سحابة عملاقة غير مألوفة كانت تعبر صحراء الجزائر الجنوبية، تتلاعب بها الرياح وهي تسير جنوباً وشرقاً.
عبرت السحابة مناطق تامنراست الجزائرية، واخترقت الحدود في اتجاه ليبيا.
سحابة تحمل كتلة ضخمة من الغبار القاتل، والدمار الذي سوف يبقى طويلاً في الأرض والفضاء.
سحابة كبرى تسمى الشتاء النووي أو فطر عيش الغراب.
كانت السحابة هي أول ما شاهده أبناء الجزائر من سلسلة تفجيرات نووية قامت بها سلطات الاحتلال الفرنسي، بين عامي 1960 و1966.
نفذ الفرنسيون 4 تجارب فوق الأرض و13 في باطنها، بحسب مسؤولين فرنسيين، بينما يقول مؤرخون ومسؤولون جزائريون إن العدد أكبر وإن آثارها ما زالت تهدد صحة السكان وبيئة المنطقة.
في فبراير/شباط من كل عام، تصمم السلطات الجزائرية على إحياء الذكرى المأساوية لتفجيرات "اليربوع الأزرق" النووية.
وفي كل عام تطلب الجزائر من فرنسا تفاصيل وخرائط الجريمة، وترفض فرنسا.
وفي كل شتاء تتذكر الدولة أبناءها من ضحايا التفجير الإجرامي، وتطالب بتعويضهم عن فقدان الحياة أو الأمراض القاتلة، وباريس تناور حتى تنسى الجزائر هذه المطالب.
"تم الاتفاق على معالجة مسألة الذاكرة، وذلك بناءً على ما تعهد به الجانب الفرنسي من تسريع عملية إعادة أرشيف ثورة التحرير، والتكفل بقضية مواقع التجارب النووية في صحراء الجزائر، وتطهيرها من الإشعاعات".
ذلك البيان الذي طال انتظاره صدر عن وزارة الخارجية الجزائرية في الأسبوع الأخير من يناير/كانون الثاني 2023، يشير بتعبير "مواقع التجارب النووية" إلى كارثة لا تتلاشى بمرور السنوات وتعاقب الليل والنهار، لكنه لا يتعهد بإنصاف الضحايا، ولا بتسليم خرائط النفايات النووية.
في هذا التقرير نستعرض الجرائم النووية التي ارتكبتها فرنسا بحق الجزائر وجيرانها في الستينيات، وتبعاتها الكارثية على الصحة العامة والبيئة، لا سيما أن فرنسا ترفض حتى الآن الكشف عن خريطة التفجيرات، ولا عن إمكانية وجود نفايات نووية مدفونة في التراب الجزائري.
ما جرى في الصحراء الجزائرية ذات شتاء
لم تتوقف فرنسا عن مغامراتها النووية القاتلة حتى بعد أن حصلت الجزائر على الاستقلال
قُبيل فجر يوم صيفيّ من عام 1945، بدأت الولايات المتحدة العصر النووي بتفجير قنبلة ذرية في نيومكسيكو على سبيل التجربة.
بعد أقل من ثلاثة أسابيع ضربت واشنطن اليابان بقنبلتين ذريتين لتكتب نهاية الحرب العالمية الثانية بالدمار والدم.
في غضون ساعات قتلت القنبلتان أكثر من 220 ألف مواطن في مدينتي هيروشيما وناغازاكي، كما لقي ما يزيد عن 200 ألف شخص مصرعهم لاحقاً من الجرعات الإشعاعية الفتاكة.
وفي باريس كان الجنرال الفرنسي الصاعد شارل ديغول يحلم بقيادة بلاده نحو العصر النووي. وجاء قراره بدخول النادي النووي بعد شهرين فقط من مجزرتي هيروشيما وناغازاكي.
القنبلة النووية من وجهة نظره الضامن الوحيد لقدرة باريس على البقاء مستقلة في خضم الحرب الباردة الدائرة بين واشنطن وموسكو.
تضمَّنت هذه العملية ثلاث مراحل ما بين عامَيْ 1945-1960، وبعد انتهائها، كانت فرنسا في حاجة إلى فضاء كبير يمكنها من خلاله تجريب النتيجة النهائية لهذا السلاح الذي عملت عليه طيلة عقد ونصف.
كانت الحرب من أجل استقلال الجزائر متواصلة منذ عام 1954.
وكان الرئيس الفرنسي "شارل ديغول" حريصاً على أن يُظهر للعالم أن فرنسا بين أقوى دول النخبة العسكرية في العالم.
ووقع الاختيار على صحراء الجزائر.
قبل التفجير بثلاث سنوات زار وفد فرنسي المناطق المرشَّحة للتجارب الأولى، وخلص إلى أن منطقة تنزروفت جنوب البلاد هي الأنسب لاحتضان هذا النوع من التجارب.
قالت فرنسا على منبر الأمم المتحدة إنها اختارت الصحراء الجزائرية للقيام بتجاربها النووية؛ كون المنطقة مهجورة وقاحلة وغير مأهولة بالسكان.
ولم يكن ذلك صحيحاً.
كان اليوم الأكثر وحشية في حياة أبناء الجنوب
في 13 فبراير/شباط 1960 أجرت فرنسا أول تجربة نووية لها قرب واحة رقان في جنوب الجزائر.
تم تفجير أول قنبلة ذرية فرنسية في الصحراء الجزائرية، والتي سميت باسم الجربوع الأزرق Gerboise Bleue نسبة إلى اللون الأزرق للعلم ثلاثي الألوان وحيوان صحراوي صغير في الصحراء. أطلقت أكثر من أربعة أمثال الطاقة التي أسقطتها القنبلة الأمريكية على هيروشيما.
وجنَّدت فرنسا الإعلام والسينما لإعلان الخبر المهم: البلاد تلتحق رسمياً بأمريكا والاتحاد السوفييتي وبريطانيا، وتصبح رابع قوة نووية على الأرض.https://iframely.shorthand.com/8qilEqn?playerjs=1&img=1&v=1&app=1&lazy=1
فيديو 3 دقائق من دويتش فيله: كيف أجرت فرنسا التجارب النووية في الجزائر؟
بعد بضعة أشهر، عندما كان الزعيم السوفييتي نيكيتا خروتشوف في فرنسا في زيارة رسمية، تم تفجير قنبلة فرنسية ثانية في الصحراء.
بين عامي 1960 و1966، بعد أربع سنوات من حصول الجزائر على استقلالها، فجرت فرنسا 17 قنبلة في الصحراء، بما في ذلك أربع في الجو بالقرب من رقان، وصفها شهود الاختبارات بأنها أكثر الأشياء وحشية التي رأوها في حياتهم.
ثم أفاد تقرير برلماني فرنسي بأن أربعة انفجارات سرية في الصحراء الجزائرية "لم يتم حصرها"، كان أشهرها حادثة بيريل، التي أصيب خلالها تسعة جنود وعدد من قرويي الطوارق المحليين بشدة بالنشاط الإشعاعي.
لمزيد من التفاصيل يرجى الضغط على هنا