رفض بنيامين نتنياهو جميع مقترحات تسوية أزمة التعديلات القضائية التي تصر حكومته اليمينية المتطرفة على إدخالها، فهل تؤدي هذه المعركة إلى تآكل إسرائيل من الداخل؟
موقع أسباب المتخصص بالتحليل السياسي والاستراتيجي، نشر تحليلاً يرصد تداعيات فشل مساعي تسوية الأزمة القضائية، التي تسببت في اندلاع احتجاجات شعبية واسعة النطاق، إضافة إلى وصول تلك الانقسامات إلى الجيش.
فمنذ أن تولت حكومة نتنياهو، التي يهيمن عليها اليمين الصهيوني، المسؤولية في دولة الاحتلال، وقبل حتى أن تكمل شهرها الأول، تسببت في إثارة التوترات في المنطقة بأسرها، في ظل سياسات استفزازية وقمعية بحق الفلسطينيين تهدد باندلاع انتفاضة ثالثة في أي لحظة.
فالحكومة الإسرائيلية تشكلت من تحالف يضم مجموعة من قادة المستوطنين والقوميين المتشددين والمحافظين المتطرفين، بقيادة بنيامين نتنياهو، ويسعى زعماء المجموعة، الكل بطريقته، إلى ضم الضفة الغربية، وزيادة التخفيف القائم في قواعد الاشتباك لدى جيش الاحتلال، وترسيخ السيطرة الإسرائيلية على الأماكن المقدسة في القدس المحتلة.
وعلى الرغم من أن الحكومة الحالية لا تنفرد بإثارة هذا النوع من التوترات، إلا أن سياسات حكومة نتنياهو وتصرفات قادتها -الموصوفين بأنهم الأكثر تشدداً في تاريخ إسرائيل- تحتاج إلى تعديلات قضائية تطلق أيديهم في تنفيذ مخططاتهم دون ضجيج، فكثير من الوزراء لديهم سوابق خاصة، وعلى رأسهم نتنياهو نفسه، الذي يسعى إلى تفادي دخول السجن بأي ثمن.
سقوط قناع الديمقراطية عن إسرائيل
كان نتنياهو قد رفض مقترحاً قدمه الرئيس الإسرائيلي، إسحق هرتسوغ، كما أصدر قادة أحزاب الائتلاف الحاكم بياناً اعتبروا فيه أن اقتراحات الرئيس تعني إلغاء التعديلات برمتها.
وينص مقترح هرتسوغ، والذي أطلق عليه "مخطط الشعب"، على إلغاء التعديلات القضائية التي شرعت الحكومة بتمريرها، ولا يمنح الحكومة الأغلبية في لجنة اختيار القضاة، كما يسدل الستار على مشروع قانون "التغلب"، الذي أقرّه الكنيست بالقراءة الأولى، والذي يجرد المحكمة العليا من صلاحية رد القوانين التي يقرها البرلمان، كما نص المقترح أيضاً على أن آراء مستشاري الحكومة القانونيين ملزمة لها، باستثناء قضايا حقوق الإنسان.
رفض نتنياهو ووزراؤه اليمينيون المتطرفون تلك التعديلات، لكن الحكومة نفسها ليست على قلب رجل واحد، إذ هدد وزير الدفاع، يوآف جالانت، بالاستقالة ما لم تتراجع الحكومة عن فرض خطة الإصلاحات القضائية بصورتها الحالية، محذراً نتنياهو من أن دعوات عصيان الأوامر العسكرية رفضاً لتمرير التعديلات من شأنها أن "تمس قدرة الجيش على أداء مهامه".
تشير هذه التجاذبات إلى أن الأزمة القضائية أصبحت واحدة من أخطر المحطات التي تواجه دولة الاحتلال في تاريخها، وذلك لارتباطها بمستقبل هوية الدولة ومكانة إسرائيل دولياً، لاسيما لدى الدول الغربية، التي ترى أن تمرير الإصلاحات القضائية سيقود لتآكل النموذج الليبرالي الديمقراطي وتكريس نظام سياسي يقوم على الشعبوية وصعود اليمين المتطرف.
وفي هذا السياق، كان جدعون ليفي الكاتب اليساري الإسرائيلي قد نشر مقالاً في موقع Middle East Eye البريطاني عنوانه "حكومة إسرائيل اليمينية المتطرفة تنزع القناع الذي ساعد في تسهيل التواطؤ الغربي"، ألقى من خلاله الضوءَ على ما تعنيه حكومة نتنياهو بالنسبة لصورة الدولة العبرية في عيون داعميها ورُعاتها الغربيين، الذين لطالما تغنَّوا بواحة الديمقراطية في الشرق الأوسط.
ويقول ليفي إن إسرائيل تتغير بصورة واضحة، حيث يرى العالم "ديمقراطية ليبرالية غربية تتحرك بسرعة خطيرة نحو القومية المتطرفة والأصولية والعنصرية والفاشية، أي تحطيم الأسس الديمقراطية"، نتيجة لما آلت إليه الانتخابات الأخيرة. "وعلى الرغم من أن هذه الصورة هي توصيف صحيح، فإنها ليست الوصف الدقيق لما يحدث، فهذا الرأي يفترض ضمنياً أن إسرائيل كانت، حتى حدوث ذلك التغيير، ديمقراطية غربية فعلاً، وهي الآن تتحول بشكل واضح إلى شيء آخر، لكن الحقيقة هي أن إسرائيل لا تتغير، بل تتخلص من أقنعتها، وتُمزّق صورتها الزائفة تمزيقاً".
أمريكا تعبر عن غضبها من حكومة نتنياهو
كما أن الإدارة الأمريكية الحالية تدرك خطورة الظرف الراهن، وهو ما جعلها تُعبر عن مواقف تشير لرفضها الاستمرار في هذا المسار، حيث أكد المتحدث باسم مجلس الأمن القومي الأمريكي، جون كيربي، أن البيت الأبيض "يدعم جهود الرئيس هرتسوغ المستمرة للبحث عن حل يتوافق مع المبادئ الديمقراطية"، ووصل الأمر لدرجة أن اتهم مصدر مقرب من نتنياهو إدارة الرئيس جو بايدن بتمويل الاحتجاجات التي تتصاعد في تل أبيب.
وفي السياق نفسه، ذكرت تقارير إعلامية عبرية وأمريكية أن مسؤولين كباراً في الإدارة الأمريكية أبلغوا نتنياهو أنه من الأفضل عدم القدوم إلى واشنطن في الوقت الحالي.
وتشير التقديرات إلى أن نتنياهو، رغم اعتراضه على مقترح الرئيس هرتسوغ، إلا أن رئيس الوزراء يريد أن تظل قنوات التواصل مفتوحة بشأن الإصلاحات أو التعديلات القضائية، وهو الأمر الذي أكدته تسريبات كشفت أن مقترح هرتسوغ تمت صياغته بالتعاون مع وزير الشؤون الاستراتيجية، رون ديرمر، المقرب من نتنياهو، إلا أن موقف كلّ من وزير القضاء ياريف ليفين، ورئيس لجنة القضاء في الكنيست سيمحا روتمان يحول دون ذلك، في دلالة على حجم الأزمة المركبة التي تعيشها دولة الاحتلال.
فلا نتنياهو قادر على إدارة دفة المشهد باعتباره رئيس الحكومة، ولا المعارضة قدمت صيغة وسط للحل، الأمر الذي دفع قيادات سياسية وعسكرية للتحذير من خطورة اندلاع حرب أهلية حال إقرار الإصلاحات القضائية.
وفي هذا السياق، يبدو أن الأيام المقبلة في الكنيست ستكون عاصفة، لأنه من المقرر أن يقدم الائتلاف عناصر أساسية لإصلاحه القضائي المثير للجدل، بالإضافة إلى عدد من القوانين الأخرى المثيرة للجدل أيضاً والمصممة لمساعدة رئيس الوزراء نتنياهو، وزعيم حزب شاس، أرييه درعي، في مشاكلهما القانونية.
فنتنياهو نفسه يخضع للمحاكمة في ثلاث قضايا، تحمل الأولى الرقم 4000. في هذه القضية يواجه الرجل الذي جلس على مقعد رئيس الوزراء في إسرائيل أطول من أي شخص آخر الاتهام بأنه قدم مجاملات عبر قنوات تنظيمية في حدود 1.8 مليار شيكل (حوالي 500 مليون دولار) لشركة بيزك الإسرائيلية للاتصالات.
ويواجه نتنياهو في هذه القضية تهمة الرشوة والاحتيال وخيانة الأمانة، بينما يواجه إلوفيتش وزوجته إيريس تهمتي الرشوة وعرقلة العدالة. وينفي المتهمون الثلاثة التهم الموجهة إليهم.
والقضية الثانية تحمل الرقم 1000، ويواجه فيها نتنياهو تهمتي الاحتيال وخيانة الأمانة، على أساس أنه حصل هو وزوجته سارة دون وجه حق على هدايا قيمتها نحو 700 ألف شيكل، من المنتج السينمائي أرنون ميلشان، الإسرائيلي الجنسية، والذي يعمل في هوليوود، ومن رجل الأعمال الأسترالي الملياردير جيمس باكر.
والقضية الثالثة تحمل الرقم 2000، ويواجه فيها نتنياهو تهمة التفاوض على صفقة مع أرنون موزيس، صاحب جريدة يديعوت أحرونوت الإسرائيلية، من أجل تحسين تغطيته إخبارياً. وتقول عريضة الاتهام إن نتنياهو طرح في المقابل تشريعاً لإبطاء انتشار صحيفة منافسة. ووُجهت لنتنياهو تهمة الاحتيال وخيانة الأمانة، ولموزيس تهمة الرشوة، ونفى موزيس التهمة.
أما درعي، فقد كان نواب الكنيست قد أقروا قانوناً يسمح لأي شخص مدان بجريمة ولم يحكم عليه بالسجن الحصول على حقيبة وزارية، وهو قانون مفصل خصيصاً للنائب أرييه درعي عن حزب شاس، الذي عرض نتانياهو عليه منصباً بارزاً رغم أنه أدين في وقت سابق بارتكاب مخالفات ضريبية.
هل تتآكل إسرائيل بسبب معركة القضاء؟
ويتواصل خروج مئات الآلاف من الإسرائيليين إلى الشوارع للاحتجاج على أجندة الحكومة، مع تصاعد محتمل في عدد الهجمات العنيفة ضد المتظاهرين، فضلاً عن تزايد القلق داخل المؤسسة الأمنية والعسكرية، مع تزايد انخراط أفرادها في الاحتجاجات. وفي ضوء هذه المعطيات، فإن المشهد يتجه لأحد احتمالين: الأول: أن تتمسك الحكومة بخطة التعديلات دون تنازلات جوهرية، مدفوعة بالأصوات المتطرفة، خاصة وزراء القضاء يلفين والمالية بتسلئيل سموتريتش والأمن القومي إيتمار بن غفير، وهو الأمر الذي سيقود لتغيير حقيقي على صعيد بنية النظام السياسي في دولة الاحتلال، ويؤدي لصدع كبير في المجتمع الإسرائيلي، عدا عن تراجع تدريجي في مكانتها على الصعيد الدولي.
أما الاحتمال الثاني فهو أن يُغلّب نتنياهو مسار التوافق، ويقبل بتعديلات حقيقية استجابة للضغوط الشعبية والخارجية خاصة الأمريكية، وهو أمر قد يقوّض تماسك الائتلاف الحكومي لاحقاً، لأن الضغوط من المتوقع أن تتواصل في ظل أجندة الحكومة اليمينية التي تجلب لها المزيد من العداء الداخلي والخارجي على حد سواء.
لكن يبدو أن الاحتمال الأول له الغلبة حتى الآن، إذ صدّق الكنيست، الخميس 23 مارس/آذار، على قانون يضع قيوداً على الحالات التي يمكن فيها إقالة أي رئيس للوزراء، رغم مخاوف عبر عنها خبير قانوني حكومي من أن القانون ربما يهدف لحماية نتنياهو من أية تبعات لمحاكمته بتهم فساد.
ويمثل التعريف المعدل لمصطلح "فقدان الأهلية" للقادة أحد البنود التشريعية التي طرحها الائتلاف الحاكم المؤلف من أحزاب دينية وقومية، وتسببت في أزمة في البلاد، وترى المعارضة أنها تجعل استقلال القضاء في خطر.
ويقول الائتلاف الحاكم إن التعديلات تهدف إلى ضبط التجاوز الذي تمارسه المحكمة العليا في الصلاحيات وإلى إعادة التوازن بين دوائر الحكم.
وأقرّ البرلمان الإسرائيلي (الكنيست)، بتأييد 61 صوتاً مقابل رفض 47، مشروع القانون الذي ينص على اعتبار رئيس الوزراء غير قادر على القيام بعمله، ومن ثم يُجبر على التنحي إذا ما أعلن النواب أو قرر ثلاثة أرباع وزراء الحكومة ذلك لأسباب صحية أو نفسية.
وتقدم بنود التشريع إيضاحاً "لقانون أساسي" شبه دستوري يوجه الحكومة للإجراءات التي تتبعها في حال تعذر على رئيس الوزراء القيام بعمله، لكنه لم يكن يتضمن أي تفاصيل حول الظروف التي قد تؤدي لمثل هذا الموقف.
ويقول المعهد الإسرائيلي للديمقراطية، وهو مؤسسة غير حزبية، إن القاعدة قبل تفصيلها كانت تترك نتنياهو معرضاً لحكم محتمل بعدم الأهلية من المدعية العامة جالي باهراف-ميارا إذا ما رأت أنه يقوم بمحاولة لعرقلة ثلاث محاكمات يخضع لها بتهم فساد.
أمير فوكس، الباحث في المعهد، قال لرويترز إن القانون الجديد يحول دون ذلك، وأضاف أنه اعتبر أصلاً أن وصول المدعية العامة لمثل هذا القرار أمر غير مرجح. وقالت باهراف-ميارا، التي عينتها الحكومة السابقة المنتمية لتيار الوسط، الشهر الماضي، إن على نتنياهو أن ينأى بنفسه عن مساعي الائتلاف الحاكم المتعلقة بالتعديلات القضائية لأنها ترى تضارباً في المصالح بسبب محاكماته.
وعبر جيل لمون نائب المدعية العامة عن تحفظاته على مشروع قانون عدم الأهلية خلال جلسة مراجعته في الكنيست، يوم الثلاثاء. وقال وفقاً لمحضر رسمي: "ما نراه أمام أعيننا هو سلسلة من العناصر التشريعية المقلقة للغاية التي يتم الدفع بها بسرعة كبيرة… ويمكن أن تخدم المصالح الشخصية لرجل فيما يتعلق بما ستخلص إليه الإجراءات القانونية التي يواجهها".