لم تكن قيادة سيارة أوبر جزءاً من تصور كريم لمستقبله، كان والده يعمل في وظيفة مريحة في الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء الوطني المصري المرموق. كان جده موظفاً حكومياً أيضاً عُيِّنَ خلال التوسع الكبير للقطاع العام في عهد جمال عبد الناصر، ولكنه الآن يدفع ثمن سياسة تخفيض عدد الوظائف الحكومية التي تنتشر بالمنطقة العربية كلها.
وقبل خمس سنوات، حصل كريم على شهادته في المحاسبة من جامعة القاهرة، وبدأ مشوار البحث عن وظيفة آملاً أن يسير في طريق والده وجده، ولكنه الآن يعيش في زمن مختلف.
لقد تباطأ التوظيف العام، خاصة بالنسبة للخريجين. قال كريم ساخراً: "كان من الممكن أن أكون عامل نظافة وحاصلاً على درجة في المحاسبة، ولكن لست محاسباً". لا يوجد الكثير من العمل في القطاع الخاص، الذي أخذ يتقلص كل شهر تقريباً منذ تخرجه في الجامعة. وهذا يجعل الوظائف المتاحة غريبة بالنسبة له، حيث العمل في تطبيقات رحلات السيارات أو العمل في المقاهي.
وأصبحت قصته مشتركةً في جميع أنحاء المنطقة العربية التي كانت تتميز في السابق بقطاعات عامة هائلة. اعتبر العديد من المواطنين الوظائف التكميلية في الخدمة المدنية مكتسباً حقيقياً، لقطاع كبير من السكان، حسبما ورد في تقرير لمجلة The Economist البريطانية.
لماذا تضخمت أعداد الوظائف الحكومية بالدول العربية عبر العقود؟
أضافت الشركات الراكدة التي تديرها الدولة، والتي غالباً ما كانت تعمل بالخسارة، المزيد من الأعباء إلى كشوف المرتبات العامة التي تدفعها الحكومات. استهلكت فواتير الأجور جزءاً كبيراً من الإيرادات، ولم تترك سوى القليل للإنفاق على الصحة أو التعليم أو الاستثمارات الرأسمالية.
منذ الستينيات، قام عقد اجتماعي في الدول العربية يمكن وصفه بالوظيفة مقابل الصمت، أي مقابل قدرة الدولة على إبعاد الطبقات الوسطى عن المعارضة.
وعبر هذه السياسة، توسعت الحكومات في تعيين الموظفين في الجهاز البيروقراطي الذي تضخم تدريجياً، دون مراعاة المعايير الاقتصادية والكفاءة، والحاجة.
في بعض البلدان أدت هذه الزيادة فقط ليس لزيادة العبء على ميزانيات الحكومات بل لتدهور عام لأداء الحكومات، كما انخفضت القيمة الحقيقية للأجور.
كان العمل الحكومي يعني بالنسبة للموظف في العديد من الدول العربية، وجاهة اجتماعية، ساعات عمل أقل رسمياً وأقل كثيراً واقعياً، محاسبة محدودة، إلا في الأخطاء الكبرى، حاجة للتطوير محدودة، وأماناً وظيفياً لامحدود، وأجوراً منخفضة أو جيدة حسب ظروف الوظيفة أو الدولة، مع إمكانية توفر فرصة لإيجاد عمل جانبي، أو بيزنس خاص.
وفي مصر كان هناك مثل شهير يعبر عن التعلق بالعمل الحكومي رغم أجوره المنخفضة، يقول: "إن فاتك الميري اتمرغ في ترابه"، أي إن فاتتك الوظيفة الحكومية حاول الاستفادة من ترابها.
ولكن الحكومات العربية قلّلت عدد الموظفين خلال السنوات الماضية
لكن هذا بدأ يتغير، مع تدهور الأوضاع الاقتصادية في الدول العربية ونصائح وشروط صندوق النقد الدولي بضرورة تخفيض النفقات الحكومية بما فيها الأجور.
كنسبة مئوية من إجمالي العمالة، يتقلص القطاع العام في العديد من البلدان العربية. حوالي 20% من المصريين العاملين كانوا قد وُظِّفوا من قِبَلِ الحكومة في 2021، بانخفاض عن 27% قبل عقد من الزمن، حسب تقديرات منظمة العمل الدولية. وانخفض العدد المطلق لموظفي الخدمة المدنية.
ولكن هذه الأرقام لا تزال مرتفعة مقارنة بالنسبة العالمية المقبولة.
في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، وهي نادٍ للدول الغنية، يبلغ متوسط نصيب الوظائف العامة 18%.
ومع ذلك، فإن نسبة الموظفين الحكوميين آخذة في الانخفاض، ليس فقط في مصر، ولكن في الأردن والمملكة السعودية ودول عربية أخرى.
ولا تزال فواتير الأجور المرتفعة نسبياً تشكل ضغطاً على الميزانيات. قدّر صندوق النقد الدولي في عام 2016 أن فاتورة الأجور تمتص حوالي 20% من الإنفاق العام في الدول الغنية و30% في الدول الفقيرة. ولكن تتجاوز النسبة في معظم الدول العربية 40%.
ويفترض أنه يجب على القطاع العام تقديم خدمات جيدة للمواطنين. ويمكن أن يساعد أيضاً في توسيع الطبقة الوسطى وتقليل عدم المساواة في الدخل، مثلما كان الحال في منتصف القرن في مصر، أو أن يكون وسيلة فعالة (وإن كانت باهظة الثمن) لاستيعاب الكثير من الشباب العاطلين عن العمل.
ولكن في كثير من أنحاء العالم العربي، لا يفعل القطاع العام أياً من ذلك، إذ تنفق الدول الكثير من الأموال على القطاع العام، وتحصل على قدر أقل من المنافع من أي وقت مضى.
وعلى مدى عقود، نمت الخدمة المدنية السعودية بشكل مطرد، حيث أضافت حوالي 20 ألف مواطن سنوياً. ارتفعت معدلات التوظيف خلال فترة ازدهار النفط في منتصف العقد الأول من القرن الحادي والعشرين: من عام 2005 إلى عام 2015، وفرت الدولة ما يقرب من نصف مليون عامل. ثم توقفت الأمور عند هذا الحد. منذ عام 2016، نما عدد الموظفين الحكوميين بنسبة 2% فقط، وفقاً لبيانات البنك المركزي. مع تولي المزيد من السعوديين وظائف في القطاع الخاص، انخفضت حصة التوظيف في القطاع العام من إجمالي العاملين السعوديين من حوالي 70% في عام 2016 إلى 52% في عام 2022.
غير أن فاتورة الأجور مازالت تتزايد
سيؤدي التوظيف الأقل في الحكومة إلى إبطاء نمو فاتورة الأجور، ولكن لن يقللها. قفز إجمالي الرواتب من 409 مليارات ريال (109 مليارات دولار) في عام 2016 إلى ما يقدر بنحو 506 مليارات ريال في العام الماضي، بزيادة قدرها 24% خلال فترة كان فيها التضخم التراكمي أقل من 9%. وُضِعَت الرواتب في الميزانية لاستيعاب 58% من الإنفاق العام في عام 2022، دون تغيير عن ست سنوات سابقة.
وحتى مع انخفاض عدد موظفي القطاع العام في مصر، زادت فاتورة الأجور بأكثر من الضعف من 199 مليار جنيه (28 مليار دولار في ذلك الوقت) في عام 2014 إلى 400 مليار جنيه في العام الماضي. عندما تولى عبد الفتاح السيسي السلطة في 2014، كان الحد الأدنى لأجور القطاع العام 1200 جنيه. لقد رفعها خمس مرات. وتسري الزيادة الأخيرة، إلى 3500 جنيه، بداية من الأول من أبريل/نيسان.
تراجع نسبة المخصصات للجوانب الاجتماعية في عهد السيسي
تصر حكومة الرئيس السيسي، التي أنهت قرضاً من صندوق النقد الدولي بقيمة 3 مليارات دولار في ديسمبر/كانون الأول، على أنها تحرز تقدماً نحو تقليص فاتورة الأجور العامة. ويشير المسؤولون إلى أن الرواتب تراجعت من 27% من النفقات في 2014 إلى 20% العام الماضي. لكن هذه الأرقام تحتاج إلى تحذير. كانت مصر مثقلة بالديون خلال تلك الفترة، وزادت التكلفة السنوية لخدمتها بنسبة 360%.
مع استبعاد مدفوعات فوائد الديون، تبدو الميزانية أقل إثارة للإعجاب: فقد التهمت الأجور 38% من الإنفاق العام التقديري العام الماضي، مقارنة بـ40% في عام 2014. تخصص مصر حصة أقل من الإنفاق على الرعاية الاجتماعية والخدمات العامة اليوم مما كانت عليه قبل تسع سنوات. ويستاء مواطنوها من الحالة المتردية للمدارس والمستشفيات العامة.
يعني ذلك أنه بينما انخفضت نسبة الإنفاق على الأجور بشكل ضئيل، فإن الحكومة لم تحول هذه الأموال للرعاية الاجتماعية بشكل كافٍ.
تونس تؤخر دفع الأجور بسبب التوسع في التوظيف بعد 2011
وحتى لو أرادت حكومات الدول العربية فصل الكثير من الموظفين البيروقراطيين، فإن قواعد الخدمة المدنية تجعل الأمر صعباً. وهم لا يريدون ذلك، لأن الأمر لن يحظى بشعبية على المستوى السياسي. عرضت تونس تجميد التوظيف الحكومي لتأمين صفقة مع صندوق النقد الدولي. لكن سيتعين عليها أن تكافح لعقود من الزمن مع عواقب موجة التوظيف التي ضاعفت حجم القطاع العام تقريباً بعد ثورة 2010 ضد زين العابدين بن علي، الديكتاتور السابق للبلاد.
في عام 2017، عندما تباطأ التوظيف، بلغت فاتورة الأجور 15% من الناتج المحلي الإجمالي. بحلول عام 2020 كانت 18%. وفي عام 2021، بدأت الدولة التي تعاني من ضائقة مالية في تأخير أجور العديد من الموظفين.
وفي مصر قيمة الأجور انخفضت بالدولار
حتى عندما ترتفع الرواتب بالقيمة الاسمية، غالباً ما يشعر الموظفون بضعف هذه الرواتب. في مصر، لم تواكب زيادات الأجور انخفاض قيمة العملة: من حيث القيمة الدولارية، فإن الموظف الذي يحصل على الحد الأدنى الجديد للأجور الشهر المقبل سيحصل على 34% أقل مما كان عليه في 2014. والمستوى المطلق لأجور القطاع العام في الدول العربية عادةً ما يكون منخفضاً، وأحياناً لا يكفي للعيش إلا بالكاد.
يصعب العثور على وظائف في الدولة، ويصعب العيش على رواتبها، ومع ذلك يظل القطاع العام هو صاحب العمل المفضل. في عام 2020، قام الباحثون في منتدى البحوث الاقتصادية وهو مركز بحثي، بحساب أجر الكفاف في مصر، وهو الراتب الذي لن يقبل العامل دونه وظيفة. وبلغ متوسط النتيجة بالنسبة للعاطلين 2500 جنيه في القطاع العام و3000 في القطاع الخاص. كانت الفجوة أوسع للنساء: 1500 جنيه للقطاع العام و2500 جنيه للقطاع الخاص.
ليس من الصعب معرفة السبب. لا تزال العديد من الحكومات تتمتع بأمان وظيفي أفضل من القطاع الخاص. وجد التقرير أن 95% من موظفي القطاع العام حصلوا على إجازة مرضية مدفوعة الأجر، وأن 96% حصلوا على تأمين صحي. في القطاع الخاص، كانت هذه الأرقام 40% و36%.
كما أن كثيراً من الموظفين يفضل تأمين وظيفة حكومية لتوفير الأمان، ثم بعد الحصول عليها يتجه للبحث عن وظيفة أخرى في القطاع الخاص لتحسين الدخل.
تقول مجلة The Economist: "ربما لا تتمكن الحكومة من شق طريقها إلى فاتورة أقل للأجور العامة. ومن الواضح أنها ليست السياسة الصحيحة، فهي تتطلب طرد الكثير من الناس في وقت أصبحت فيه العديد من الاقتصادات بطيئة.