تمثل زيارة الرئيس الصيني شي جين بينغ الأولى إلى روسيا منذ بداية حرب أوكرانيا حدثاً مفصلياً، فماذا تريد بكين؟ ولماذا أثارت الزيارة غضب أمريكا ورفضها وساطة شي لإنهاء الحرب؟
استبق شي زيارته إلى موسكو، التي بدأت الإثنين 20 مارس/آذار 2023 وتستمر ثلاثة أيام، بخطوة غير تقليدية، حيث كتب مقالاً نشر باللغة الروسية بصحيفة روسيسكايا جازيتا اليومية، التي تصدرها الحكومة الروسية، فصل فيه رؤية بلاده ليس فقط لكيفية إنهاء حرب أوكرانيا، ولكن أيضاً لنظام عالمي جديد.
كان شي جين بينغ قد ألقى، قبل أيام، خطاباً بمناسبة بداية فترة الولاية الثالثة لرئاسته، التي شهدت تحولاً جذرياً في قوة الصين ومكانتها على الساحة العالمية، ووُصف خطاب شي بأنه خطاب يليق بقوة عظمى، اختص فيه الولايات المتحدة – دون أن يسميها – بالنصيب الأكبر من الانتقادات.
ماذا يريد شي من زيارة روسيا؟
زيارة الرئيس الصيني إلى روسيا هي الأولى منذ بدء الحرب في أوكرانيا في فبراير/شباط 2022، والزيارة الأولى إلى موسكو منذ حوالي أربع سنوات. ووصف شي في مقاله الزيارة بأنها "رحلة صداقة وتعاون وسلام"، مضيفاً: "أتطلع إلى العمل مع الرئيس بوتين لنعتمد معاً رؤية جديدة" للعلاقات الثنائية.
بينما أعلن الكرملين أن الرئيس الصيني ونظيره الروسي سيبحثان الخطة التي اقترحتها بكين لتسوية النزاع في أوكرانيا خلال قمتهما في روسيا هذا الأسبوع، وقال الناطق باسم الكرملين، دميتري بيسكوف، للصحفيين إن "المواضيع الواردة في هذه الخطة (الصينية) حول أوكرانيا ستشكل جزءاً من المحادثات"، مضيفاً أن "الولايات المتحدة تصر على مواقفها القائمة على مواصلة تأجيج النزاع وعرقلة خفض حدة الأعمال الحربية ومواصلة إغراق أوكرانيا بالأسلحة".
هذه العلاقات التي باتت استراتيجية بين الصين وروسيا تمثل أحد الملفات التي حقق فيها الرئيس الأمريكي الحالي جو بايدن فشلاً ذريعاً، بحسب كثير من المحللين الأمريكيين.
إذ كان تقرير لمجلة Politico الأمريكية قد سلّط الضوء على مخاوف بايدن مما قد ينتج عن "علاقة الصداقة بين بوتين وشي" إذا ما حدث تحالف كامل بين بكين وموسكو، ورصد كيف أن مستشاري بايدن قدموا له تقارير استخباراتية تفصيلية حول طبيعة العلاقة بين روسيا والصين، كجزء من الاستعداد لقمة الرئيس الأمريكي مع بوتين في جنيف، في يونيو/حزيران 2021.
وعلى الرغم من أن العقود الطويلة من العداء، الذي وصل إلى حد الحرب، كانت عنواناً للعلاقة بين روسيا والصين، إلا أن العلاقات بين العملاقين الشيوعيين تطورت تطوراً هائلاً في ظل رئاسة بوتين وشي حتى وصلت إلى هذا التحالف الاستراتيجي، الذي كان بايدن يتمنى ويسعى إلى إفشاله.
على أية حال، وصل شي إلى موسكو حاملاً معه خطة صينية تهدف إلى التوصل لتسوية دبلوماسية تنهي الحرب في أوكرانيا، وتقول بكين إن الاقتراح، وهو ورقة من 12 نقطة أصدرتها الشهر الماضي، يمثل "أكبر قدر ممكن من وحدة وجهات نظر المجتمع الدولي. "الوثيقة بمثابة عامل بناء في تفادي عواقب الأزمة ودعم التسوية السياسية. المشاكل المعقدة ليست لها حلول بسيطة".
لكن الحرب في أوكرانيا لن تكون البند الوحيد على أجندة شي في موسكو بطبيعة الحال، حيث إن الاقتصاد أيضاً سيكون حاضراً وبقوة، فقد أظهرت بيانات الحكومة الصينية، الإثنين، أن روسيا اجتازت السعودية لتصبح أكبر موردي النفط للصين في الشهرين الأولين من عام 2023، إذ انتهز المشترون الفرصة لشراء الخام الروسي الذي يخضع للعقوبات بخصومات هائلة.
ووفقاً لبيانات الإدارة العامة للجمارك، فإن إجمالي شحنات النفط من روسيا بلغ 15.68 مليون طن في يناير/كانون الثاني وفبراير/شباط، أو 1.94 مليون برميل يومياً بارتفاع 23.8% بعد أن كانت 1.57 مليون برميل يومياً في الفترة ذاتها عام 2022.
لماذا ترفض أمريكا وساطة الصين في حرب أوكرانيا؟
إذا كانت زيارة شي إلى موسكو ولقاءاته مع بوتين تحظى بالترحيب في روسيا والصين، فإنها تثير غضب وحفيظة الولايات المتحدة، بحسب تقرير لشبكة CNN الأمريكية. فالنسبة لواشنطن وحلفائها الغربيين، تمثل زيارة شي أقوى تعبير عن الدعم الصيني لبوتين وللحرب الشرسة في أوكرانيا.
فواشنطن وحلفاؤها الغربيون يصفون حرب أوكرانيا بأنها "غزو عدواني غير مبرر" بينما تصفها موسكو بأنها "عملية عسكرية خاصة"، أما الصين فموقفها يظل "محايداً" وإن كان يميل نحو روسيا بطبيعة الحال.
فقد رفضت الصين إدانة الهجوم الروسي على أوكرانيا، لكنها رفضت في الوقت نفسه العقوبات الغربية على موسكو، وتتهم واشنطن وحلفاؤها بكين بتزويد موسكو بأسلحة فتاكة تستخدمها الأخيرة في حربها في أوكرانيا، لكن الصين تنفي تلك الاتهامات.
وخلال الأسابيع الأخيرة، بدأت واشنطن في إصدار تصريحات تحذر من أن بكين تستعد لرفع مستوى تعاونها مع موسكو وتقديم مساعدات "قاتلة" للجيش الروسي وقواته التي تحارب في أوكرانيا. وبحسب تقرير لشبكة CNN في فبراير/شباط الماضي، فإن وزير الخارجية الأمريكي، أنتوني بلينكن، وجه تحذيراً "صريحاً" لنظيره الصيني وانغ يي، خلال مشاركتهما في مؤتمر ميونيخ للأمن.
لكن الولايات المتحدة لم تقدم أدلة أو تفاصيل على تلك الاتهامات التي توجهها للصين، التي ردت بصرامة، حيث قالت وزارة الخارجية الصينية، الإثنين، تزامناً مع وصول شي إلى روسيا، إن الولايات المتحدة هي من يورد الأسلحة إلى ساحة القتال في أوكرانيا وليست الصين، بحسب رويترز. وأدلى وانغ ون بين المتحدث باسم الوزارة بالتصريحات في إفادة صحفية؛ رداً على سؤال بشأن حديث مصادر أمريكية عن إطلاق روسيا ذخيرة صينية في أوكرانيا.
اللافت هنا أن واشنطن لم تعلن رفضها وساطة الصين لإنهاء حرب أوكرانيا عندما أعلنت بكين عن الخطة لأول مرة قبل أسابيع، لكن زيارة شي إلى موسكو أطلقت الرفض الأمريكي دون تردد على ما يبدو.
إذ أعلنت الولايات المتحدة أنها لن تؤيد دعوة صينية جديدة إلى وقف إطلاق النار خلال الزيارة، معتبرة أن ذلك سيعني ترسيخ السيطرة الروسية على الأراضي التي احتلتها في أوكرانيا.
لكن شي كتب في مقاله المنشور باللغة الروسية أن الحل السلمي للوضع في أوكرانيا من شأنه أن "يضمن أيضاً استقرار الإنتاج العالمي وسلاسل التوريد"، داعياً إلى "نهج عقلاني" للخروج من الأزمة، والذي يمكن "التوصل إليه إذا استرشد الجميع بمفهوم الأمن الجماعي والشامل والمشترك والمستدام، والاستمرار في الحوار والمشاورات بنوع من المساواة والحكمة والبراغماتية".
الصين.. وسيط في النزاعات الإقليمية
قال شي أيضاً إن زيارته لروسيا تهدف إلى تعزيز الصداقة بين البلدين و"شراكة شاملة وتفاعل استراتيجي" في عالم تهدده "أفعال التسلط والاستبداد والتنمر". وكتب شي "لا يوجد نموذج عالمي للحكومة ولا يوجد نظام عالمي تكون فيه الكلمة الفصل لدولة واحدة.. التضامن العالمي والسلام بدون انقسامات واضطرابات مصلحة مشتركة للبشرية جمعاء".
والحديث عن النظام العالمي هنا هو إشارة صريحة بطبيعة الحال إلى النظام الحالي، الذي تقوده وتهيمن عليه أمريكا وحلفاؤها الغربيون، وربما تكون هذه النقطة بالتحديد هي السبب الرئيسي للاستباق الأمريكي بالرفض لأي تسوية سلمية لحرب أوكرانيا تتم بوساطة صينية.
فبعد نجاح الصين في وساطتها بين السعودية وإيران، وتوقيع اتفاق استعادة العلاقات الدبلوماسية بين الخصمين الإقليميين في العاصمة بكين مؤخراً، يسعى الرئيس شي جين بينغ إلى تقديم الصين كصانع سلام عالمي وإبرازها كقوة عظمى مسؤولة، عكس الولايات المتحدة بطبيعة الحال.
فذلك الاتفاق بين السعودية وإيران يفتح آفاقاً جديدة لشرق أوسط بدون أمريكا، إذ كان العامل الرئيسي في هذه الصفقة هو بلا شك عدم تدخل واشنطن في الأمر مطلقاً، وهو ما اعتبره كثيرون أن غياب الولايات المتحدة عن المنطقة أمر إيجابي، بحسب تقرير لمجلة The Intercept الأمريكية.
وبالتالي فإن نجاح الصين في وساطتها المقترحة بين روسيا وأوكرانيا والتوصل إلى تسوية سلمية تنهي الحرب التي يكتوي العالم أجمع من جراء تداعياتها السلبية المستمرة، ربما يمثل نهاية فعلية للهيمنة الأمريكية على النظام العالمي وبداية لعصر جديد تتولى فيه الصين دور القوة العظمى الأبرز على المسرح الدولي.
فأوكرانيا تراقب بقلق زيارة الرئيس الصيني إلى الكرملين، وبحسب تقرير لصحيفة وول ستريت جورنال الأمريكية، فإن الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، ينتظر لقاء مع نظيره الصيني في أعقاب نهاية زيارة الأخير إلى موسكو.
وينبع القلق الأوكراني، بحسب التقارير الغربية، من أن يؤدي رفض وساطة الصين لإنهاء الحرب إلى تحول كبير في موقف بكين، التي قد تقرر في نهاية المطاف تسليم أسلحة لموسكو بالفعل، وربما يكون لتلك الأسلحة تأثير على نتيجة الحرب النهائية.
فالغرب يدعم أوكرانيا منذ اللحظة الأولى لاندلاع الحرب، وقدمت واشنطن وحلفاؤها لكييف مساعدات عسكرية ولوجستية تتخطى قيمتها عشرات المليارات من الدولارات، ولم ينجح كل ذلك الدعم في تحقيق الكثير في ساحة المعركة خلال الأشهر الماضية، بل إن روسيا تحقق تقدماً على الأرض، حتى وإن كان بطيئاً.
الخلاصة هنا أن زيارة الرئيس الصيني إلى حليفه الروسي فلاديمير بوتين، الذي يرحب بوساطة ضيفه لإنهاء الحرب في أوكرانيا، تمثل مصدراً كبيراً للقلق لدى أمريكا وحلفائها، وبالتالي فإن فرص نجاح تلك الوساطة قد تكون ضعيفة للغاية، حيث إن زيلينسكي على الأرجح لن يوافق على أية تسوية دون ضوء أخضر من بايدن.