"إما أن أدفع ثمن البقالة بالدولار أو لا طعام لأولادي، فمن أين آتي بالدولار وأنا أتلقى أجري بالليرة؟!"، بات هذا لسان حال كثير من اللبنانيين بعد أن أصبحت الدولرة في لبنان واقعاً قائماً.
فحتى أيام الحرب الأهلية اللبنانية التي استمرت نحو 15 عاماً، لم تكن بهذا السوء.
فعندما افتتح محيي الدين بازازو متجره الصغير في بيروت عام 1986، خلال بعض أشرس المعارك في الحرب الأهلية اللبنانية، لم يكن يتوقع أن تزدهر أعماله. لكن بعد عدة سنوات، صارت لديه أرفف مليئة بالطعام ويحتاج إلى 12 موظفاً لمساعدته في إدارة عمل مزدحم.
لكن تلك الأيام قد وَلَّت، حسبما ورد في تقرير لوكالة The Associated Press الأمريكية، حيث يعمل بازازو الآن في الغالب بمفرده، وغالباً في الظلام لتقليل فاتورة الكهرباء. ويكافح العملاء المنتظمون لتغطية تكلفة مشترياتهم، وبما أنهم يشترون أقل، فإنه يترك بدوره بعض الأرفف والثلاجات خالية.
الليرة تنهار كل ساعة
مع وقوع الاقتصاد اللبناني في حالة من الفوضى وانهيار عملته، يقضي بازازو معظم وقته في محاولة مواكبة تقلبات أسعار صرف الليرة اللبنانية. ويتزايد اعتماد رجال الأعمال مثله على أحد الأصول الأكثر موثوقية في العالم –الدولار الأمريكي– للتعامل مع أسوأ أزمة مالية في تاريخ البلاد الحديث.
وتتقلب الليرة اللبنانية المنهارة كل ساعة تقريباً. وعلى الرغم من ارتباطها رسمياً بالدولار منذ عام 1997، فإنَّ قيمتها تتحدَّد الآن من خلال معدل غامض في السوق السوداء الذي صار معياراً لمعظم السلع والخدمات.
وتراجعت قيمة الليرة في الشهر الماضي، من نحو 64 ألف ليرة للدولار إلى 88 ألف ليرة بالسوق السوداء، في حين أنَّ السعر الرسمي 15 ألف ليرة. ومما زاد الطين بلة بالنسبة لبلد يعتمد على استيراد المواد الغذائية والوقود وغيرها من المنتجات المُسعَّرة بالدولار، ضاعفت الحكومة مؤخراً مبلغ الضريبة ثلاث مرات- بالليرة اللبنانية- والتي يجب على المستوردين دفعها على هذه السلع.
وسيؤدي هذا على الأرجح إلى ارتفاع الأسعار. وبالنسبة للشركات الصغيرة، قد يعني ذلك بيع المنتجات بخسارة بعد دقائق فقط من تكديسها على الرفوف.
وفقدت الليرة اللبنانية 95% من قيمتها منذ أواخر عام 2019، والآن تطالب معظم المطاعم والعديد من المتاجر بتلقي المدفوعات بالدولار. وبدأت الحكومة مؤخراً في السماح لمحلات البقالة مثل الخاص ببازازو بالبدء في فعل الشيء نفسه.
هل أصبحت الدولرة في لبنان واقعاً تتبناه الحكومة تدريجياً؟
ويعرف الاقتصاد القائم على الدولار بأنه اقتصاد تعتمد فيه الدولة رسمياً الدولار بدلاً من عملتها المحلية، وهو أمر لم يحدث في لبنان بعد، ولكن هناك مؤشرات على ذلك.
وتبدأ الخطوات نحو الدولرة عندما تقوم دولة ما رسمياً بجعل عملة دولة أخرى (الدولار غالباً) في مناقصة قانونية لها، حسبما ورد في تقرير لموقع the Balance Money.
ويتم اللجوء إلى الدولرة بشكل شائع من قبل البلدان التي لديها تضخم مرتفع وتريد تثبيت مستويات الأسعار والاقتصادات.
وقد تجد البلدان التي تتكامل بدرجة كبيرة مع الولايات المتحدة في التجارة أو العلاقات المالية، أن من المفيد استخدام الدولرة.
ويعتقد بعض المراقبين والاقتصاديين أن هذا سيكون حلاً للأزمة النقدية الحالية في لبنان ووسيلة لتأمين الاستقرار النقدي. ومع ذلك، يعارض البعض الآخر مثلَ هذا الاقتصاد على أساس أن التمسك بالعملة الوطنية يعكس استقلال لبنان وسيادته، حسبما ورد في تقرير لموقع al-Monitor الأمريكي.
وبينما تهدف سياسة "الدولرة" هذه إلى تخفيف التضخم وتحقيق الاستقرار في الاقتصاد، فإنها تهدد أيضاً بدفع مزيد من الناس إلى براثن الفقر وتعميق الأزمة.
هذا لأنَّ كثيرين في لبنان ليست لديهم إمكانية الوصول إلى الدولارات لدفع ثمن الطعام والضروريات الأخرى المُسعَّرة بهذه الطريقة. لكن الفساد المستشري يعني أنَّ القادة السياسيين والماليين يقاومون بديل الدولرة: وهو إصلاحات طويلة الأجل في البنوك والوكالات الحكومية من شأنها إنهاء الإنفاق المُسرِف وتحفيز الاقتصاد.
هل تتجه مصر وباكستان لمصير مشابه؟
وتحولت دول أخرى مثل زيمبابوي والإكوادور إلى الدولار للتغلب على التضخم المفرط والمشكلات الاقتصادية الأخرى، مع نجاح متباين. وتعاني باكستان ومصر أيضاً من انهيار العملات، لكن أزماتهما الاقتصادية مرتبطة إلى حد كبير بحدث خارجي؛ وهو حرب روسيا في أوكرانيا، التي تسببت في ارتفاع أسعار المواد الغذائية والطاقة، حسب الوكالة الأمريكية.
كما أن الحكومة في كلا البلدين أقوى خاصة في مصر، كما أن أهمية البلدين تجعلهما يتوقعان تدفق مساعدات خليجية وغربية، وصينية كذلك في حالة باكستان بالأخص.
بينما كثير من مشكلات لبنان من صنعه، والدول الراعية له تقليدياً مثل السعودية والولايات المتحدة، غاضبة من سيطرة حزب الله على مقاليده السياسية ومن فساد نخبته الحاكمة.
ولا تبدو الطبقة اللبنانية الحاكمة الكبيرة الحجم قادرة أو راغبة في اتخاذ الحد الأدنى من الإصلاحات.
فلقد سبق أن عرض الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، على قادة الطوائف مبادرة تتضمن تشكيل حكومة أقل حدَّة في المحاصصة الحزبية والطائفية، مع مشاركة قوى المجتمع المدني البازغة تمهيداً لإجراء إصلاحات اقتصادية ومصرفية تفتح باب الأمل لدخول مساعدات دولية، خاصة من دول الخليج والدول الغربية مثل الولايات المتحدة، لإنقاذ البلاد من أزمة سبق أن وصفها البنك الدولي بأنها الأسوأ في العالم منذ 150 عاماً، ولكنهم تمنَّعوا.
وعندما عانت البلاد من آثار جائحة "كوفيد-19″، والانفجار المميت في ميناء بيروت في عام 2020 والغزو الروسي لأوكرانيا، اختار بنكها المركزي ببساطةٍ طباعة مزيد من العملات؛ مما أدى إلى تآكل قيمتها والتسبب في ارتفاع التضخم.
ومنذ بدء أزمة 2019، يعيش ثلاثة أرباع سكان لبنان البالغ عددهم 6 ملايين، في براثن الفقر. وأدى انقطاع التيار الكهربائي ونقص الأدوية إلى إصابة جزء كبير من الحياة العامة بالشلل.
ودفع نقص العملة البنوكَ إلى الحد من عمليات السحب؛ مما أدى إلى تبخر مدخرات الملايين من الناس. ودفع اليأس البعض إلى تنفيذ عمليات سطو مسلحة على البنوك لاستعادة أموالهم بالقوة.
وتفاقمت الأضرار التي لحقت بالبلد في السنوات القليلة الماضية، بسبب عقود من سوء الإدارة الاقتصادية التي سمحت للحكومة بالإنفاق بما يتجاوز إمكاناتها. واتُّهِم رئيس البنك المركزي في البلاد مؤخراً باختلاس الأموال العامة وجرائم أخرى.
نسبة ليست قليلة من اللبنانيين تستطيع الوصول للدولار
وفي هذا الصدد، قال سامي زغيب، الخبير الاقتصادي ومدير الأبحاث بمركز أبحاث The Policy Initiative -الذي يتخذ من بيروت مقراً له – إنَّ الدولرة يمكن أن تعطي انطباعاً باستقرار مالي أكبر، لكنها ستزيد أيضاً من التفاوتات الاقتصادية الهائلة بالفعل.
وأضاف زغيب: "لدينا طبقة اجتماعية تستطيع الوصول للدولارات، ولديك شريحة أخرى من السكان تكسب دخلها بالليرة اللبنانية، لكنها تشهد الآن دخلها يتدمر بالكامل".
ولدى لبنان عدد كبير من المهاجرين منتشرين في أصقاع الأرض، قد يكون من أعلى نسب المهاجرين في العالم.
وإضافة إلى العدد الكبير من المهاجرين بالنسبة للباقين في الوطن، فإن التركيبة المادية والاجتماعية بين المهاجرين اللبنانيين بالخارج أعلى من معظم مثيلاتها في أغلب الدول العربية الأخرى ودول العالم الثالث.
إذ تنتمي نسبة كبيرة من المهاجرين اللبنانيين إلى فئات المهنيين المتعلمين جيداً وبينهم نسبة ليست قليلة من التجار ورجال الأعمال.
ففي غرب إفريقيا وأمريكا الجنوبية توجد جاليات لبنانية كبيرة بينهم نسبة كبيرة من التجار ورجال الأعمال، كما توجد جاليات لبنانية في دول الخليج، وأمريكا الشمالية وأوروبا، حيث يعملون كمهنيين مرتفعي أو متوسطي الأجور، وذلك بفضل نظام التعليم الجيد في البلاد.
يجعل ما سبق تدفقَ الدولارات من المهاجرين إلى ذويهم في الوطن المأزوم أعلى من البلدان التي تعاني أزمات مشابهة، وهذا في الأغلب سبب عدم حدوث مجاعة في لبنان حتى الآن، إضافة إلى المساعدات الدولية والأممية، وتدفق المال السياسي من الخارج.
ولكن هذا لا يمنع أن قطاعات كبيرة من السكان الأكثر فقراً الذين ليس لديهم دخل بالدولار، يعانون من محنة كبيرة جراء انهيار العملة، ويُتوقع أن تتفاقم مأساتهم مع صعود الدولرة في لبنان.
فوفقاً لمسح أجرته منظمة العمل الدولية ووكالة الإحصاء التابعة للحكومة اللبنانية عام 2022، فإن أكثر من 90% من السكان يكسبون دخلهم بالليرة اللبنانية. والعائلات التي تتلقى أموالاً من أقاربها في الخارج تنفق الكثير منها لإبقاء الأضواء مضاءة وتغطية النفقات الطبية.
الشركات تقود اتجاه الدولرة، ولكن الحكومة ترحب بهذا التوجه
ولم يحدث تحوُّل الاقتصاد اللبناني إلى اقتصاد تزداد هيمنة الدولار عليه بموجب مرسوم حكومي، لكنه حدث من الشركات والأفراد الذين رفضوا قبول الدفع بعملة تفقد قيمتها بشدة، وبسرعة لا يمكن ملاحقتها.
أولاً، وُضِعَت تسعيرة للسلع والخدمات الكمالية بالدولار للأثرياء والسياح وأصحاب المولدات الخاصة، الذين يتعين عليهم دفع ثمن الديزل المُستورَد. ثم حذت حذوها معظم المطاعم، والآن محلات البقالة تفعل الشيء ذاته.
وقال وزير الاقتصاد في حكومة تصريف الأعمال أمين سلام، إنَّ الليرة اللبنانية تعرضت "للاستهلاك والاستغلال" على مدى السنوات الثلاث الماضية، وتحويل محلات البقالة إلى الدولرة سيجلب بعض الاستقرار لأسعار الصرف المتقلبة، على حد قوله.
ومع رفض المزيد والمزيد من الأشخاص والشركات للعملة المحلية، يصير الدولار تدريجياً العملة الفعلية في البلاد.
نهاية الليرة اللبنانية بدأت
العملة قائمة على الثقة، وفي لبنان فقد الناس الثقة بالعملة الوطنية، التي اتم طباعتها حالياً لتأمين رواتب القطاع العام.
وقالت ليال منصور، الخبيرة الاقتصادية المتخصصة بالأزمات المالية في البلدان المدولرة، إنَّ انعدام الثقة بالليرة اللبنانية وصل إلى خط بدون رجعة.
وأضافت ليال: "سئم الناس من تقلب سعر الدولار، والاضطرار إلى قضاء كثير من الوقت في تغييره؛ لذلك من الناحية العملية، من الأفضل استخدام الدولار على المستوى المجتمعي. هذه نهاية الليرة اللبنانية كما نعرفها".
من جانبه، قال لورانس وايت، أستاذ الاقتصاد بجامعة جورج ميسون الأمريكية، إنه بدون استراتيجية لمعالجة المشكلات الأساسية للاقتصاد، فإنَّ الحكومة "تسمح بحدوث الدولرة في لبنان".
وتعني الدولرة أنَّ البنك المركزي لا يمكنه الاستمرار في طباعة العملة التي تغذي التضخم، وقد يؤدي وجود عملة أكثر موثوقية إلى خلق مزيد من الثقة للشركات. لكن قد يتعرض كثير من الناس لمزيد من الضغط إذا اعتمدت بيروت العملة الأمريكية عملةً رسمية لها.
المهمة الصعبة هي تقديم الأجور بالعملة الأمريكية
وقد لا يتجاوب الملايين في لبنان الذين تحمَّلوا دولرة السلع الكمالية على نحو مماثل مع دولرة سلع البقالة، التي كانت أسعارها ترتفع بالفعل وفق بعض من أعلى المعدلات على مستوى العالم.
الجانب الأصعب في الدولرة بلبنان، هو قيام الحكومة والمؤسسات الخاصة، بدفع الأجور للعمال والموظفين بالدولار؛ حتى يتمكنوا من تكييف معيشتهم على نحو ملائم.
ويُضرِب معلمو المدارس العامة عن العمل منذ ثلاثة أشهر، لأنَّ رواتبهم بالكاد تغطي تكلفة البنزين للوصول لأعمالهم. ويهدد عمال الاتصالات بالإضراب عن العمل، لأنَّ أجورهم لم تُعدَّل مع انخفاض قيمة الليرة اللبنانية.
الدولرة في لبنان قد تعمّق الفقر
وأعرب الخبير الاقتصادي في بيروت سامي زغيب عن تخوفه من أنَّ غياب السياسات والإصلاحات الاقتصادية السديدة سيعني أنَّ الدولرة لن تؤدي إلا إلى تعميق الفقر؛ مما يزيد من صعوبة دفع العائلات مقابل الرعاية الصحية والتعليم والغذاء.
ويُقِر مالك المتجر الصغير بازازو بأنَّ التسعير بالدولار سيساعده في إدارة موارده المالية وتقليص جزء صغير من خسائره، لكنه يخشى أن يؤدي ذلك إلى إبعاد بعض العملاء.
وقال بازازو وهو يتنهد: "فلنرَ ما سيحدث. لقد بدأ العملاء يشتكون بالفعل".
قرار حكومي يسمح للمنشآت السياحية بتحديد أسعارها بالدولار
أصدر وزير السياحة وليد نصار قراراً، في 2 يونيو/حزيران 2022، يسمح للمنشآت السياحية بتحديد أسعارها بالدولار حتى نهاية سبتمبر/أيلول 2022.
وبحسب مارديني، فقد أثبت القرار نجاحه، حيث "تقدر عائدات السياحة هذا العام بنحو 4 مليارات دولار، وهي أفضل مقارنة بالعامين الماضيين".
وتابع مارديني قائلاً: "أعتقد أن أحد أهم أسباب نجاح قطاع السياحة هذا العام هو قرار دولرة الأسعار، الذي يجب أن يتواصل ويمتد لجميع القطاعات مثل الصناعة والزراعة".
ويوافق الخبير الاقتصادي جان طويل على ذلك، وقال لموقع al-Monitor الأمريكي إن "اعتماد الدولار في القطاعات التجارية والسياحية والطبية وغيرها في قطاعات أخرى كالقطاع العام، ستكون له تداعيات دراماتيكية في لبنان؛ إذ يعمق الانقسام بين الطرفين.. الأغنياء والفقراء".
وأضاف طويل: "ما هو عدد الدولارات المتبقية في البنك المركزي؟ إن أكثر من 80٪ من اقتصادنا مُدولر، لذا فإن دولرة النسبة المتبقية ستكون الخيار الأفضل".
وقال باتريك مارديني، رئيس المعهد اللبناني لدراسات السوق (LIMS)، لـ "المونيتور" إن دولرة الاقتصاد ستساعد الشعب اللبناني على تجاوز الأزمة الحالية والحد من الفقر.
"عندما تحصل المؤسسات على أموال مقابل سلعها وخدماتها بالدولار، فإنها تضمن هامشاً بالدولار يغطي أجور ورواتب موظفيها. كما يساعدهم ذلك على دفع الضرائب والرسوم للدولة اللبنانية بالدولار، الأمر الذي يسمح للدولة بدولرة الرواتب التي تدفعها لموظفي القطاع العام".
وأضاف مارديني أن العقود المبرمة مع العاملين في القطاعين العام والخاص ستتحول بالتالي إلى الدولار، وهو ما شأنه أن يخفف من عدم التوازن بين دخول ومصروفات المؤسسات في القطاعين المذكورين.
وبحسب مارديني، فإن مصرف لبنان سيشتري في هذه الحالة الليرة اللبنانية المتداولة والأموال المودعة في الحسابات المصرفية ومن ثم يقوم بإتلافها. وأوضح أن هذه العملية ستتكلف ما بين 3 مليارات و4 مليارات دولار وستضع حداً للأزمة النقدية وانهيار العملة الوطنية.
لكن جاد طعمة، المحامي ومنسق اللجنة القانونية في المرصد الشعبي لمكافحة الفساد، لا يؤمن بخيار الدولرة الشاملة في لبنان.
وقال لموقع al-Monitor إن جوهر الأزمة يكمن في سوء سياسات الهندسة النقدية والمالية التي تسببت في التضخم وانهيار العملة الوطنية، علماً أن المجلس المركزي للبنك المركزي هو المسؤول عن ذلك؛ بسبب طريقة تنفيذ قانون النقد والتسليف الذي يغطي تنظيم النقد وإصداره.
وأضاف: "كان من المفترض حماية العملة الوطنية بدلاً من تركها تنهار".
أبرز تجارب الدولرة في العالم
واعتمدت العديد من الدول في العالم عملة مختلفة عن عملاتها المحلية في بعض أوقات الأزمات، منها دول كبرى وقوية اقتصادياً، مثل فرنسا وإيطاليا وألمانيا. والفرق الوحيد هو أن هذه الدول لم تعانِ من أزمة اقتصادية ونقدية بمثل حدة أزمة لبنان.
وهناك نوعان رئيسيان من الدولرة، الدولرة الكاملة (أو الرسمية)، والدولرة الجزئية (أو غير الرسمية).
وتحدث الدولرة الكاملة عندما يحيل بلد عملته المحلية للتقاعد ويتبنى الدولار الأمريكي كعملة قانونية وحيدة.
على النقيض من ذلك، تحدث الدولرة الجزئية (غير الرسمية) عندما يختار بلد وسكانه الاحتفاظ بحصة كبيرة من أصولهم بالدولار الأمريكي، ولكن لا يتطلب ذلك التخلي عن العملة المحلية، وهذا وضع لبنان حاليًا.
واختارت بعض البلدان استخدام الدولار بالكامل بعد أزمة عملة رئيسية أو أزمة اقتصادية، مثل الإكوادور والسلفادور.
وهناك مثال واضح وقديم على دولة اعتمدت الدولار الأمريكي كعملة قانونية، وهي بنما، فمنذ استقلالها عن كولومبيا بتحريض أمريكي، اعتمدت على الدولار بداية من عام 1904 حتى الآن، على الرغم من استخدام عملة وطنية (البالبوا) في المعاملات الصغيرة، في شكل عملة معدنية على قدم المساواة مع الدولار الأمريكي.
واستند قرار بنما باستخدام الدولار كعملة رسمية إلى العلاقات السياسية والاقتصادية القوية مع الولايات المتحدة.
كما تتمتع بنما بموقع فريد على شريط ضيق من الأرض بين أمريكا الشمالية والجنوبية، وهو طريق تجاري رئيسي مهم للولايات المتحدة، ويجعل البلد ممراً تجارياً مهماً لمجمل الأمريكتين.
كيف ستصبح الأسعار بعد الدولرة؟
في "الاقتصاد المدولر" رسمياً، يعمل عرض النقود بشكل مشابه لذلك في الولايات المتحدة، ومع ذلك، يتم تحديد الأسعار وعرض النقود من خلال العوامل المحلية، ولذا يمكن أن تختلف معدلات التضخم بين الاقتصاد المدولر والولايات المتحدة.
على سبيل المثال، يمكن أن يكون لدى بنما والولايات المتحدة، على الرغم من استخدامهما للعملة الأمريكية، معدلات تضخم مختلفة، على غرار الطريقة التي يمكن أن تختلف بها معدلات التضخم في دالاس ومدينة نيويورك الأمريكيتين على الرغم من استخدامهما للدولار.
ومع ذلك، فإن استخدام عملة مشتركة يميل إلى إبقاء أسعار السلع المتداولة قريبة من مستويات نفس السلع في الولايات المتحدة، وبالتالي، في حين أن هناك بعض الاختلافات في مستويات الأسعار، فإن معدلات التضخم في البلدين تميل إلى أن تكون متشابهة.
مميزات وعيوب الدولرة
أوضح الإيجابيات؛ زيادة حجم التجارة؛ حيث أظهرت الأبحاث أن تقاسم عملة مشتركة يعزز التجارة بين البلدان بمقدار ضعفين إلى ثلاثة، حيث تؤدي الدولرة لتخفيض تكاليف المعاملات أثناء التجارة الدولية؛ لأن البلد الذي لجأ للدولرة لا يحتاج إلى تحويل العملة لشراء السلع من السوق الدولية، وهذا يجعل تجارته الخارجية أسرع وأرخص.
كما تؤدي الدولرة إلى سياسة نقدية مستقرة للبلدان المعرضة للتضخم؛ بسبب الاعتماد على عملة موثوقة، ولذا يُنظر للدولرة إلى أنها بديل أفضل من تثبيت سعر الصرف للعملة المحلية أحياناً.
وتؤدي الدولرة إلى الالتزام بضبط الأسعار، ويقول البعض: قد تساعد تحفيز النمو الاقتصادي في الدولة التي تتبناها.
أما أبرز السلبيات، فهي فقدان السياسة النقدية المستقلة، التي يمكن استخدامها لتحقيق الاستقرار في اقتصاد الدولة خلال دوراته المختلفة.
إذ يمكن للبنوك المركزية المستقلة، التي تتمتع بالسيطرة الكاملة على عملتها، أن تساعد في جعل الأموال متاحة بحرية أكبر في بلدانها أثناء فترات الركود لتحفيز الطلب الكلي. وهكذا يمكن أن تؤدي الدولرة إلى مزيد من التقلبات المحتملة في نمو الناتج الاقتصادي والبطالة؛ لأن الحكومة لا تستطيع طبع النقود لتحفيز الاقتصاد.
كما تؤدي الدولة إلى التخلي عن حق إصدار السندات المالية، أو الإيرادات من سك وإصدار النقود.
كما أن الدولة التي تعتمد على الدولار، مثل بنما، لا تملك حق الوصول إلى الاحتياطي الفيدرالي كمقرض أخير للبنوك، وبالتالي لا يستطيع البنك المركزي لهذا البلد تغطية عجز الحكومة بطباعة العملة؛ لأنه لا يمتلك حق طباعة الدولار.
ومع ذلك، يمكن للدولة التي تتعامل بالدولار الاقتراض من الأسواق العالمية أو من البنوك الأمريكية.
لا ينبغي التقليل من تكلفة الدولرة من حيث فقدان استقلالية السياسة النقدية، خاصة خلال الأزمات العالمية، في مثل هذه الأوقات، حيث يمكن أن ينهار افتراض استقرار الدولار الأمريكي، قد تجد البلدان نفسها في مأزق مزدوج – تفشل في أن تكون محمية بالعملة الخارجية وتكون عاجزة عن سن تدابير لمواجهة التقلبات الدورية ضد صدمات الاقتصاد الكلي، حسبما ورد في تقرير لموقع First Citizens Group.
وفقاً لدراسة أجرتها جامعة ييل الأمريكية في عام 2021، فإنه في الأزمات الدولية، مثل استجابة السياسة الاقتصادية لبنما تجاه أزمة جائحة COVID-19، مقارنة مع جيرانها بأمريكا اللاتينية، فإن عبء الاستجابة للأزمة يقع فقط على السياسة المالية في ظل عدم قدرة البنك المركزي لبنما على استخدام أدوات السياسة النقدية.
ولذا فإنه بدون سياسة نقدية تساعد على خفض أسعار الفائدة على العملة المحلية، سيتعين على الدولة تقديم تضحيات لخدمة الدين نتيجة للعجز المالي الذي تم تكبده لدعم الاقتصاد أثناء الوباء.
بالإضافة إلى ذلك، بينما يمكن أن تؤدي الدولرة إلى زيادة استقرار الأسعار وتشجيع المسؤولية المالية، فإنها لا تضمن هذه الأهداف وحدها بأي حال من الأحوال.
إذ تُظهر تجارب الإكوادور، التي تحولت إلى الدولار في عام 2000، والسلفادور، التي فعلت ذلك في عام 2001، أن تبني الدولار الأمريكي ليس الدواء الشافي لأمراض الاقتصاد الكلي لبلد ما.
فمنذ اعتماد الدولار الأمريكي، تخلفت الإكوادور عن سداد ديونها مرتين (في عامي 2008 و2020)، بينما تخلفت السلفادور عن سداد ديونها مرة واحدة في عام 2017، وبناءً على تصنيفاتها الحالية للديون السيادية، فمن المحتمل أن تتخلف عن السداد مرة أخرى في عام 2022، وحكومتها تتحدث عن محاولات لاعتماد العملات الرقمية.
هل تحل الدولرة أزمة لبنان؟
ورغم أن لبنان بلد مدولر نسبياً، ولدى قطاع من سكانه دخل بالدولار، ولكنه بلد أيضاً، لديه عدد كبير من الموظفين الحكوميين الذين يتلقون أجرهم بالليرة.
وتعني الدولرة الكاملة أن الحكومة يجب أن تحصل الضرائب بالدولار، وهي مسألة ليست بالسهلة، في ظل ضعف الدولة المشهود، خاصة أمام قوة الطوائف، فعلى سبيل المثال، قطاع كبير من منازل الضاحية الجنوبية لبيروت معقل حزب الله الشيعي، لا تدفع فواتير الكهرباء.
كما أنه نظراً للفارق الكبير بين دخل الحكومة ونفقاتها حتى قبل الأزمة، فهذا يعني أن إيراداتها الدولارية ستكون محدودة بما يعنيه ذلك من أنها سوف تدفع أجوراً ضعيفة جداً بالدولار، بينما مستوى الأسعار سيكون مقارباً، للأسعار في الولايات المتحدة الأمريكية.
وفي الوقت ذاته، فإن محاولة البلاد تغطية العجز في الميزانية الهائل عبر الاقتراض من البنوك الأجنبية أو الدولة الغنية، سيكون صعباً في ظل الشلل الحكومي وتعثر البلاد عن سداد ديونها الخارجية.