تواجه تونس، شأنها في ذلك شأن كثير من دول المنطقة العربية، أوضاعاً اقتصادية معقدة للغاية، فكيف تؤثر هذه الأزمات الخانقة على موائد الإفطار والسحور في شهر رمضان 2023؟
كان شهر رمضان قد بدأ الخميس 23 مارس/آذار 2023، وسط أزمة اقتصادية خانقة تعاني منها تونس، إذ تسجل المحلات والفضاءات التجارية نقصاً في العديد من المواد؛ مثل الزيت النباتي والسميد والسكر والأرز، وإن وجدت فيجري تحديد كمية معينة لكل مواطن.
تدخلات الحكومة قبل شهر رمضان
سعت السلطات التونسية للتحكم في الأسعار قبل حلول شهر رمضان، ففرضت حزمة من الإجراءات كتحديد هامش الربح وأسعار البيع القصوى لبعض المنتجات الحيوية كالبيض والدجاج وبعض الفواكه مثل الموز والتفاح، ووضع نقاط بيع "من المنتج إلى المستهلك" ذات الأسعار المنخفضة في عدة ولايات وفرضت رقابة على تجار التفصيل وسلاسل التوزيع.
لكن هل تكون هذه الإجراءات كافية لإيجاد مخرج من الأزمة الاقتصادية الخانقة؟ كان رئيس الجمهورية قيس سعيّد قد حذر، خلال فبراير/شباط 2022، التجار من خطورة المضاربة وأصدر أوامره بتتبع المضاربين والمحتكرين قضائياً، وقامت وزارة التجارة بحجز كميات هائلة من المواد الاستهلاكية الأساسية، لكن كل تلك الإجراءات لم تكن لها أية آثار إيجابية على حالة الأسواق، بل تفاقمت الأزمة بشكل واضح.
وبحسب الخبير الاقتصادي رضا اشكندالي، فإن سياسة تحديد الأسعار لن تكون كافية إذا لم ترفق بإجراءات للتحكم في ارتفاع كلفة الإنتاج والمواد الأولية في ظل تراجع قيمة الدينار التونسي، بهدف حماية الفلاحين ومساعدتهم عبر مراجعة الأداءات وعدم تركهم يتحملون الخسائر بمفردهم.
ومن جهة أخرى، لفت الخبير الاقتصادي إلى المخاطر المحتملة من وراء سياسة تحديد الأسعار على فرص الاستثمار، فضلاً عن الشكوك بشأن مدى قدرة الأجهزة الرقابية على ضبط الأسعار المناسبة في الأسواق، بحسب تقرير لشبكة DW الألمانية.
وعلى سبيل المثال تعمل في السوق المركزية فرقة قارة للمراقبة الاقتصادية من أجل معاينة الأسعار عن كثب وضمان التزود المنتظم بالسلع وعرضها للعموم. وخلال جولتها بالسوق تقول لطيفة الجدي، التي تعمل متفقدة لدى فرقة، لدويتش فيله: "صدرت قرارات ويجب احترامها، لا يجب أن يتجاوز سعر الموز خمسة دنانير وسعر التفاح 4.5 دينار"، مضيفة بتفاؤل: "يأتي رمضان بالخير والبركة والآن البداية المشرفة".
لكنّ الشكاوى من المواطنين تصل تباعاً إلى لطيفة؛ بسبب خرق الأسعار المحددة للموز في عدد من نقاط البيع بالسوق، مما يشير إلى صعوبة تطبيق تلك السياسة طوال الوقت.
سيف الله الباي، بائع الفواكه والتمور، لا يتفق مع السياسة الصارمة لتحديد الأسعار وهوامش الربح، وعلق على ذلك قائلاً: "عند الغلاء الشديد يكون من المهم تحديد الأسعار لكن إذا كان هناك توازن بين العرض والطلب فالأفضل أن يحدد السوقُ السعرَ".
التضخم في تونس
بلغت نسبة التضخم في تونس قبل حلول شهر رمضان 10.4%، بحسب البيانات الرسمية، وهي نسبة قياسية لم تعرفها تونس منذ عقود. ورغم ذلك يعتقد الخبير الاقتصادي رضا اشكندالي أن النسبة الحقيقية أعلى من ذلك بكثير إذا ما تم التركيز على السلة الغذائية، وهي على الأرجح عند حدود 25%.
لكن رغم الأزمة يحافظ التونسيون على حد أدنى من التفاؤل للاستمتاع بشهر رمضان، إذ لم يتخلف شكري عبيد عن موعده المعتاد بنقطة بيعه داخل السوق المركزي بالعاصمة. لكن اليوم الأول من شهر رمضان يحمل آمالاً مختلفة كونه يتطلع إلى تعويض أشهر من الركود لنشاطه في بيع "الملسوقة".
"الملسوقة" ورقة من العجين يستخدمها أغلب التونسيين في شهر رمضان؛ حيث يتم حشوها بخليط من البيض والبقدونس والتونة مع بطاطس مسلوقة قبل وضعها في المقلاة لتشكل بذلك أكلة "البريك"، التي لا تغيب عن الأطباق الرمضانية.
على مدى عدة أشهر، هبط حجم معاملات شكري، وتحديداً منذ بداية الحرب الروسية في أوكرانيا، التي أثرت بشكل كبير على الإمدادات العالمية للحبوب، ما أثَّر بشكل مباشر على مورد رزق الآلاف من العائلات التونسية التي تُعِدُّ الملسوقة في البيوت.
وقال شكري لدويتش فيله: "الدقيق والسميد غير متوفرين بالكميات الكافية؛ لهذا نضطر إلى التزود بها من السوق السوداء، ويعني ذلك بأسعار أعلى. لكن لا مفر من ذلك إذا ما أردنا الاستمرار في البيع".
وبطبيعة الحال، يضطر شكري إلى تقديم إيضاحات مستمرة لزبائنه لشرح أسباب الزيادة في أسعار الملسوقة هذا العام. ويضيف: "الأرباح تقلصت مقارنة بالسنوات الماضية. نجني أقل من الحد الأدنى".
زادت أسعار الملسوقة بمعدل 30 بالمئة عن أسعار رمضان العام الماضي لتصبح في حدود 1.3 دينار أي حوالي 40 سنتاً. وإجمالاً تراوحت الزيادات في أسعار المواد الغذائية بما في ذلك اللحوم البيضاء والحمراء ما بين 30 و50 بالمئة.
وبالتالي فإن آمال شكري وغيره في تحقيق أرباح أفضل من بيع الملسوقة هذا العام، تظل متوقفة على مدى قدرة الدولة على السيطرة على أسعار باقي المواد الغذائية وكبح الغلاء، الذي يقض مضجع الكثير من التونسيين خلال الأيام الأولى لشهر رمضان.
رمضان.. شهر الخير والتعاون
ومهما يكن من أمر، فإن الجلبة في السوق المركزي لا تتوقف، بينما يتزايد توافد التونسيين لاقتناء حاجياتهم لشهر رمضان، في مشهد لا يعكس حقيقة الأزمة المتفاقمة.
مثل أغلب الوافدين على السوق المركزية منذ ساعات الصباح الأولى، يتطلع لطفي بن سعيد لاقتناء الموز المستورد من مصر، بعد أن حددت الدولة أسعاره، ولكن بعد أن ظل منتظراً في الطابور نفد الموز خلال دقائق فقط قبل وصول دوره.
وبعد أن قام بتمشيط نقاط البيع في السوق، قال لطفي بأسف: "الأسعار لا تطاق لا يمكنني مجاراة الوضع.. تم تسعير الموز هنا، ولكن في عدة نقاط بيع وصل سعره إلى 10 دنانير".
لا يتجاوز مرتب التقاعد الذي يتقاضاه لطفي بعد 18 عاماً قضاها في العمل بوزارة الثقافة، 120 دولاراً شهرياً، وهو مبلغ يقل عن الأجر الأدنى المحدد بنحو 150 دولاراً. ويعترف بأنه لا يملك رؤية واضحة لقضاء شهر رمضان، مضيفاً بتنهيدة عميقة: "لا أريد التفكير كثيراً في الوضع أحاول العيش كل يوم بيومه.. نعيش بما سيأتي به الله".
وعلى عكس لطفي، فإن وقع الأزمة الاقتصادية الخانقة في تونس كان أقل وطأة على العسكري المتقاعد محمد الهادي، البالغ من العمر 75 عاماً، والسبب هو أن اثنين من أبنائه يعملان في أوروبا، بألمانيا وفرنسا، ويوفران له إمدادات مالية بصفة شهرية، الأمر الذي ساعده على مجابهة كلفة المعيشة بأريحية.
وقال الهادي: "ليس هناك شك بأن المعيشة اليومية أصبحت مكلفة. الفقراء عاجزون عن مجابهتها، ومن جهة أخرى ينفق التونسيون الكثير من الأموال على الكماليات. هناك أزمة عالمية، وعلينا أن نكون واعين بهذا الأمر ونعدل من سلوكنا".
اعتمد الهادي على استراتيجية "فعالة" لتفادي الهدر المجاني للمال، فهو لا يدخن ولا يجلس في المقاهي ويشتري ملابس مستعملة من الأسواق الشعبية. ويضيف ضاحكاً: "حتى تصمد أمام الأزمة وتتدبر أمرك عليك أن تكون متعدد الاختصاصات والمواهب".
ولمساعدة العائلات المحتاجة، تنظم منظمات من المجتمع المدني موائد إفطار جماعية، وهو تقليد سنوي منتشر في الأحياء الشعبية، كما تعمل منظمة "الهلال الأحمر" على مد يد العون للعائلات الفقيرة والاستجابة لحاجياتهم الغذائية في شهر رمضان، ويطلق على هذه العائلات تسمية "أصحاب الحق".
زياد سلايمي ورفاقه، الناشطون في فرع المنظمة بحي ابن خلدون الشعبي غرب العاصمة تونس، يحاولون تجميع ما أمكن من المشتريات من المتبرعين أمام إحدى المساحات التجارية؛ حيث نصبوا خيمتهم لتلقي المساعدات.
ويقول زياد: "نجمع التبرعات ونقدمها لأصحاب الحق وقمنا بتسجيل نحو 250 عائلة في المنطقة، وهي غير قادرة فعلاً على مجابهة المصاريف اليومية. لدينا أيضاً عائلة تتضمن ثمانية أطفال".
وعلى غير المعتاد، فإن المساعدات الاجتماعية بدأت تطال بشكل متزايد عائلات منتسبة إلى الطبقة الوسطى، ويرجع زياد ذلك إلى التقلبات التي شهدتها البلاد منذ تفشي جائحة كورونا، ويضيف زياد: "هناك من ساءت أوضاعهم بشدة".
وبسبب تلك التقلبات تعتقد المنظمة التونسية للدفاع عن المستهلك أنه لم يعد ممكناً تحديد المعايير بدقة لضبط متوسط الدخل للمواطن التونسي في ظل انفلات الأسعار، الذي اجتاح أيضاً قطاعات أخرى بخلاف المواد الاستهلاكية، مثل النقل والمحروقات والإنترنت والإيجار والطاقة.
ويقول عمار ضيا، رئيس المنظمة: "كنا نتحدث عن متوسط دخل يتراوح بين 1000 و1500 دينار. هذا الدخل لا يكفي لتغطية كلفة المعيشة في تونس اليوم". وفي تقدير ضيا، فإن الدولة وحدها تتحمل وحدها مسؤولية غلاء المعيشة بتركها الأسواق تتحكم بقانون العرض والطلب، مضيفاً: "الدولة تركت الحبل على الغارب ومن مسؤوليتها حماية المستهلك والمواطن؛ بأن تحدد الأسعار وبخاصة المواد ذات الإقبال الواسع".