يثير إعلان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، نشر أسلحة نووية في روسيا البيضاء تساؤلات بشأن الدوافع والتوقيت، ومسار الحرب في أوكرانيا، فماذا تريد روسيا؟ ولماذا اتخاذ خطوة هي الأولى منذ انتهاء الحرب الباردة؟
قال الرئيس الروسي بوتين، السبت 25 مارس/آذار 2023، للتلفزيون الرسمي في بلاده، إن روسيا أبرمت اتفاقاً مع جارتها روسيا البيضاء لنشر أسلحة نووية تكتيكية على أراضيها، مؤكداً أن موسكو لن تنتهك اتفاقيات حظر الانتشار النووي.
يأتي هذا الإعلان من جانب الزعيم الروسي بوتين، في وقت تتصاعد فيه حدة التوتر مع الغرب بسبب الحرب في أوكرانيا، ووسط تكهنات من بعض المعلقين الروس بشأن احتمال توجيه ضربات نووية.
ماذا تقول روسيا عن الخطوة النووية؟
خلال حديثه للتلفزيون الروسي، قال بوتين إن رئيس روسيا البيضاء، ألكسندر لوكاشينكو، يطرح منذ وقت طويل، مسألة نشر أسلحة نووية تكتيكية في بلده المتاخم لبولندا، في إشارة ضمنية إلى حلف الناتو، حيث إن بولندا عضو في الحلف العسكري الغربي.
وقال الزعيم الروسي: "لا يوجد شيء غير عادي هنا أيضاً: أولاً، تفعل الولايات المتحدة ذلك منذ عقود. ينشرون منذ فترة طويلة، أسلحتهم النووية التكتيكية على أراضي الدول الحليفة لهم"، مضيفاً: "اتفقنا مع لوكاشينكو على القيام بالمثل دون النكوص عن تعهداتنا. أعيد التأكيد، دون انتهاك التزاماتنا الدولية بشأن حظر انتشار الأسلحة النووية".
ويشير مصطلح الأسلحة النووية "التكتيكية" إلى تلك التي تستخدم لتحقيق مكاسب محددة في ساحة المعركة بدلاً من تلك التي لديها القدرة على إبادة المدن. ولم يتضح عدد الأسلحة التي تمتلكها روسيا من هذا النوع؛ نظراً إلى أن هذا الأمر لا يزال محاطاً بسرية الحرب الباردة.
وفي تاريخ الأسلحة النووية، لم تكن هناك قط معاهدة- ثنائية أو دولية- تحدُّ من تطوير أو نشر الأسلحة النووية التكتيكية في أي مكان. وخلال الحرب الباردة، أنتج كل من الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي الآلاف من هذه الأسلحة، مع سيطرة موسكو على ما يصل إلى خمسة وعشرين ألفاً.
وبعد ذلك، فككت الولايات المتحدة معظم ترسانتها التكتيكية وسحبت معظم تلك الأسلحة من أوروبا، بينما احتفظت روسيا بمزيدٍ من مخزونها. وهناك الآن تفاوتٌ كبير في الترسانات التكتيكية. وفي شهر مارس/آذار 2022، أفادت خدمة أبحاث الكونغرس بأن روسيا لديها ما يصل إلى ألفي قنبلة نووية تكتيكية، بينما تمتلك الولايات المتحدة نحو مئتي قنبلة.
وبشكل عام تنفرد روسيا بصدارة النادي النووي العالمي بفارق كبير عن الولايات المتحدة، التي تأتي في المرتبة الثانية، إذ تمتلك موسكو وواشنطن معاً رؤوساً نووية تكفي لتدمير العالم مرات ومرات.
لم يحدد الزعيم الروسي موعداً لنقل الأسلحة إلى روسيا البيضاء، التي تشترك في حدود مع ثلاثة دول أعضاء في حلف الأطلسي (الناتو)، هي بولندا وليتوانيا ولاتفيا. لكن بوتين ذكر أن روسيا ستكمل بناء منشأة لتخزين الأسلحة النووية التكتيكية في روسيا البيضاء بحلول الأول من يوليو/تموز، مضيفاً أن موسكو لن تنقل فعلياً التحكم في تلك الأسلحة إلى مينسك.
وقال إن روسيا نشرت بالفعل عشر طائرات في روسيا البيضاء قادرة على حمل أسلحة نووية تكتيكية، كما نقلت عدداً من أنظمة الصواريخ التكتيكية من طراز إسكندر القادرة أيضاً على حمل تلك الأسلحة.
ومن المهم هنا ذكر أن هذه الخطوة النووية من جانب بوتين تأتي في سياق يبدو تسلسله منطقياً من وجهة النظر الروسية، إذ تنص العقيدة النووية الروسية صراحةً على أنه إذا كان العدوان التقليدي على روسيا يهدد وجود الأمة، فإن هذا من شأنه أن يبرر استخدام الأسلحة النووية.
وكان الزعيم الروسي قد صاغ مثل هذا التهديد الوجودي أكثر من مرة منذ أن اندلعت الحرب في أوكرانيا، والتي تصفها موسكو بأنها "عملية عسكرية خاصة" بينما يصفها الغرب بأنها "غزو عدواني غير مبرر"، حيث أوضح بوتين أنه يجوز لموسكو استخدام الأسلحة النووية من أجل حماية وحدة أراضي الدولة التي ستشمل الآن الأجزاء التي تم الاستيلاء عليها من أوكرانيا وضمّها رسمياً للاتحاد الروسي.
وعندما دعا إلى التعبئة الجزئية العام الماضي، قال بوتين: "أود أن أذكّر أولئك الذين يدلون بمثل هذه التصريحات بخصوص روسيا، بأن بلادنا لديها أنواع مختلفة من الأسلحة أيضاً، وبعضها أكثر حداثة من الأسلحة التي تمتلكها دول الناتو. في حالة وجود تهديد للسلامة الإقليمية لبلدنا وشعبنا، سنستخدم بالتأكيد جميع أنظمة الأسلحة المتاحة لنا، هذه ليست خدعة".
وأضاف: "يمكن لمواطني روسيا أن يطمئنوا إلى أنه سيتم الدفاع عن وحدة أراضي وطننا الأم واستقلالنا وحريتنا -أكرر- من خلال جميع الأنظمة المتاحة لنا. أولئك الذين يستخدمون الابتزاز النووي ضدنا، يجب أن يعلموا أن الأمر يمكن أن ينقلب عليهم".
كانت هذه التصريحات من جانب بوتين رداً على تصريحات صادرة عن مسؤولين بريطانيين، منهم وزيرة الخارجية السابقة ليز تراس، قالوا فيها إنّ حلف الناتو يمتلك أسلحة نووية يمكنه بها أيضاً مهاجمة روسيا إذا ما استخدمت موسكو أسلحتها النووية ضد أوكرانيا أو أي دولة عضو في الناتو.
ما الفرق بين النووي التكتيكي والتقليدي؟
تمتلك روسيا، التي ورثت أسلحة الاتحاد السوفييتي النووية، أكبر مخزون في العالم من الرؤوس الحربية النووية، إذ يقول اتحاد العلماء الأمريكيين إن بوتين يسيطر على نحو 5977 من هذه الرؤوس الحربية اعتباراً من عام 2022 مقارنة مع 5428 يسيطر عليها الرئيس الأمريكي، جو بايدن.
وتم إخراج نحو 1500 من هذه الرؤوس الحربية من الخدمة (ولكن ربما لا تزال سليمة)، وهناك 2889 في الاحتياط، ويتم نشر 1588 كرؤوس حربية استراتيجية. وقالت مؤسسة بولتين أوف أتومك ساينتس إنه يجري نشر نحو 812 من هذه الرؤوس على صواريخ باليستية أرضية، ونحو 576 على صواريخ باليستية تطلق من غواصات، ونحو 200 في قواعد قاذفات ثقيلة.
وتملك الولايات المتحدة نحو 1644 رأساً نووياً استراتيجياً منشورة بالفعل. ويقول اتحاد العلماء الأمريكيين إن الصين تمتلك 350 رأساً حربياً، وفرنسا 290، وبريطانيا 225.
الأسلحة النووية التي تقول روسيا إنها ستنشرها في روسيا البيضاء، هي أسلحة تكتيكية وليس استراتيجية، فما الاختلاف بينهما؟ السلاح النووي الاستراتيجي هو سلاح الرعب الذي يمثل الثالوث النووي المكون من الصواريخ البالستية العابرة للقارات والصواريخ البالستية التي يتم إطلاقها من الغواصات، والطائرات قاذفات القنابل الثقيلة المجهزة بأسلحة نووية، وجميعها يمكن أن تضرب أهدافاً على مسافة آلاف الكيلومترات وتسبب أضراراً قاتلة ومدمرة للبشر والحجر.
ويمكن لسلاح نووي استراتيجي واحد أن يدمر مدينة بأكملها ويفتك بسكانها ويجعلها غير صالحة للحياة لعقود طويلة وربما أكثر من قرن، كما أن الغبار النووي الناجم عن الانفجار قد يمتد أثره لمئات الكيلومترات وربما أكثر.
أما الأسلحة النووية التكتيكية فهي أصغر وتنتج قوة تدميرية أقل ويطلق عليها "أسلحة أرض المعركة النووية"، حيث يمكن تفجيرها في ساحة المعركة دون أن يمتد تأثيرها الإشعاعي السام لمسافات بعيدة، كما أن نسبة الإشعاعات والقوة التفجيرية تكون أقل كثيراً مقارنة بالأسلحة النووية الاستراتيجية.
وبالتالي فإن الأسلحة النووية التكتيكية مصممة للاستخدام في ساحة المعركة، فهي أسلحة قصيرة المدى تُستخدم في نطاقات ضيقة لتدمير رتل دبابات مثلاً أو مطار كبير أو إحدى الكتائب التي تتحرك باتجاه الجيش في أرض المعركة، وهو ما يعني أن السلاح التكتيكي أداة لتحقيق مكاسب محدودة، والحصول على بعض المزايا في مسرح العمليات، وليس القضاء نهائياً على العدو.
هل ترد روسيا على بريطانيا؟
نأتي هنا للشق السياسي في قرار بوتين، لماذا؟ ولماذا الآن؟ فالرئيس الروسي هو صانع القرار النهائي عندما يتعلق الأمر باستخدام الأسلحة النووية الروسية، الاستراتيجية وغير الاستراتيجية، وفقاً للعقيدة النووية الروسية.
قدّم الزعيم الروسي إجابة مباشرة عن السؤالين، إذ قال إن خطوة إرسال أسلحة نووية تكتيكية إلى روسيا البيضاء جاء كرد مباشر على "التصعيد البريطاني"، حيث قررت لندن إرسال قذائف يورانيوم مستنفد إلى أوكرانيا، وهو ما اعتبرته موسكو تصعيداً نووياً.
وكانت أنابيل جولدي، وزيرة الدولة البريطانية للدفاع، قد قالت الإثنين 20 مارس/آذار، إن بعض قذائف دبابات تشالنجر 2 التي ترسلها بريطانيا إلى أوكرانيا تتضمن قذائف خارقة للدروع، تحتوي على يورانيوم مستنفد.
واليورانيوم المستنفد هو ما يتبقَّى بعد تخصيب اليورانيوم الطبيعي، سواء لصنع الأسلحة أو لوقود المفاعلات. ويتسم اليورانيوم المستنفد بأنه مشع بدرجة معتدلة في شكله الصلب، لكنه مادة ثقيلة جداً، وأكثر كثافة بـ1.7 مرة من الرصاص، ويتم استخدامه لتقوية القذائف حتى تتمكن من اختراق الدروع والصلب.
وعندما يصطدم سلاح مصنوع من اليورانيوم المستنفد بجسم صلب، مثل جانب الدبابة، فإنه يمر مباشرة عبره، ثم ينفجر في سحابة مشتعلة من البخار، ويستقر البخار كغبار، وهو سام ومشع، وإن كان بدرجة أقل نسبياً من درجة إشعاع اليورانيوم المخصب.
وفي هذا السياق، جاء الرد الروسي سريعاً وغاضباً ومهدداً، إذ قال بوتين إن روسيا "ستضطر إلى الرد" إذا أرسلت المملكة المتحدة قذائف مصنوعة من اليورانيوم المستنفد إلى أوكرانيا، متهماً الغرب بنشر أسلحة تحمل "مكوّناً نووياً".
وقال بوتين في تصريحات بعد قمة مع الرئيس الصيني شي جين بينغ: "إذا حدث كل هذا فسيتعين على روسيا الرد وفقاً لذلك، مع الأخذ في الاعتبار أن الغرب بدأ جماعياً بالفعل استخدام أسلحة بها مكون نووي"، ولم يسهب بوتين في تفاصيل.
أما وزير الدفاع الروسي، سيرغي شويغو، فكان أكثر مباشرة، حيث قال إن القرار البريطاني قلَّص الخطوات التي تسبق حدوث "صدام نووي" بين روسيا والغرب، مضيفاً في تصريحات نقلتها وكالات أنباء محلية: "تم اتخاذ خطوة أخرى ويتناقص عدد الخطوات المتبقية". وقال شويغو للصحفيين حين سئل عن ذخيرة اليورانيوم المستنفد: "من الطبيعي أن يكون لدى روسيا ما ترد به على هذا".
بريطانيا، من جانبها، حاولت التقليل من شأن الأمر واستبعاد العنصر النووي منه، حيث قالت وزارة الدفاع البريطانية إن اليورانيوم المستنفد "مكون عادي ولا علاقة له بالأسلحة النووية"، وأضافت في بيان، أن "الجيش البريطاني يستخدم اليورانيوم المنضب في قذائفه الخارقة للدروع منذ عقود".
لكن واشنطن أعلنت أنها لن ترسل قذائف اليورانيوم إلى كييف. وبعد إعلان بوتين إرسال أسلحة نووية تكتيكية إلى روسيا البيضاء، قالت وزارة الدفاع الأمريكية إنه لا توجد مؤشرات على أن روسيا تستعد لاستخدام أسلحة نووية.
وقال المكتب الصحفي لوزارة الدفاع في بيان خطي: "رأينا تقارير عن إعلان روسيا وسنواصل مراقبة هذا الوضع. لم نر أي سبب لتعديل وضعنا النووي الاستراتيجي ولا أي مؤشرات على أن روسيا تستعد لاستخدام سلاح نووي. ما زلنا ملتزمين بالدفاع الجماعي لحلف شمال الأطلسي".
بينما أشار مسؤول كبير في الإدارة الأمريكية لـ"رويترز"، إلى أن روسيا وروسيا البيضاء تحدثتا عن اتفاق بهذا الشأن خلال العام الماضي، وقال إنه لا توجد مؤشرات على أن موسكو تخطط لاستخدام أسلحتها النووية.
وهناك داخل الإدارة الأمريكية من يرون أن قرار الرئيس الروسي هدفه بالأساس التغطية على "مشاكله الخاصة، المتمثلة في صدور قرار اعتقال له من المحكمة الجنائية الدولية، وتعثر الهجوم في أوكرانيا"، وبالتالي أراد الهروب إلى الأمام من خلال "إخافة العالم من مصير نووي مرعب"، بحسب تقرير لشبكة CNN الأمريكية.
على أية حال، يحمل الرئيس الروسي ما يسمى الحقيبة النووية معه في كل الأوقات. ويُعتقد أيضاً أن وزير الدفاع الروسي الحالي سيرغي شويغو ورئيس الأركان العامة الحالي فاليري جيراسيموف يحملان حقيبتين أخريين. وبالأساس، فإن هذه الحقيبة أداة اتصال تربط الرئيس بكبار ضباطه العسكريين ومن ثم بالقوات الصاروخية عبر شبكة القيادة والتحكم الإلكترونية (كازبيك) شديدة السرية. وتدعم كازبيك نظاماً آخر يعرف باسم (كافكاز).
وإذا اعتقدت روسيا أنها تواجه هجوماً نووياً استراتيجياً، يرسل الرئيس عبر الحقائب أمر إطلاق مباشر إلى قيادة الأركان العامة ووحدات القيادة الاحتياطية التي تحمل رموزاً نووية. وتتسلسل مثل هذه الأوامر بسرعة لأنظمة الاتصالات المختلفة إلى وحدات القوة الصاروخية الاستراتيجية التي تطلق بعد ذلك على الولايات المتحدة وأوروبا. وإذا تم تأكيد هجوم نووي، يمكن لبوتين أن ينشط ما يسمى نظام (اليد الميتة) كملاذ أخير، وهي أجهزة الكمبيوتر التي تقرر ما يُسمى (يوم القيامة). ويوجه صاروخ تحكُّم بإطلاق ضربات نووية من مختلف مستودعات الأسلحة الروسية واسعة النطاق.