصلات في الصين في الصدارة أو مستداماً".
أمريكا تتوعد حتى بملاحقة التوسعات المتواضعة لصناعة الرقائق في الصين
كانت وزارة التجارة الأمريكية صريحة في صرامة هذه الحدود.
ونصت القواعد المقترحة، والتي تمر الآن بفترة تعليق مدتها 60 يوماً قبل أن تكتمل هذا الصيف، على أن "هذه الحدود تهدف إلى التقاط حتى المعاملات المتواضعة التي تحاول توسيع القدرة التصنيعية".
بالنسبة للشركات المصنِّعة للرقائق، تمثل المنشآت التي تتخذ من الصين مقراً لها سنوات من الاستثمار وهي مسؤولة عن جزء كبير من قدرة إنتاج الرقائق في العالم.
قد تفقد Intel وSamsung وTSMC المزيد من النمو بسبب هذه الحواجز، حسب بلومبيرغ.
مصانع عملاقة في الصين مهددة
تدير شركة سامسونغ مصنع شرائح ذاكرة وميضية NAND في مدينة شيان بوسط الصين ومنشأة لتعبئة الشرائح في مدينة سوجو الشرقية. وتدير شركة SK Hynix منشآت إنتاج شرائح ذاكرة DRAM في مدينة ووشي، وتمتلك مصانع لشرائح ذاكرة وميضية NAND في مدينة داليان من خلال صفقة أُبرِمَت في عام 2020.
وتقوم شركة تايوان لصناعة أشباه الموصلات المحدودة بتشغيل مرافق تصنيع الرقائق في مدينتي نانجينغ وشنغهاي الصينيتين.
واعتباراً من العام الماضي، استحوذت منشأة شيان من سامسونغ على ما يقرب من 16% من إنتاج ذاكرة فلاش NAND العالمية، في حين شكلت منشأة ووشي التابعة لشركة SK Hynix حوالي 12% من إنتاج ذاكرة DRAM العالمية، وتشكل منشأة داليان الخاصة بها حوالي 6% من إنتاج ذاكرة فلاش NAND.
وتساهم مصانع شركة TSMC التايوانية في شنغهاي ونانجينغ معاً بنحو 6% من إجمالي قدرة الشركة التعاقدية على تصنيع الرقائق.
القيود الجديدة ستجعل الأمر أكثر صعوبة بالنسبة لشركة TSMC لتوسيع مصنعها الصيني الأكثر تقدماً في مدينة نانجينغ الشرقية، حيث تقوم بتصنيع رقائق 28 نانومتراً وأكثر تقدماً 16 نانومتراً.
في أكتوبر/تشرين الأول 2022، قالت الشركة إنها حصلت على ترخيص لمدة عام واحد من الحكومة الأمريكية لزيادة الإنتاج في الصين، مع إعفائها مؤقتاً من إجراءات الرقابة الشاملة على الصادرات التي تم طرحها في ذلك الشهر.
إليك الزيادة المتوقعة في أسعار المنتجات
حتى قبل إصدار اللوائح الأخيرة التي جاءت أكثر صرامة من المتوقع، فإن الخبراء يحذرون من قانون الرقائق الأمريكي سيؤدي إلى رفع أسعار مجموعة واسعة من الأجهزة الإلكترونية الاستهلاكية.
يقول المحللون إن أحد الأمور المهمة هو أن تحويل التصنيع إلى الولايات المتحدة سيرفع سعر صناعة الرقائق – وربما أسعار الأجهزة الشائعة التي تستخدم الرقائق، مثل الهواتف الذكية ووحدات التحكم في الألعاب. يعتمد مقدار ارتفاع الأسعار بالضبط على مقدار الشركات ، بما في ذلك Apple وSamsung.
يعد جلب تصنيع الرقائق إلى الولايات المتحدة أمراً مكلفاً في كثير من النواحي، ليس فقط بسبب ارتفاع الأجور، ولكن لأن أمريكا رغم أنها هي التي اخترعت هذه الصناعة، وتقوم شركاتها بتصميم الرقائق، ولكن في مجال تصنيع الرقائق أصبحت بلداً مبتدئاً وهي تفتقد الكثير من المهارات في هذا المجال، وإنشاء العمليات وتوفير العمالة والمعدات أكثر تكلفة من الاستمرار في المنشآت القائمة في بلد مثل الصين أو تطويرها وتوسيعها.
وقال المدير المالي ويندل هوانغ لشركة تايوان لأشباه الموصلات أكبر شركة في هذا المجال في العالم، في أحدث تقييم حول أرباح الشركة أن بناء مصانع الرقائق في الولايات المتحدة أغلى بكثير مما هو عليه في تايوان، المصدر الرئيسي للرقائق اليوم.
وأضاف: "السبب الرئيسي لفجوة التكلفة هو تكاليف تشييد المباني والمرافق، والتي يمكن أن تكون أكبر بأربعة إلى خمسة أضعاف،
وتشمل التكاليف المرتفعة للبناء وتكاليف العمالة، وتكاليف وأنظمة السلامة والصحة المهنية وتعليم وتدريب الأفراد.
والارتفاع الكبير في أسعار الرقائق سيكون له آثار كبيرة على المستهلكين؛ لأن الرقائق تعد مكوناً كبيراً في التكلفة الإجمالية لتصنيع الهواتف.
حوالي 54٪ من تكلفة التصنيع المقدرة بـ527 دولاراً لجهاز iPhone 14 Plus تمثل تكلفة أشباه الموصلات في الهاتف، حسبما قال ناريندر لال المتخصص في معلومات أشباه الموصلات في أوتاوا بكندا لشبكة CNBC الأمريكية.
ويشعر بعض المديرين التنفيذيين للاتصالات بالقلق من حدوث زيادة كبيرة في التكلفة.
يستشهد روبرت موركوس، الرئيس التنفيذي لشركة Social Mobile، وهي مزود لخدمات الاتصالات المتنقلة للأعمال، بتقديرات بأن تكلفة صنع الرقائق يمكن أن ترتفع بنسبة تصل إلى 40٪، بسبب قانون الرقائق الأمريكي.
باستخدام iPhone كمثال، يمكن أن يعادل ذلك أكثر من 100 دولار كتكلفة جديدة.
بالقياس على بقية الهواتف، فإن نسبة الزيارة المتوقعة لأي هاتف محمول قد تكون حول 20% في المتوسط.
ولكن الأمر لن يقتصر على الهواتف الذكية، تدخل الرقائق في عدد كبير من المنتجات، تشمل الأجهزة الكهربائية مثل الغسالات والثلاجات، وبطبيعة الحال السيارات التي يمكن أن تكون قيمة الزيادة فيها آلاف الدولارات، علماً بأن أزمة الرقائق الإلكترونية رفعت أسعار السيارات بنسبة تصل إلى 20 %، وقد يؤدي القانون الأمريكي لزيادة تدور حول نفس المعدل.
كما أن ارتفاع أسعار التكنولوجيا والسيارات معناه ارتفاع بقية المنتجات حتى الغذائية، لأن التقنية والنقل، يمثلان عماد الحياة المعاصرة.
وبالتالي ففي الأغلب كل إنسان على وجه الأرض سيدفع ضريبة لبايدن بسبب قانون الرقائق الأمريكي الذي يهدف إلى محاصرة الصين وتوفير الوظائف للأمريكيين.