"أصبح أقوى من المؤسسات والطبقات التي تحكم البلاد منذ نحو 75 عاماً"، هكذا أصبح يوصف رئيس الوزراء الباكستاني السابق عمران خان، بعد أن أحدث تحولاً تاريخياً في السياسة الباكستانية خلق له شعبية نادرة، ووفر له حماية لم يحظَ بها أسلافه من القادة المدنيين المشاهير، ولكن هل تتسبب سياساته في إنقلاب في باكستان؟
وشهدت الأشهر القليلة الماضية قيادة عمران خان لأنصاره في سلسلةٍ من المسيرات الجماهيرية الحاشدة. كما أُصيب في عملية إطلاق نار استهدفته. بينما اشتبك أنصاره مع الشرطة زاعمين أن الشرطة هي التي هاجمتهم، بينما تدعي الشرطة العكس.
الجيش يحاول إخماد ما تبدو وكأنها ثورة سياسية شعبية يقودها عمران خان
وجرى اعتقال بعض أعضاء حزب حركة الإنصاف الباكستانية الذي يقوده خان، وزعموا أنهم تعرضوا للتعذيب أثناء احتجازهم من قبل الشرطة. في ما تعرّض أحد أنصاره للتعذيب حتى الموت خلال الأسبوع الماضي، حسب المزاعم.
وبلغت الأمور ذروتها في 14 مارس/آذار، عندما كان من المقرر اعتقال خان بتهم إرهاب ملفقة، على حد وصف أنصاره. واحتشدت أعداد كبيرة من أنصار خان أمام منزله في لاهور بباكستان، للاحتجاج ضد اعتقاله. واستخدمت الشرطة الغاز المسيل للدموع، وخراطيم المياه، والهراوات، في محاولةٍ لشق طريقها نحو منزل خان. لكن الحشود نجحت في التصدي لهم، ولا يزال خان حراً طليقاً حتى الآن.
وطوال حملة خان المعارضة، حاول الجيش الباكستاني وبقية الساسة إخماد ما تبدو -على نحوٍ متزايد- وكأنها ثورة سياسية شعبية، حسب الوصف الذي ورد في تقرير لمجلة Foreign Policy الأمريكية.
الانتخابات تقترب وخان قد يفوز بها، وإليك المؤشرات على ذلك
لكن شاغلي المناصب في باكستان أصبحوا أمام موعد نهائي صارم الآن. إذ إن قيود الولاية الانتخابية في البلاد تُلزم الساسة والجيش بإعلان الانتخابات قبل أكتوبر/تشرين الأول من العام الجاري.
وقد فاز حزب خان بالعديد من المنافسات المحلية والإقليمية بعد إزاحته من السلطة. حيث حقق حزب خان الفوز بغالبية الأصوات في الانتخابات الأخيرة عام 2018. ثم فاز بـ15 من أصل 20 مقعداً متنازعاً عليه في المجلس التشريعي لولاية بنجاب، أكثر مقاطعات باكستان اكتظاظاً بالسكان، خلال الانتخابات المحلية لعام 2022.
ومن المرجح أن يفوز خان بأغلبية كاسحة في حال عقد انتخابات أخرى، وفي حال ثبتت دقة استطلاعات الرأي الحالية. ولا شك أن هذا الأمر يمثل تهديداً للجيش وللأحزاب في الحكومة الحالية، على حد سواء.
أنصار خان يتوقعون حدوث ثورة هدفها كبح جماح النظام السياسي القائم
وإذا فاز خان، فسوف يأتي فوزه من منصةٍ تتمحور صراحةً حول كبح جماح الجيش وتصفية النظام السياسي-التشريعي القائم، بما في ذلك إصلاح النظام القضائي في البلاد.
ويُدرك أنصار خان مدى صعوبة الوضع الذي يعيشونه اليوم. حيث أوشك زعيمهم أن يتعرض للاعتقال مراراً، بينما اضطر أنصاره لصد الشرطة بأجسادهم. لكنهم على ثقة في احتمالية اندلاع ثورة.
ويقولون إن خان أسس حركةً مؤيدةً للديمقراطية تتجاوز حدود الأحزاب. وأوضحوا أن الفقراء والأغنياء اجتمعوا معاً لمواجهة الحكومة التي اختارها الجيش، للمرة الأولى في تاريخ باكستان.
"القابلون للانتخاب".. النظام الانتخابي الباكستاني يعطي الأفضلية للأثرياء والعسكريين
يُمكن وصف الانتخابات في باكستان بأنها عبارة عن منافسات تُعطي المحسوبية ثقلاً كبيراً، كما جرت العادة في الماضي. إذ تشهد غالبية الانتخابات تقديم الأحزاب لمرشحيها من الأثرياء وذوي النفوذ، الذين يُطلق عليهم وصف "القابلين للانتخاب".
وعادةً ما تضم تلك الشخصيات أصحاب العقارات ورجال الأعمال المحليين النافذين. وربما يكون لتلك الشخصيات انتماءات قبلية أو عشائرية أو طبقية مفيدة، أو ربما قدّم بعضهم خدمةً للجيش أو وزارة ما.
ولهذا يمكن تقديم تلك الشخصيات بأمان أمام الناخبين، الذين يمكن الاعتماد عليهم بدورهم لاختيار الفرد بغض النظر عن حزبه. وهذه هي الصورة النمطية السائدة في البلاد.
وتشتهر الشخصيات القابلة للانتخاب بكونها من المتأرجحين انتخابياً داخل السلطة التشريعية، ويبدلون الولاء والأحزاب بسهولةٍ، بعد عقد الصفقات للحصول على مناصب حكومية أفضل. وقد ترشح البعض منهم على بطاقات جميع الأحزاب الكبرى تقريباً دون تردد.
الرأي العام ينبذهم وبات أكثر اهتماماً بالأحزاب، وهو ما يمثل تحدياً للجيش
وتعاود هذه المنظومة ظهورها في كل انتخابات باكستانية، لدرجة أنها أصبحت بمثابة عنوانٍ رئيسي دائم. لكن هذه المنظومة تواجه التحديات اليوم.
وفي حال ثبتت دقة استطلاعات الرأي، فمن الواضح أن الجمهور لم يعد مهتماً بشاغلي المناصب الحاليين أو المرشحين الأفضل، بل أصبح مهتماً بالسياسات الحزبية -خاصةً تلك التي يُروّج لها خان. ولا شك أن دعم حركة الإنصاف الباكستانية أصبح بمثابة مكسب كبير؛ لأن المرشحين الحاصلين على دعم الحركة تزيد أرجحية فوزهم على "الشخصيات القابلة للانتخاب".
ولا تمثل كل هذه الأمور تحدياً لطبيعة السياسات الباكستانية فحسب، بل تمثل تحدياً للجيش أيضاً. إذ يمكن الشعور بتأثير الجيش على كل عملية انتخابية وكل تشكيل وزاري.
لم يتم القبض على خان حتى الآن ولذلك يمكنه الترشح
ولم يُقبض على خان اليوم، لهذا لا يمكن استبعاده من الترشح للانتخابات المقبلة. لكنه لا يزال يمثل تهديداً على الوضع الراهن ويسعى جاهداً للوصول إلى الموجودين في السلطة، الذين يؤمن بأنهم استخفوا به.
لهذا لم يعد أمام الجيش الكثير من الخيارات. إذ يمكنه أن يحاول اعتقال زعيم المعارضة مرةً أخرى.
وربما يراهنون على فقدانه لقدرٍ كبير من الظهور بعد دخوله السجن، رغم أن تاريخ باكستان مليء بالقادة الذين حافظوا على استمرارية حركاتهم من داخل السجن.
خان أمام خطر الاغتيال أو الانقلاب العسكري
أما في حال ثبتت استحالة اعتقال عمران خان على حد زعم أنصاره، فسيصبح الجيش أمام خيارين: اغتيال خان أملاً في أن تموت حركته معه، أو تنفيذ انقلابٍ عسكري.
وهناك قناعة في وسائل الإعلام الباكستانية والهندية بأن الانقلاب العسكري ممكن. حيث عانت باكستان من أربعة انقلابات عسكرية خلال أول 50 سنة من استقلالها.
ولا تبدو ظروف البلاد الحالية مبشرة، في ظل التراجع الاقتصادي وقمع المعارضة السياسية.
ولطالما جاءت الانقلابات العسكرية السابقة ضمن إطار محدد، لتتمحور حول استعادة النظام وإزالة الساسة الفاسدين من السلطة.
ولكن انقلاب الجيش قد يواجه بمقاومة هذه المرة
وربما تكون حملة خان قد لعبت دوراً في الوضع الحالي؛ لأن انتقاداته لفساد التحالف الحكومي ساعدت في خلق شعورٍ بالخلل الوظيفي العام. لكن خان لم يتورع عن التقليل من الجيش والانتقاص من قدره أيضاً.
ولهذا تغيّر الوضع هذه المرة. إذ إن نجاح أنصار خان في صد الشرطة العسكرية يعني أن الناس فقدوا خوفهم من الجيش. وقد يؤدي أي انقلاب عسكري إلى حالة من الفوضى -وربما حرب أهلية-، بدلاً من أن يستقبله الجمهور بالخضوع.
ومن المؤكد أن هذه الاحتمالية تستحق الاهتمام والنظر في رد الفعل على المستوى العالمي.
ونادراً ما يقلق الجيش الباكستاني حيال اتخاذ قرارات لا تحظى بشعبية.
كيف سيكون رد فعل الغرب إزاء وقوع انقلاب في باكستان؟
وإذا أراد الجيش الإطاحة بحكام البلاد المنتخبين، فسوف يحاول فعل ذلك مهما كان شكل الخطوة. وفي حال تعرضت ديمقراطية باكستان غير المستقرة للتهديد، فمن المرجح أن يتحرك الغرب.
وقد تكون التداعيات وخيمةً بالنسبة لباكستان. وربما تشمل فرض عقوبات، وتقييد السفر، ومصادرة الأصول، مع احتمالية فقدان باكستان عضويتها في دول الكومنولث. علاوةً على أنه من المؤكد ألا تتلقى باكستان أي دعم إضافي من المؤسسات المالية، مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، في ظل أزمة مالية خانقة تمر بها وإجرائها مفاوضات مع صندوق النقد الدولي.
وسيقل عدد أصدقاء باكستان في هذه الحالة. لهذا من المرجح أن يتطلع الجيش إلى الصين لإنقاذه، إذا نجح في الاستيلاء على السلطة.
لماذا قد يؤدي الانقلاب لانضمام باكستان رسمياً إلى معسكر الصين؟
بدورها لا ترغب الصين أن يسود عدم الاستقرار داخل باكستان، وهو بلد مثقل بالديون لبكين. حيث تُعد باكستان أكبر متلقٍّ للقروض من مبادرة الحزام والطريق الصينية. وتتمتع الصين بعلاقة قديمة العهد مع الجيش الباكستاني، حيث ترجع أصول العلاقة إلى عدائهما المشترك تجاه الهند وتمويل الحملة المناهضة للسوفييت في أفغانستان.
ويُمكن القول إن باكستان موجودة داخل مجال النفوذ الصيني منذ سنوات، ويؤكد الجيش الباكستاني على هذه العلاقة. فضلاً عن أن الممر الاقتصادي الصيني الباكستاني يُعَدُّ من أبرز مشروعات مبادرة الحزام والطريق الصينية. لكن شن الجيش لانقلابٍ عسكري سيزيد الأوضاع سوءاً بالنسبة لاقتصاد باكستان ومواطنيها، على حد سواء.
وباكستان وجيشها لديهما علاقة قوية وإن كانت متقلبة مع الولايات المتحدة، ولكن بدأت أهمية إسلام آباد تتراجع لواشنطن بعد الانسحاب الأمريكي من أفغانستان.
وفي ظل احتمال فرض عقوبات غربية عليها إذا وقع انقلاب، بهذا ستصبح باكستان في وضعٍ يائس يضمن لها الوقوع بحق داخل مجال النفوذ الصيني.
لا يعني ذلك أن الصين بالضرورة تريد وقوع انقلاب عسكري في باكستان، ولكنها قد ترى أن باكستان أهم بالنسبة لها من أن تترك للوقوع في براثن كارثة اقتصادية إذا ترتب على الانقلاب وقف مفاوضات صندوق النقد الدولي.
تقول مجلة Foreign Policy الأمريكية: "سيحدث ذلك في الوقت المناسب تماماً، لتشغل إسلام آباد مكانها وسط الفظائع التي ترسم ملامح المعسكر الاستبدادي العالمي المتنامي، الذي تقوده بكين، حسب تعبيرها.