زاد حجم التبادل التجاري بين الإمارات وروسيا خلال عام اندلاع حرب أوكرانيا بنسبة 60% وهو ما يثير غضب أمريكا بطبيعة الحال، فهل تقع مواجهة بين الحليفين قريباً؟
موقع Middle East Eye البريطاني نشر تقريراً يرصد تلك المواجهة المتوقعة بين الولايات المتحدة والإمارات على خلفية مساعدة روسيا في التهرب من العقوبات الغربية. ففي نهاية شهر يناير/كانون الثاني، سافر وفد أمريكي بارز بقيادة بريان نيلسون، وكيل وزارة الخزانة لشؤون الإرهاب والاستخبارات المالية، إلى الإمارات.
وسبقت الرحلة مذكرة دبلوماسية خاصة ورد فيها أن المسؤولين الأمريكيين يريدون مقابلة شخصيات رفيعة المستوى من عائلة آل نهيان الحاكمة في أبوظبي. توجه الوفد الأمريكي إلى الخليج "لاستئناف التنسيق بشأن مسألة التمويل غير المشروع ومناقشة قضايا إقليمية أخرى"، أي أنهم جاؤوا للحديث عن استخدام روسيا للإمارات في التحايل على العقوبات الغربية.
أمريكا تكثف الضغوط على الإمارات
وما لبثت أن أعقبت تلك الزيارة رحلة أخرى أجراها جيمس أوبراين، رئيس قسم العقوبات في وزارة الخارجية الأمريكية، وهو شخصية مقربة من وزير الخارجية الأمريكي، أنتوني بلينكن، ومن سوزان رايس، مستشارة السياسة الداخلية لجو بايدن، ومستشارة الأمن القومي في عهد باراك أوباما.
هذا النشاط المكثف والزيارات المتوالية ليست أمراً عارضاً، بل مساعٍ منظمة من واشنطن التي أوشكت أن تستنفد صبرها على الإمارات، حليفتها التي تواصل مساعدة روسيا في التهرب من العقوبات المفروضة في أعقاب الهجوم على أوكرانيا، الذي تصفه موسكو بأنه "عملية عسكرية خاصة" بينما يصفه الغرب بأنه "غزو عدواني غير مبرر". ويبدو أن يوم الحساب قد اقترب، فالإدارة الأمريكية عازمة على إلزام أبوظبي باتخاذ إجراءٍ ما للحدِّ من الأمر.
قال جوناثان وينر، المبعوث الأمريكي السابق لشؤون ليبيا والباحث غير المقيم في معهد الشرق الأوسط، لموقع Middle East Eye: إن "الإماراتيين يأملون بالتأكيد ألا يضطروا إلى الاختيار بين روسيا والولايات المتحدة. لكنك لا يمكن أن تكون محايداً في هذه الظروف، فأي حياد مزعوم يعني في الواقع أنك اخترت دعم روسيا".
صرحت إليزابيث روزنبرغ، المسؤولة في وزارة الخزانة الأمريكية، الأسبوع الماضي، بأن الإمارات "موضع مراقبة" من واشنطن، فالشركات الإماراتية صدَّرت بضائع تزيد قيمتها على 18 مليون دولار إلى "كيانات روسية معاقبة من الولايات المتحدة" بين يوليو/تموز ونوفمبر/تشرين الثاني 2022.
وقالت روزنبرغ إن حصة قيمتها 5 ملايين دولار من تلك الصادرات جاءت "من بضائع أمريكية المنشأ تندرج ضمن الصادرات التي حظرت الولايات المتحدة تصديرها إلى روسيا"، وعلى رأسها "الأجهزة المحتوية على أشباه الموصلات، التي يمكن استخدام بعضها في ساحة المعركة".
ففي عام 2022، الذي شهد بداية الهجوم الروسي على أوكرانيا، الذي تصفه موسكو بأنه "عملية عسكرية خاصة" بينما يصفه الغرب بأنه "غزو عدواني غير مبرر"، زاد حجم التبادل التجاري بين روسيا والإمارات بنسبة 68 %، وبلغت قيمته الإجمالية مبلغاً غير مسبوق وصل إلى 9 مليارات دولار.
كما استقبل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين نظيره الإماراتي محمد بن زايد آل نهيان في مدينة سانت بطرسبرغ في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، وأشاد بالتطور المتواصل للعلاقات بين البلدين.
الإمارات.. قِبلة الشركات الروسية
تحتل الإمارات موقعاً استراتيجياً بين آسيا وإفريقيا، ما جعلها قبلة للشركات الروسية المغادرة لأوروبا والأثرياء الروس الراحلين عن بلادهم. فقد انتقل كبار رجال الأعمال الروس، الذين كانوا يديرون أعمالهم التجارية في لندن أو سويسرا، إلى دبي وأبوظبي، حيث يمكنهم الاستمتاع بأنماط المعيشة المرفهة التي اعتادوها، واستئناف أعمالهم دون مراقبة خاصة من الجهات المعنية.
وأورد تقرير إخباري عن موقع Whale Hunting أن مجموعة من اليخوت الفاخرة المملوكة لمليارديرات روس خاضعين للعقوبات، مثل أندريه سكوتش "ملك النيكل الروسي" وقطب التجارة ألكسندر أبراموف، شوهدت راسيةً في مرسى راشد لليخوت، بالقرب من مصب خور دبي. وفي مارس/آذار 2022، ذكرت مصادر الأخبار أن رومان أبراموفيتش، الملياردير الروسي الخاضع للعقوبات الغربية ومالك نادي تشيلسي السابق، كان يبحث عن منزل في منطقة نخلة الجميرة بدبي.
وفي سياق الحديث عن تراجع الحضور الاقتصادي والمالي في لندن وتزايده في الإمارات، قال مصرفي استثماري بريطاني لموقع MEE: "لقد ولَّى عهد لندنغراد إلى حدٍّ ما. هناك قائمة عقوبات ضخمة، وكثير من الناس ينتابهم الخوف من التورط بأي شيء يتعلق بروسيا… لكن الإمارات بها عدد هائل من الشركات ذات المسؤولية المحدودة والشركات الوهمية التي يمكن استخدامها [واجهة] للأعمال الروسية".
وقالت أوليفيا أليسون، المستشارة المستقلة المعنية بالبحث في التدفقات المالية من الإمارات وخارجها إلى روسيا، إن الحكومات الغربية تتحرى عن مسألة التهرب من العقوبات في الإمارات، لا سيما قضايا تجارة النفط والهياكل المالية والشركات، والتجارة في البضائع الخاضعة لعقوبات وغيرها ذات الاستخدام في الأغراض المدنية والعسكرية.
انتقل كثير من الروس العاملين في مختلف المهن إلى دبي منذ بداية الحرب. وقال إيفان، المبرمج الروسي الذي كان يعيش في دبي ويعمل بها من قبل الحرب، "أرى أن الجالية الروسية زاد حضورها زيادة كبيرة منذ بدء الحرب. فالكثير من شركات الدعاية الروسية والمطورين واستوديوهات الإنتاج وبعض شركات البيع بالتجزئة تحاول جميعها إنشاء مقرات بديلة لها هنا في الإمارات".
وترى أليسون أن "الإمارات أكثر الخيارات جاذبية لكثيرين لأن الروس بمختلف أطيافهم موجودون فيها. وكثير من الروس الخاضعين للعقوبات يجرون أعمالهم عبر دبي، التي يتمثل دورها الرئيس في كونها وسيطاً لطالما استُخدم للتهرب من العقوبات، ومن ثم تتوافر فيها الخبرات والمعرفة بكيفية التحايل على العقوبات".
اتهمت الولايات المتحدة شركات إماراتية من قبل بمساعدة إيران في التهرب من العقوبات المفروضة عليها. وقالت أليسون إنه "من السهولة بمكان إخفاء هوية أصحاب الأعمال التجارية في الإمارات، كما يسهل إخفاء الملكية الحقيقية للشركات".
عبور البضائع المتجهة إلى روسيا
قال محلل جيوسياسي مقيم في دلهي إن البضائع -أغلبها مواد غذائية- تأتي من جميع أنحاء العالم إلى روسيا عبر الإمارات، "فروسيا لم تكن مستعدة لحرب طويلة"، و"على سبيل المثال، إذا نفد ورق التواليت لديهم، تأتيهم البضائع والمنتجات من الهند أو سنغافورة أو ماكاو أو غيرها عبر الإمارات -دبي خصوصاً، وأبوظبي أحياناً- ثم تُنقل منها بعد تغيير ميناء المنشأ إلى الإمارات".
وتكتظ الإمارات بالشركات الوسيطة التي تتاجر بالنيابة عن الشركات الخاضعة للعقوبات، من روسيا وغيرها. فالبلد مزدحم بشركات التمويل والتجارة ورجال الأعمال من جميع أنحاء العالم، والفرص متاحة لإبرام الصفقات مع الجميع، حتى الأمريكيين. وقد اتُّهم خمسة مواطنين روس وتاجرا نفط أمريكيان في أكتوبر/تشرين الأول من العام الماضي بالمشاركة في مخطط عالمي للتهرب من العقوبات وغسل الأموال.
تفاخر يوري أريخوف، الروسي المتهم في القضية والمقيم في دبي، بأنه استخدم "أقل البنوك شأناً في الإمارات" لتنفيذ خطته في "الحصول غير القانوني على التكنولوجيا العسكرية الأمريكية والنفط الفنزويلي بالاعتماد على عدد لا يحصى من التحويلات المالية التي أُجريت عبر الشركات الوهمية والعملات المشفرة".
وتعليقاً على القضية، قال جوناثان كارسون، وكيل مكتب التحقيقات الفيدرالي، إن المكتب "سيواصل مراقبة ضوابط التصدير غير المسبوقة التي فرضت على روسيا بعد إعلانها الحرب على أوكرانيا، ويعتزم مكتب إنفاذ قوانين التصدير ملاحقة هؤلاء المخالفين أينما كانوا وفي جميع أنحاء العالم".
في غضون ذلك، قال مواطن بريطاني يعيش في دبي منذ 10 سنوات، إنه "بات من الصعب ألا تلاحظ تدفق الروس على الإمارات، لقد جاءوا بأعداد كبيرة. والمشكلة الأكبر للمقيمين منذ مدة طويلة مثلي أنهم من الأثرياء ذوي الفوائض المالية الكبيرة، ومن ثم فإن حضورهم يرفع أسعار العقارات والإيجارات. وقد زادت تكلفة المعيشة إلى حدٍّ جعل الكثير من الناس يفكرون في المغادرة".
تاريخ طويل من الضغوط خلف الكواليس
يعود الانزعاج الأمريكي من الإماراتيين إلى سنوات أوباما على الأقل، فقد كان للإمارات علاقات وثيقة بموسكو حينها أيضاً. وتوسطت الإمارات في اجتماع سري عُقد في يناير/كانون الثاني 2017 بين إريك برنس، مؤسس شركة بلاك ووتر الأمنية الأمريكية، وكيريل ديميترييف، الرئيس التنفيذي لصندوق الاستثمار المباشر الروسي.
وقال مسؤولون أمريكيون وأوروبيون إن الاجتماع مع برنس، الحليف المقرب لدونالد ترامب، كان جزءاً من مساعٍ واضحة لإنشاء قناة تواصل خلفية بين موسكو والرئيس الأمريكي القادم.
وفي سياق آخر، تقاربت المصالح الروسية والإماراتية في ليبيا، فقد اعتمدت موسكو على مجموعة فاغنر لبلوغ تطلعاتها هناك. ويذهب خبراء إلى أن مقاتلي فاغنر، الذين أرسلوا إلى ليبيا بموافقة موسكو في عام 2019، موَّلتهم الإمارات، على الأقل في البداية.
كما تشير سجلات وزارة العدل الأمريكية، التي نشرها موقع MEE في ديسمبر/كانون الأول 2022، إلى أن الإمارات أنفقت أكثر من 154 مليون دولار على جماعات الضغط منذ عام 2016.
وقال جوناثان وينر، المبعوث الأمريكي السابق لشؤون ليبيا، إن "الإماراتيين حظوا خلال عهد ترامب بنفوذ هائل على السياسة الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا بالعلاقات الشخصية التي أقاموها مع أشخاص مقربين [من صناع القرار] في البيت الأبيض. وهم ربما يؤثرون التأرجح دون ميل كامل إلى جانب معين في الحرب الروسية الأوكرانية انتظاراً للعودة المحتملة لترامب أو نسخة أخرى منه. لكن الأحداث الجارية قد لا تسمح لهم بذلك".
أما عن تصورات المسؤولين الأمريكيين بأن الإمارات ستبذل وسعها للحد من استخدام البلاد للتهرب من العقوبات الروسية، فوصفها المحلل الجيوسياسي الذي تحدث إليه موقع MEE بأنها "أوهام أمريكية"؛ لأن تنفيذ الضوابط المالية المشددة يستغرق وقتاً طويلاً، والانتخابات الرئاسية الأمريكية على الأبواب، ومعها تزداد فرص عودة الجمهوريين إلى السلطة.
وأشار المحلل إلى أن الإماراتيين يتبعون مصالحهم الوطنية بحسب رؤيتهم لها، ولا ينقادون انقياداً كاملاً لمصالح الولايات المتحدة، فهم يمتثلون لطلباتها إذا رأوا أنها تتوافق مع مصالحهم العامة.
وختم الخبير كلامه بالقول إن مساعدة أوكرانيا في التصدي للغزو الروسي أمر ذو أهمية كبيرة لإدارة بايدن؛ لذا فإن مساعدة الإماراتيين لروسيا من المحتم أنها ستكون لها عواقب أوسع على العلاقات بين الإمارات والولايات المتحدة ما دام الرئيس الأمريكي بايدن في منصبه.