لوهلة فكر بوتين في المشاركة بـ"غزو العراق"، تحت قيادة أمريكية، ولكن الرئيس الروسي أصبح أشد معارضي الحرب التي تحولت للحظة فارقة أدت إلى بداية التدهور المستمر في العلاقات الأمريكية الروسية.
وحفزت الذكرى العشرون للغزو الأمريكي للعراق التفكير في التداعيات الجيوسياسية بعيدة المدى للحرب. لكن هناك جانباً واحداً لم يُناقَش كثيراً؛ وهي مساهمتها في تدهور العلاقات الأمريكية الروسية التي أوصلت الدولتين إلى حافة الحرب اليوم، كما هو موضح في البرقيات الدبلوماسية الأمريكية التي نشرها موقع ويكيليكس في عام 2010، حسب تقرير لموقع Responsible Statecraft الأمريكي.
بايدن وصفه بأنه الزعيم الروسي الأكثر ارتباطاً بالغرب منذ عهد بطرس الأكبر
بحلول نهاية عام 2002، وصلت العلاقة لنقطة تحوُّل. كان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قد أنفق رأسمالاً سياسياً كبيراً في محاولة للتقارب مع إدارة جورج دبليو بوش. وقال جو بايدن، رئيس لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ آنذاك: "لا يوجد زعيم روسي منذ بطرس الأكبر رهن مصيره بالغرب مثلما فعل بوتين".
وكانت أدلة ذلك حاضرة. فقد أغلق الكرملين القواعد العسكرية التي تعود للحقبة السوفييتية، وسمح للقوات الأمريكية بغزو أفغانستان من آسيا الوسطى، ووافق على توسيع حلف شمال الأطلسي (الناتو) وانسحاب بوش من معاهدة الصواريخ المضادة للباليستية.
وعلى الرغم من أنَّ بوتين "أعطى الولايات المتحدة كل ما تريده… وقدم تنازلات بشأن قضايا استراتيجية من المستحيل تصور صدورها من حكام الكرملين فيما مضى"، حسبما ذكرت صحيفة The Washington Post، فإنه "كان قادراً على إظهار قليل من الفوائد الملموسة التي حصل عليها لتبرير سياسته من أجل المتشككين الروس المحليين"، وضمن ذلك معاناته من عدم رفع واشنطن للقيود الأمريكية على التجارة مع روسيا المرتبطة بحقبة الحرب الباردة.
الكرملين كان قلقاً من ضياع ديونه جراء غزو العراق
كان هذا هو السياق الذي بدأ فيه بوش يدفع باتجاه غزو العراق. وبحسب التقارير، كان مسؤولو الكرملين مهتمين في المقام الأول بما ستعنيه الحرب بالنسبة لقدرة روسيا على جمع ما يقرب من 8 مليارات دولار مُستحقَّة على العراق بسبب حربه التي استمرت ثماني سنوات مع إيران، وتؤكد البرقيات هذه الرواية من الأحداث.
فقد جاء في برقية بتاريخ أبريل/نيسان 2002، أنَّ "بوتين أعرب لرئيس الوزراء الإيطالي سيلفيو برلسكوني، عن قلقه من إمكانية تنفيذ عمل عسكري أمريكي في العراق، مشيراً إلى أنَّ روسيا تريد أن تكون قادرة على تحصيل الديون الثنائية الثقيلة للعراق. وشدد بوتين على ضرورة اللجوء للأمم المتحدة عند التعامل مع العراق".
وأراد الحصول على مقابل بإطلاق يده في الشيشان وجورجيا
وفي الواقع، أشار بوتين في بعض الأحيان إلى أنه قد يكون أكثر مرونة بشأن اعتراضاته على استخدام القوة العسكرية الأمريكية إذا كان ذلك يخدم مصالح روسيا لاحقاً. وسجلت برقية بتاريخ أكتوبر/تشرين الأول 2002، محادثة بين بوتين وبرلسكوني: "شدد بوتين على أنه إذا أُعطِيَت الولايات المتحدة ودول أخرى الضوء الأخضر للتعامل مع مشكلتها في العراق، فينبغي أن تكون لديه موافقة مماثلة للتعامل مع مشكلته الإرهابية في الشيشان وجورجيا".
لكن من الواضح أن مخاوف أخرى كانت متورطة أيضاً. في اجتماع لاحق مع برلسكوني جاء في الوقت الذي كان فيه بوش يضغط من أجل إصدار قرار أكثر صرامة من مجلس الأمن الدولي بشأن عمليات التفتيش على الأسلحة، قال بوتين إن "روسيا قد ذهبت إلى أبعد ما يمكن أن تصل إليه" باللغة التي يمكن أن تدعم موقف أمريكا من أزمة العراق فيها.
وفي برقية بتاريخ أكتوبر/تشرين الأول 2002، "حدد الرئيس الروسي خطين أحمرين لا يمكنه تجاوزهما. وهما قرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة الذي تضمّن تفعيلاً تلقائياً لاستخدام القوة العسكرية إذا فشل العراق في الوفاء بجميع التزاماته، وقبول لجوء الولايات المتحدة أحادي الجانب لاستخدام القوة دون دعم من الشرعية الدولية (دون عقوبات الأمم المتحدة على سبيل المثال)".
في أعقاب الخطاب سيئ السمعة الذي ألقاه وزير الخارجية كولين باول أمام مجلس الأمن في فبراير/شباط 2003، دعا وزير الخارجية الروسي إيغور إيفانوف، بغداد إلى التعاون الكامل مع المفتشين، وأكد الحاجة إلى تسوية سياسية، وشدد على أنه لا يمكن حل الوضع إلا من خلال التعاون الدولي عبر مجلس الأمن وامتثالاً لميثاق الأمم المتحدة.
ومنذ ديسمبر/كانون الأول 2001 حتى عشية الغزو، حذّر بوتين الرئيس بوش مراراً وتكراراً في السر والعلن، من أنَّ توسيع الحرب على الإرهاب لتشمل العراق سيكون خطأً، وأنَّ "مشكلة" العراق يجب حلها من خلال عمليات التفتيش التابعة للأمم المتحدة والأسلحة بدلاً من عملية عسكرية أحادية الجانب. وقال بوتين إنه سيستخدم حق النقض، إذا لزم الأمر، لعرقلة أي تفويض محتمل من الأمم المتحدة لاستخدام القوة.
بوتين فكر في إرسال قوات روسية تعمل بالعراق تحت قيادة أمريكا بعد الغزو
على الرغم من أنه تذبذب لفترة وجيزة تحت ضغط الولايات المتحدة، ولكن ربما ما أبقى بوتين في نهاية المطاف في صف المعارضين الأوروبيين للحرب (ألمانيا وفرنسا)، هو افتقار إدارة بوش إلى الرد بالمثل على مبادرات روسيا تجاه أمريكا.
فقد تضاءلت التجارة الروسية مع أوروبا أمام تجارتها مع الولايات المتحدة، التي أبقت على القيود التي سعت موسكو إلى إنهائها، ولم يكن لدى بوتين الكثير ليستند إليه عند إقناع مؤسسة السياسة الخارجية الروسية، التي عارضت الانضمام إلى الحرب، بأنَّ الانفصال عن قوى مثل ألمانيا وفرنسا كان يستحق ميزة التحالف مع غزو واشنطن الذي لا يحظى بشعبية.
وعلى أي حال، لم يؤدِّ قرار بوش الغزو إلى انهيار فوري للعلاقات بين الولايات المتحدة وروسيا. تصف برقية دبلوماسية بتاريخ سبتمبر/أيلول 2003 تفكير بوتين في نشر قوات روسية في العراق تحت قيادة الولايات المتحدة كمثال على آرائه "الموالية للغرب".
في حين توثق برقية أخرى، أُرسِلَت بعد شهر، اعتقاد جون بولتون، المسؤول في وزارة الخارجية آنذاك، أنَّ "الولايات المتحدة وروسيا قد تغلّبتا على خلافات ما قبل الحرب".
الحرب تركت مرارة لدى النخبة الروسية ولدى الشعب أيضاً
لكن العديد من البرقيات الدبلوماسية تشير إلى المرارة التي تركتها تلك الفترة لدى الجانب الروسي. قال سكرتير مجلس الأمن الروسي إيفانوف للسفير الأمريكي في روسيا (والمدير الحالي لوكالة المخابرات المركزية) وليام بيرنز، في عام 2006: "بينما عجّلت أحداث الحادي عشر من سبتمبر/أيلول بتعاون لا مثيل له، فإنَّ العراق وأحداثاً أخرى أدت إلى تآكل هذه العلاقة".
وفي أواخر عام 2009، أكدت المائدة المستديرة للمحللين الروس لوفد من الكونغرس الأمريكي "استياءهم العميق" من الإدارة الأمريكية، وأشارت إلى أنَّ "الحرب في العراق أسهمت بدور كبير في تقويض رغبة بوتين في أن يكون عضواً بنادي الدول العدائية من خلال الاحتجاج على أنه إذا كان لدى دولةٍ ما يكفي من القوة، فيمكنها أن تفعل ما تريد وتتجاهل الرأي العام الدولي".
وقيل للمسؤولين الأمريكيين إنَّ الاستياء الروسي من الحرب تجاوز بكثيرٍ المتشددين في الكرملين. فقد حذّر أناتولي تشوبايس، مسؤول سابق في عهد الرئيس الروسي بوريس يلتسين، في عام 2006، من أنَّ "المشاعر المعادية لأمريكا تتزايد في روسيا، والسلطة الأخلاقية للولايات المتحدة، التي تعد مكوناً رئيسياً للعلاقة، تتراجع. من ينتقدون الولايات المتحدة يحتجون بأنَّ خطابها بشأن بناء الديمقراطية لا يتطابق مع أفعالها في العراق. وتجد هذه الحجج صدى لدى السكان ويمكن أن تجلب منتقدي الولايات المتحدة إلى السلطة".
بدوره، وجّه غريغوري يافلينسكي، رئيس حزب يابلوكو الليبرالي المعارض، تحذيراً شديداً للمسؤولين الأمريكيين المهتمين بتشجيع الديمقراطية في روسيا بـ"ترك روسيا وشأنها"، وفقاً لبرقية دبلوماسية في فبراير/شباط 2007.
ومع ذلك، تحمل هذه البرقيات أيضاً دروساً للمسؤولين الروس اليوم، بينما لا يزالون غارقين في حربهم غير القانونية التي تحمل شبهاً ملحوظاً مع حرب بوش، من القوة الأحادية إلى المعلومات الاستخباراتية الخاطئة. وكلمات بوتين إلى الجمعية الفيدرالية الروسية، المُسجَّلة في برقية بتاريخ مايو/أيار 2006، أكثر تنبؤاً بالوضع الحالي؛ إذ قال: "من المعروف أنَّ استخدام القوة نادراً ما يجلب النتائج المرجوة، وعواقبه في بعض الأحيان أكثر فظاعة من التهديد الأصلي".