أزمة باكستان الاقتصادية توشك على الدخول بمنعطف خطير، وفي الوقت ذاته تسبب قرار السعودية برفض تقديم أي عمليات إنقاذ أخرى أو قروض بدون فوائد لباكستان في صدمة للحكومة في إسلام آباد.
ودفع ذلك وزير المالية للشكوى من أنه حتى الدول الصديقة ليست حريصة على مساعدة باكستان في الخروج من حالة الطوارئ الاقتصادية.
وتحتاج باكستان تدفقات مستمرة من الدولار الأمريكي لتجنب التخلف عن سداد قروض دولية تقارب 80 مليار دولار على مدى السنوات الثلاث والنصف القادمة. تمتلك الدولة حالياً 3 مليارات دولار فقط من احتياطيات النقد الأجنبي، حسبما ورد في تقرير لموقع Middle East Eye البريطاني.
أسباب أزمة باكستان الاقتصادية
حدثت أزمة باكستان الاقتصادية جراء قصور سياسات الطبقة الحاكمة، ثم تعرضت البلاد لأضرار كبيرة من جراء الحرب في أوكرانيا، لا سيما بعد أن اضطرت هي وغيرها من الدول النامية إلى الدخول في حرب مزايدة على واردات الغاز الطبيعي المتناقصة في الأسواق، كما تفاقمت أزمة باكستان الاقتصادية بسبب فيضانات العام الماضي.
أجبرت تلك الأعباء رئيسَ الوزراء الباكستاني، شهباز شريف، على الاستغاثة بصندوق النقد الدولي لاستئناف خطة الإنقاذ المالية التي تجمّدت في أوائل العام الماضي.
المفاوضات جارية حالياً، لكن الأخبار الواردة تشير إلى أن الصندوق يطالب بتنازلات مؤلمة، وتخشى الحكومة عواقب الموافقة عليها قبيل الانتخابات المزمع إجراؤها هذا العام.
إذ تخوض باكستان أيضاً مفاوضات صعبة مع صندوق النقد الدولي بشأن حزمة الإنقاذ الثالثة عشرة منذ الثمانينيات، وسط استياء من داعميها التاريخيين من تبديد الأموال السابقة.
وإذا لم يُبرَم اتفاق قريباً، فستجد باكستان صعوبة متزايدة في الحصول على قروض دولية، حيث انخفض تصنيفها الائتماني إلى غير مرغوب فيه.
في غضون ذلك، لاحت بالفعل علامات تشير إلى أن أزمة باكستان الاقتصادية ستؤثر في احتياجات الباكستانيين الأساسية. فقد شهدت البلاد في أواخر يناير/كانون الثاني، انقطاعاً غير مسبوق للتيار الكهربائي في عموم البلاد لأكثر من 24 ساعة. وفي حين أن سبب الانقطاع غير واضح، فإنه يكشف عن لمحةٍ مما قد تواجهه البلاد من أزمات. يوسف نزار، المحلل الاقتصادي الباكستاني، قال للموقع الأمريكي: "يعتمد توليد الكهرباء في باكستان اعتماداً كبيراً على استيراد إمدادات الوقود. ومن ثم إذا بدأنا نشهد انقطاع التيار الكهربائي، والنقص في وقود النقل، في وقت تواجه فيه البلاد نسبة تضخم بلغت 40%، فلا يمكن لأحد أن يتصور حجم العواقب".
وعلى الرغم من أن الإمارات تعهدت بتقديم بعض المساعدة المالية لباكستان، فإن المبلغ المعلن عنه لا يكاد يكفي لتغطية واردات السلع الحيوية بضعة أسابيع أخرى. وفي غضون ذلك، لم تُظهر الصين، التي تدين لها باكستان بنحو 30% من نسبة ديونها، أي استعداد حتى الآن للتفاوض من أجل تخفيف شروط الوفاء بالديون. أما الولايات المتحدة، فقد نأت بنفسها إلى حد كبير عن المنطقة بعد انسحابها المرير من أفغانستان.
أفضت تلك الأزمات ومعها سوء الإدارة المزمن في البلاد إلى وقوع النظام السياسي الباكستاني تحت وطأة تهديد حقيقي بالانهيار.
إذ "تواجه باكستان الآن ثلاث أزمات يتقاطع حدوثها في وقت واحد: أزمة اقتصادية، وأزمة سياسية، وأزمة أمنية تتفاقم منذ عودة طالبان أفغانستان (إلى حكم البلاد في أعقاب الانسحاب الأمريكي في أغسطس/آب 2020)؛ إنه أكبر تهديد لتماسك الدولة الباكستانية منذ عام 1971 (العام الذي اندلعت فيه الحرب بين باكستان وباكستان الشرقية، وانتهى باستقلال الأخيرة وإعلان دولة بنغلاديش)"، حسبما قال عزيز يونس، مدير قسم الشؤون الباكستانية في مركز جنوب آسيا التابع للمجلس الأطلسي الأمريكي، لموقع The Intercept الأمريكي.
السعودية تضع شروطاً مماثلة لصندوق النقد الدولي
وأخبر المحللون المطلعون على التطورات الأخيرة موقع Middle East Eye البريطاني أن المملكة السعودية قد اشترطت قروضاً واستثمارات جديدة بفائدة على باكستان لتنفيذ إصلاحات نقدية ومالية صارمة، إلى جانب خفض كبير في عجز الحساب الجاري -وهي شروط مماثلة لتلك التي وضعها صندوق النقد الدولي.
وقال عمر كريم، الزميل المشارك في مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية، إن السلطات الباكستانية في حالة صدمة.
ويُعتقد أنه في رحلة أخيرة، حتى قائد الجيش الباكستاني لم يتمكن من إقناع ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان بالسماح بتمويل طارئ للبلاد.
ويعتقد كريم أن هذا يشكل سابقة جديدة. وقال: "كان قادة الجيش الباكستاني في السابق مصدر طمأنة للدول الصديقة، لكن السعوديين اكتفوا من السلطات المدنية الباكستانية التي تبدد هذه المنح".
فهي تريد تنفيذ إصلاحات قبل تقديم الأموال
في المنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس في يناير/كانون الثاني، أوضح وزير المالية السعودي السياسة الجديدة للمملكة بشكل واضح للغاية.
قال محمد الجدعان، وزير المالية السعودي: "كنا نهب المنح والودائع المباشرة دون قيود ونحن نغير ذلك. نحن نعمل مع مؤسسات متعددة الأطراف لنقول في الواقع إننا بحاجة إلى رؤية الإصلاحات".
ويعتقد أن السلطات السعودية تتخذ موقفاً مماثلاً مع مصر، التي عقدت اتفاقاً مع صندوق النقد الدولي للحصول على قرض بقيمة 3 مليارات دولار، إضافة لمليار دولار من صندوق الطوارئ التابع للبنك، ويؤكد الاتفاق على دور التمويل من دول الخليج العربية.
"لن يتركونا نسقط".. النخب الباكستانية كانت تعيش في وهم كبير لعقود
وقال كمال علم، الزميل البارز في المجلس الأطلسي، إن السلطات الباكستانية كان ينبغي أن تتوقع هذا النمط.
وقال علم: "لقد كان هناك شعور زائف بالأمن في باكستان، حيث يبلغ عدد سكانها أكثر من 220 مليون نسمة وبرنامج أسلحة نووية شامل، وهي أكبر من أن يدعها العالم تفشل. وقد ولّد هذا شعوراً بالرضا عبر الحكومات المتعاقبة والقيادة العسكرية للبلاد من خلال القروض الميسرة أو عمليات الإنقاذ".
رئيس الوزراء الباكستاني السابق، آصف علي زرداري، قال ذات مرة للدبلوماسي الأمريكي ريتشارد هولبروك، إن باكستان "أكبر من أن [تُترك] لتنهار"، وشبَّهها بالبنوك الكبرى التي أمدَّتها الحكومة الأمريكية بمساعدات إنقاذ ضخمة لمنع انهيارها في أعقاب الأزمة المالية العالمية في عام 2008.
وقال خاقان نجيب، المستشار السابق لوزارة المالية الباكستانية، إن السعوديين يريدون من باكستان توقيع اتفاق مع صندوق النقد الدولي، وعندها فقط سينظرون في أي قروض أو استثمارات.
في الوقت نفسه، من المقرر أن يصل معدل التضخم في باكستان إلى 33% في الأشهر المقبلة، وانخفضت قيمة عملة البلاد بنحو 65% في الأشهر الـ12 الماضية.
منذ ما يقرب من ستة أشهر، في محاولة لوقف تدفق النقد الأجنبي، أوقفت الحكومة الباكستانية جميع الواردات تقريباً، مما أدى إلى نقص في المواد الخام عبر قطاعات التصنيع وإغلاق مؤقت للعديد من مصانع تصنيع السيارات ومصانع النسيج.
ويجادل نجيب أنه مع ارتفاع التضخم، وبطء النمو، وارتفاع أسعار الفائدة حول العالم، هناك القليل من الأموال المتاحة للأسواق الناشئة مثل باكستان، وأنه بدون "ختم الموافقة" من صندوق النقد الدولي، حتى الممالك الخليجية الصديقة ستظل عازفة عن الاستثمار في البلاد.
لماذا تتلكأ الطبقة الحاكمة في باكستان في تنفيذ الإصلاحات؟
قال كمال علم لموقع Middle East Eye إنه "من الواضح جداً" أن "التأخير في تنفيذ إصلاحات صندوق النقد الدولي يرجع إلى رغبة النخبة السياسية في تجنبها – والفساد العميق في الحكومة هو جوهر ذلك".
وقال علم إن ثقافة "انعدام المساءلة قد دمرت الثقة في القيادة الباكستانية، في الداخل والخارج".
وقال علم إن باكستان تحتل المرتبة 140 في مؤشر مدركات الفساد لمنظمة الشفافية الدولية لعام 2022، وهذا ليس ترتيباً مواتياً إذا كانت البلاد تريد جذب الاستثمار الأجنبي.
نجيب، الذي عمل في الحكومة، قال إن مجرد جذب الاستثمار الأجنبي لن يحل مشاكل باكستان على المدى الطويل، وإن البلاد بحاجة إلى توسيع قاعدتها الضريبية وتحسين تحصيل الضرائب.
وقال عمر كريم إن السعوديين غير راضين عن الطريقة التي تتصرف بها إسلام آباد هذه الأيام.
وأضاف: "لدى رئيس الوزراء الحالي 77 وزيراً، وهي أكبر الحكومة في العالم. يحصلون جميعاً على امتيازات كاملة. لماذا يساعدك السعوديون إذا استمررت في تحمل مثل هذه الكماليات بينما يطلقون هم أنفسهم حملة لخفض التكاليف؟".
يعتقد كريم أن السعوديين مهتمون بالاستثمار في قطاع الطاقة الباكستاني، سواء الوقود الأحفوري أو مصادر الطاقة المتجددة، وأنهم مهتمون أيضاً بالاستثمار في قطاع تكنولوجيا المعلومات المزدهر في البلاد. لكنه قال إن هذا الاستثمار لن يحدث إلا بعد أن تنفذ باكستان إصلاحات اقتصادية.
بينما تعاني باكستان من أزمة طاقة خانقة، قد يكون الاستثمار السعودي في قطاع الطاقة المتجددة أمراً بالغ الأهمية. يشير تقرير صادر عن البنك الدولي لعام 2020 إلى أن باكستان لديها إمكانات هائلة لتوليد الطاقة من خلال الطاقة الشمسية.
وذكر التقرير أن "استخدام 0.071% فقط من مساحة البلاد لتوليد الطاقة الشمسية سيلبي الطلب الحالي على الكهرباء في باكستان".