يبدو أن استعادة السيطرة السورية على لبنان هي الخطوة القادمة المنتظرة من رئيس النظام السوري بشار الأسد، بعد أن بدأ التطبيع العربي معه يتقدم بسبب تداعيات كارثة الزلزال.
ففي 26 فبراير/شباط، استقبل الرئيس السوري بشار الأسد ممثلين ودبلوماسيين من دول جامعة الدول العربية (الاتحاد البرلماني العربي)، زاروا البلاد للتعبير عن "تضامنهم" مع سوريا، في أعقاب زلزال 6 فبراير/شباط، الذي أودى بحياة الآلاف.
وفي اليوم التالي زار سوريا وزير خارجية أكبر دولة عربية، وهي مصر، في أول زيارة من نوعها منذ ثورات الربيع العربي 2011، منذ أن جمدت الجامعة العربية أنشطة دمشق عقب قمع نظام الأسد أنشطة المظاهرات التي نشبت في بداية الثورة السورية.
يأتي ذلك في وسط مؤشرات على أن السعودية، التي كانت تفرض فيتو على عودة سوريا للجامعة العربية، قد خففت اعتراضاتها على ذلك، أو تفكر في ذلك.
ويقول تقرير لمجلة National Interest الأمريكية، إن عودة سوريا الكاملة إلى جامعة الدول العربية هي عملياً أمر واقع.
هل يتقبل العرب إعادة السيطرة السورية على لبنان؟
على أن ذلك يطرح عدة تساؤلات حول مستقبل العلاقات اللبنانية السورية، لا سيما بالنظر إلى تحسُّن صورة الأسد في أعين الحكام العرب. فمن كانوا يعتبرونه يوماً جزءاً من المشكلة، بالنظر إلى قمعه الوحشي لكل أشكال المعارضة، وتعزيز اعتماده على إيران، يرونه الآن جزءاً من الحل لأمن المنطقة، حسب الصحيفة الأمريكية.
والسؤال الأساسي المطروح هو: كيف سيستغل الأسد هذه الدفعة الجديدة في استعادة السيطرة السورية على لبنان، الذي عانى منذ نهاية الستينيات من هيمنة نظام الأسد عليه، ووصل الأمر لذروته خلال الحرب الأهلية وما بعدها.
فلقد ظل قائد المخابرات السورية في لبنان هو الحاكم الفعلي منذ نهاية السبعينيات، حتى عام 2005، سنة اغتيال رئيس وزراء لبنان الراحل رفيق الحريري (الذي اتهم نظام الأسد وحليفه حزب الله بالمسؤولية عنه)، وما أعقبها من تظاهرات وضغوط دولية أدت لخروج القوات السورية من لبنان في العام ذاته.
وقد يبدو هذا السؤال بشأن عودة سيطرة نظام الأسد على لبنان سخيفاً بالنظر إلى الظروف الحالية، فلم يتعافَ الأسد تماماً بعد أكثر من عقد من الحرب الأهلية التي دمرت البنية التحتية في بلاده، وشرّدت ملايين السوريين، داخلياً وخارجياً.
هدف حافظ الأسد كان دوماً السيطرة على الشام برمته
على أن فكرة السيطرة السورية على لبنان لا تخلو من المنطق تماماً، حسب المجلة الأمريكية، لأن حافظ الأسد كان هدفه الذي حققه جزئياً هو السيطرة على منطقة الشام كلها؛ سوريا ولبنان والأردن وفلسطين، بما في ذلك إضعاف منظمة التحرير الفلسطينية ومحاربتها أحياناً، وبعد رحيله ظلت هذه ثوابت النظام السوري.
ولذا فإن بشار الأسد له طرق في التلاعب بالأحداث في لبنان لصالحه، بطريقة قد تكون جزءاً من استراتيجية طويلة الأمد، ليصبح الشخصية المهيمنة في بلاد الشام، وفقاً لتقرير المجلة الأمريكية.
أدوات النظام القديمة مازالت موجودة
ورغم ضعف النظام وجيشه، لكن أقوى أدوات سيطرة آل الأسد على لبنان مازالت قوية، بل ازدادت قوة.
فالأسد لديه حلفاء لبنانيون يتنافسون على المنصب الرئاسي الشاغر، بعد أن أتم حليفه ميشال عون ولايته، التي استمرت 6 سنوات، في أكتوبر/تشرين الأول عام 2022. وأحد هؤلاء الحلفاء سليمان فرنجية، زعيم حركة المردة والسياسي المسيحي الماروني الذي ينحدر من بلدة زغرتا، شمالي لبنان، والصديق المقرب لبشار الأسد. وتعود علاقة فرنجية مع عائلة الأسد إلى طفولته.
فعام 1975، وجد لبنان نفسه عالقاً في حرب أهلية دامية، سببتها الانقسامات الطائفية والمسلحون الفلسطينيون في البلاد. ومع احتدام القتال، ناشد الرئيس آنذاك سليمان فرنجية (جد سليمان الحالي)، حافظَ الأسد، التدخل إلى جانب الحكومة واليمين السياسي اللبناني ضد اليساريين اللبنانيين ومنظمة التحرير الفلسطينية. واستجابت سوريا في إطار قوة حفظ سلام عربية كبيرة، الجزء الأكبر منها من السوريين، وظلت في البلاد كقوة محتلة حتى اغتيال رئيس الوزراء رفيق الحريري عام 2005.
المرشح للرئاسة اللبنانية شقيق الأسد الذي لم تلده أمه
وكان فرنجية قال أكثر من مرة إن بشار الأسد هو "أخوه"، بل إنه سمى نجله "باسل"، باسم الشقيق الأكبر للأسد.
قوة هذه الصداقة وصلت إلى حد أنّ آل فرنجية، وهي أسرة مارونية عريقة، فضّوا تحالفهم مع كل الأحزاب المسيحية في لبنان خلال الحرب الأهلية، بعد اصطدامها بالقوات السورية، إثر توغلها في المناطق المسيحية ومحاولة السيطرة عليها.
يُذكر أن فرنجية كان وزيراً للداخلية إبان عملية اغتيال رفيق الحريري، في فبراير/شباط عام 2005، وكان ممن "أسهموا في إخفاء معالم الجريمة"، حسب بعض المصادر اللبنانية.
قامت العلاقة بين آل الأسد وآل فرنجية الزعماء التاريخيين لمنطقة زغرتا بشمالي لبنان، على صداقة عائلية وشخصية، وعلى فكرة يروجها فرنجية ونظام الأسد بشكل غير رسمي، وهو حلف الأقليات في الشام في مواجهة الأغلبية السنية، على اعتبار أن الأسد ينتمي للأقلية العلوية في سوريا، بينما ينتمي آل فرنجية للطائفة المارونية، وحزب الله للطائفة الشيعية.
وهي مقاربة يصعب ترويجها في أوساط الأقلية المارونية التي بدأت الحرب الأهلية بطلبها النجدة من نظام الأسد، في مواجهة تحالف اليسار اللبناني والدروز والقوى الفلسطينية، ولكن انتهى الأمر بها لتعرضها لمحاولة إخضاع من قبل نظام الأسد، وتعرضها للمذابح على يد القوات السورية، وصولاً لقصف قوات النظام السوري عام 1990 للقصر الرئاسي، الذي كان يسيطر عليه قائد الجيش في ذلك الوقت العماد ميشال عون، أقوى زعيم مسيحي في نهاية الحرب الأهلية، ثم هروب عون للسفارة الفرنسية، ومنها للمنفى، وتعرض الساسة والأحزاب المسيحية الكبرى بعد نهاية الحرب الأهلية للتهميش والاعتقال.
ورغم أن المشاعر الشعبية المارونية انقلبت ضد الأسد والوجود العسكري السوري في لبنان، منذ بداية الحرب الأهلية، فإن العلاقة بين عائلتي فرنجية والأسد لم تتزعزع أبداً، حسب وصف National Interest.
كما تحول عون من عدو النظام السوري الأول في لبنان، إلى حليفه المسيحي الأكبر، بعد إبرامه تفاهماً مع حزب الله، حليف الأسد الأكبر، بعد أن عاد من المنفى، عام 2005، وتحول تياره الوطني الحر من حزب مؤسس في قوى 14 آذار المناهضة للوجود السوري بلبنان، إلى مكون رئيسي في تحالف 8 آذار المؤيد لدمشق، وتحول التيار العوني لأحد أكبر المروجين لفكرة التحالف مع نظام الأسد، باعتبار ذلك حلف الأقليات (دون الإشارة لذلك صراحة)، ومحاولة تخويف المسيحيين من السنة، عبر المبالغة في الإشارة للتطرف الإسلامي السني ودوره في لبنان والثورة السورية، إلى أن بدأ تيار عون يبتعد تدريجياً عن حزب الله.
ليبقى آل فرنجية دوماً أشد حلفاء آل الأسد إخلاصاً.
ورغم أن تيار المردة، الذي يقوده سليمان فرنجية، لا يمثله إلا عضو واحد فقط في مجلس النواب اللبناني، فقد أتيحت الفرصة لفرنجية الحفيد للسير على خطى جده، وربما إلى أن يصل إلى القصر الرئاسي.
وتحالفه مع الأسد يضمن له أيضاً تأييد حلفاء سوريا المتعددين في لبنان، وبالأخص صداقة حزب الله المدعوم من إيران، الذي قدم مساعدة عسكرية كبيرة لنظام الأسد، في محاربة المعارضة المسلحة في سوريا.
ولا أحد يستطيع في لبنان انتخاب رئيس دون موافقة حزب الله.
وحتى بدون تزكية الأسد، فإن سليمان فرنجية هو المرشح الرئاسي المفضل غير المعلن لحزب الله، بعد أن اختلف الحزب مؤخراً مع حليفه المسيحي القديم التيار الوطني الحر وزعيمه جبران باسيل. إذ كشف عضو التيار الوطني الحر، جيمي جبور، أن حزب الله اختار إنهاء مذكرة التفاهم مع حزبه في إطار سعيه لحشد الدعم لفرنجية، ولم يُعلَن عن أي شيء رسمي، ولكن يستبعد أن يتغير هذا التأزم في علاقة عون وحزب الله ما لم يُسقط حزب الله فرنجية.
الأسد يرى أن لبنان خاصرة سوريا
ويرى الأسد أن لبنان "خاصرة سوريا الأساسية"، على حد تعبيره في مقابلة أجراها في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي.
وأشار إلى حزب الله أيضاً باعتباره حليفه الاستراتيجي، وتعهد بالاستمرار في دعمه.
ومن الواضح جلياً أن الأسد يدرس كل السبل الممكنة لترسيخ سلطته، ووجود حزب الله وفرنجية في صفة، والعودة في الوقت نفسه إلى حضن العالم العربي سيمنحه النفوذ الذي يحتاجه لتأمين نظامه لسنوات عديدة مقبلة، حسب تقرير مجلة National Interest.
هل يمكن للأسد أن يستعيد السيطرة على لبنان وهو لا يحكم كل سوريا؟
لكن الأسد لا يزال يحكم بلداً مُدمَّراً، يحتاج إلى المال لإعادة إعماره، وجيشه منهك بعد حرب كاد يهزم فيها أمام المعارضة المتشرذمة لولا دعم روسيا وإيران والميليشيات التي جمعتها من كل أنحاء العالم الشيعي.
ونظام الأسد يسيطر فعلياً على أجزاء فقط من سوريا، فهناك منطقتان في الشمال خاضعتان لقوى المعارضة السورية الحليفة لتركيا، والثلث الشمالي الشرقي الغني بالنفط والمنتج للقمح يخضع للأكراد.
وباقي المناطق الخاضعة له نظرياً، مقسمة بين مناطق نفوذ إيراني خالص مثل شرق سوريا، أو مناطق نفوذ لحزب الله تتركز في محيط دمشق والجنوب والمناطق السورية المحاذية للحدود اللبنانية، بينما يتركز النفوذ الروسي بالساحل السوري، وبجوار إدلب وغيرها من مناطق الحدود المجاورة لتركيا، إضافة للجنوب في منطقة درعا، حيث مازال هنالك بعض الوجود المعارض المتصالح مع الروس.
كما لا يزال النظام يرزح تحت عقوبات قانون قيصر الأمريكي الذي لا يبدو أنه سيُرفع في أي وقت قريب، رغم أنه صدر قرار من واشنطن بتخفيف العقوبات لتوصيل المساعدات للمتضررين من الزلزال.
وقال جوشوا لانديس، البروفيسور في جامعة أوكلاهوما، والخبير في الشأن السوري، في مقابلة مع مجلة National Interest: "الكثير من جماعات الضغط تعمل مع البيت الأبيض والكونغرس، لتقييد رفع العقوبات المفروضة على سوريا بعد الزلزال، إذ يخشى جزء كبير من المعارضة السورية، والجماعات الموالية لإسرائيل في واشنطن، من إمكانية رفع العقوبات بشكل دائم. فهم لا يريدون أي تخفيف لمقاطعة الأسد، لكن الحكومات العربية ترى في ذلك فرصةً لتستمر في انفتاحها على دمشق وحدها. والكثير سيتوقف على الطريقة التي سيستجيب بها الأسد لها، وما إن كان على استعداد للتفاهم معها".
فلو أن الأسد مستعد للتعاون مع دول الخليج، وتقديم تنازلات سياسية محدودة قد ترفع العقوبات تماماً، ومع احتمال أن يصبح صديق الأسد "فرنجية" الرئيس في بيروت، فقد يجد رئيس النظام السوري نفسه مرة أخرى صاحب نفوذ قوي في شؤون لبنان.
رغم إفلاسه.. الأسد لا يحتاج للمال لاستعادة السيطرة السورية على لبنان
التاريخ الذي يعود لنحو خمسة عقود مضت، يشير إلى أن السيطرة السورية على لبنان أو بالأحرى سيطرة آل الأسد على لبنان، لم تعتمد يوماً على المال، وذلك عكس القوى الخارجية الأخرى التي كانت تنشر نفوذها في لبنان عبر المال والأدوات الثقافية والأيديولوجية بالأساس، بدءاً من الإرساليات الأمريكية والفرنسية في العهد العثماني خلال القرن التاسع عشر، مروراً بمصر الناصرية ومنظمة التحرير الفلسطينية في الخمسينيات ثم العراق، والجزائر، وليبيا، وصولاً حتى السعودية التي أصبح لها نفوذ كبير في عهد رئيس وزراء لبنان الراحل رفيق الحريري، وإيران التي بدأ نفوذها يدخل منذ أوائل الثمانينات، ووصل لذروته حالياً.
ولكن نظام آل الأسد كان له دوماً أساليب أخرى، غير المال، بل على العكس كان النظام يأخذ المال من اللبنانيين، ولكن ينشر نفوذ مستغلاً إحاطة سوريا جغرافياً بلبنان من كل الجهات ما عدا الجنوب (لبنان لا يستطيع تصدير منتجاته عبر البر إلا عن طريق سوريا)، والتأثير الجغرافي والاجتماعي والأمني الكبير لدمشق عليه، خاصةً في البقاع والشمال (حيث تتشابه المكونات الاجتماعية بالبلدين).
ولكن الأهم هو أساليب الضغط والتخويف العسكرية والأمنية والاستخباراتية التي يجيدها النظام السوري بطريقة لا يُضاهي فيها أحد.
فنسبة كبيرة من الاغتيالات في لبنان على مدار تاريخه تشير فيها أصابع الاتهام إلى نظام الأسد، وآخر النماذج الوزير اللبناني السابق ميشال سماحة، الذي حكم عليه بالسجن عام 2016 لمدة 13 سنة مع الأشغال الشاقة، بعد إدانته بجرم نقل متفجرات من سوريا إلى لبنان، والتخطيط لتنفيذ تفجيرات، بأوامر من نظام الأسد، وسبق أن بثت وسائل إعلام لبنانية تسجيلاً صوتياً لاتصال هاتفي بين ميشال سماحة وبين بثينة شعبان، مستشارة الرئيس السوري بشار الأسد، يتحدثُ فيه الطرفان عن نقل أشياء من دمشق إلى بيروت للبدء بعمل ما.
كما بثت تسجيلات مصورة تظهر سماحة وهو يعترف أمام المحققين بما كان يُخطط له من تفجيرات في لبنان، بإيعاز من النظام السوري.
وإضافة لهذه الأساليب، فإن حلفاء نظام الأسد ينتشرون في أوساط الطوائف اللبنانية، بدرجات متفاوتة في الكثافة والعدد، ولكنها متشابهة في مقدار الولاء.
إليك أبرز حلفاء الأسد في كل طائفة لبنانية
هيمنة كاملة على الطائفة الشيعية
بالطبع الحلفاء الأكبر عدداً ووزناً للأسد يتركزون في أوساط الطائفة الشيعية، يقودهم حزب الله، الموالي لإيران، والذي بدأ وجوده في لبنان بالصدام مع النظام السوري، الذي أوقع بأفراده مذبحة في بداية الثمانينات
تحول حزب الله من حليف الحليف الإيراني إلى حليف الأسد الأكبر في لبنان، ثم أداة إيران لإنقاذه من الثورة السورية، حيث هرع مقاتلو الحزب لإنقاذ قوات النظام عام 2013، بعدما كادت تنهار نتيجة تفككها وفسادها أمام قوات المعارضة.
وهناك حركة أمل، التي كانت أكبر وأوثق حليف لدمشق خلال الحرب الأهلية اللبنانية، رغم أن مؤسسها موسى الصدر يحتمل أنه اختفى بعد زيارته لليبيا عام 1978، بعلم وتوجيه من سوريا، حيث كان الزعيم الليبي معمر القذافي آنذاك حليفاً وثيقاً لحافظ الأسد.
وبعد خروج القوات السورية من لبنان ابتعدت حركة أمل عن نظام الأسد قليلاً، خاصةً بعد الثورة السورية، ولكنها ظلت حليفاً وثيقاً لحزب الله، وجزءاً من التحالف الكبير الموالي لدمشق في لبنان.
حلفاؤه السنة ظلوا تابعين له حتى بعد أن دمر أحزابهم
بالنسبة الطائفة السنية، فإن أحد أهداف نظام الأسد الرئيسية في لبنان هي إضعافها، عبر التخلص من قادتها أو جعلهم تابعين له، وإضعاف الحركات السياسية النشطة بها، حتى لو كانت حليفة لدمشق، مثلما فعل مع تنظيم المرابطين الناصري السني، الذي كان حليفاً لدمشق، ولكن حافظ الأسد أمر حليفه الشيعي، حركة أمل، بالانقلاب عليه وضربه في بيروت الغربية، عام 1983، وتم نفي زعيم تنظيم المرابطين إبراهيم قليلات لخارج لبنان.
وذلك لأن النظام السوري كان يخشى دوماً من أن تأثير صعود السنة في لبنان، رغم أن معظم قادتهم كانوا غالباً أصدقاء له، أو يحاولون نيل رضاه، قد يؤدي لصعود مماثل للسنة في سوريا.
ويعتقد أن اغتيال عدد من قادة الطائفة السنية وراءه آل الأسد، إضافة لمذابح وقعت بحق أبناء الطائفة مثل مذبحة التبانة في طرابلس.
ورغم ذلك يخترق النظام السوري الطائفة السنية عبر عدد من الحلفاء، أبرزهم القوى الناصرية، التي سبقت أن تعرضت لاضطهاد نظام الأسد، وأصبحت رغم ذلك من أكثر اتباعه حماساً في لبنان، حتى إن خطابهم أكثر حدة من حلفائه الشيعة، رغم أن هذه المواقف تثير الاستعداء ضدهم، في الأوساط الشعبية في الطائفة السنية، التي ينتمون لها.
على سبيل المثال، زعيم حركة المرابطين الحالي مصطفى حمدان، يعد من أشد المتعصبين لنظام الأسد، رغم أنه شخصياً سبق أن اعتُقل في سجون الأسد بسوريا.
وهناك رئيس المؤتمر الشعبي اللبناني، أحد التنظيمات الناصرية السنية في لبنان، الموالية للأسد، والمتبنية لخطابه، والتي تدافع عن حزب الله وتهاجم الحريري، رغم أن شاتيلا سبق أن تم نفيه لفترة من قبل حافظ الأسد إلى باريس، إضافة لأسامة سعد، الذي يعد حليفاً لحزب الله في صيدا، في مواجهة نفوذ آل الحريري بالمدينة ذات الوضع الحساس، بالنظر إلى أنها ذات غالبية سنية، ولكن محيطها شيعي إلى حد كبير.
كما أن هناك جماعة دينية مؤثرة في الوسط السني، معروف أنها تابعة للنظام السوري، وهي جمعية المشاريع الخيرية الدينية، المعروفة اختصاراً باسم "الأحباش"، لأن مؤسسها من منطقة هرر بإثيوبيا.
الدروز يتهمون نظام الأسد باغتيال قائدهم التاريخي كمال جنبلاط، ولكن زعيم أكبر عائلاتهم يؤيده
وفي الطائفة الدرزية، التي يتهم أبناؤها نظام الأسد باغتيال زعيم الطائفة التاريخي كمال جنبلاط (والد زعيمها الحالي وليد جنبلاط)، فإن الأسد لديه حليف مشهور بالتعصب في دعمه له، وتلويحه بالسلاح في مناسبات كثيرة، وهو وئاب وهاب، رئيس حزب التوحيد، وهناك حليف آخر للأسد، هو الأمير طلال أرسلان، رئيس الحزب الديمقراطي اللبناني، سليل إحدى أعرق العائلات الأرستقراطية اللبنانية.
وفي الوسط المسيحي يوجد التيار الوطني وتيار المردة كأكبر حليفين لدمشق، إضافة لبعض المجموعات الصغيرة، والأفراد المنشقين عن الأحزاب المسيحية الرئيسية، من بينهم من حارب النظام السوري، ثم أصبح تابعاً له، كما ينظر للرئيس اللبناني الأسبق إميل لحود على أنه قريب من حزب الله ونظام الأسد.
وهناك الحزب القومي الاجتماعي السوري، الذي يؤمن بوجود أمة سورية واحدة تضم بلاد الشام وقبرص! ويرى أنها يجب أن تتوحد ويرفض العروبة، هو حزب مشهور بطابعه الميليشاتي القوي، وحمل اتباعه السلاح لحراسة مقراتهم في قلب بيروت (منطقة الحمراء)، وهو أحد الأحزاب اللبنانية النادرة العابرة للطوائف، وإن كان وجوده يتركز في طائفة الروم الأرثوذكس، وقد شارك الحزب في محاولتي انقلاب من قبل.
مدى اختراق نظام الأسد لمؤسسات الجيش والأمن.. الأمر يتوقف على الطائفة والسياسة
تاريخياً، اخترق نظام الأسد المؤسسات اللبنانية، حتى قبل تدخله العسكري بالبلاد خلال الحرب الأهلية.
ولكن أدى انتصاره وسيطرته على لبنان بشكل تام بعد نهاية الحرب الأهلية، وإبرام اتفاق الطائف، لتمكنه من السيطرة على كل مقدرات البلاد، وتشكيل الجيش، وفقاً لأهدافه وبصفة خاصة في فترة قيادة إميل لحود للمؤسسة العسكرية.
خفّ الأمر بعد خروج القوات السورية، ولكن بصفة عامة فإن مدى علاقة النظام السوري بالمؤسسات اللبنانية مرتبط بالتركيبة الطائفية والسياسية لكل مؤسسة، حيث إن كل مؤسسة أمنية وعسكرية في لبنان تقودها طائفة معينة، رغم أن أعضاءها ينتمون لكل الطوائف، وعادة كل جهاز يحقق في العمليات المتعلقة بالطائفة المحسوب عليها.
إليك أكثر الأجهزة الأمنية اللبنانية عداءً لنظام الأسد وأكثرها قرباً منه
الأمن الداخلي (الشرطة) محسوب على السنة، وجهازه المعلوماتي والاستخباراتي شعبة المعلومات، مع قوته المسلحة المعروفة باسم القوة الضاربة، هو أكثر الأجهزة الأمنية في لبنان تصدياً للنفوذ السوري، وهو الذي كشف دفع النظام السوري للوزير ميشال سماحة، لتنفيذ سلسلة من التفجيرات والاغتيالات بلبنان، وكذلك قضية تفجير مسجدي طرابلس.
أما جهاز الأمن العام (المسؤول عن الإرهاب، والمقيمين الأجانب)، فهو محسوب بشكل تام على الشيعة، وهو أكثر الأجهزة اللبنانية علاقة بسوريا، ولكن لا يعني هذا بالضرورة أنه مجرد تابع للأسد، ولكنه حليف وثيق له باعتبار أن الثنائي الشيعي (حزب الله وأمل) كذلك.
ماذا عن الجيش اللبناني واستخباراته؟
أما الجيش اللبناني وجهازه الاستخباراتي، المعروف باسم استخبارات الجيش، أعرق وأقوى الأجهزة الأمنية في لبنان، فالأمر أعقد.
فالجيش اللبناني تاريخياً معقل للنفوذ المسيحي، فقائده يجب أن يكون مارونياً بحكم النظام الطائفي القائم، كما كان الجيش اللبناني موالياً لعون خلال الحرب الأهلية، ولكن بعد نهايتها وهروب عون للمنفى، أضعف النظام السوري نفوذ عون بداخله، وهذا تحقق جزئياً وليس بشكل كامل؛ ثم عاد عون للبنان وأصبح حليفاً لسوريا ثم رئيساً للبلاد فعاد نفوذه من جديد، داخل الجيش، وإن كان بحدود في ظل التوازنات اللبنانية الحساسة.
كما طوّر الجيش اللبناني علاقة وثيقة بالولايات المتحدة وجيشها، باعتبارها الداعم والمانح الأول للجيش اللبناني، الذي كل سلاحه تقريباً هو سلاح أمريكي قديم، وذخائره تأتي من واشنطن بشكل دوري، حيث يعد الجيش اللبناني من أكبر جيوش العالم تلقياً للمساعدات الأمريكية.
بل إن واشنطن باتت تدفع جزءاً من رواتب الجيش والشرطة اللبنانيين في ظل الوضع الحالي المتأزم للبلاد، آخرها دفعة بقيمة 72 مليون دولار في يناير/كانون الثاني 2023.
وفي الوقت ذاته، طور الجيش اللبناني علاقة وثيقة مع حزب الله، حيث تتجاور قواتهما على الأرض في مناطق كثيرة، كما كان الجيش اللبناني في كثير من المعارك ضد داعش، وغيرها من التنظيمات الإرهابية، يعتمد على أن حزب الله يحمي ظهره، وكان هناك تنسيق أو تقسيم أدوار بين الجانبين، بما في ذلك على الأرجح تغاضي وتغطية من قبل الجيش لأنشطة حزب الله ضد إسرائيل.
بصفة عامة الجيش اللبناني أكثر المؤسسات اللبنانية احترافية، واحتفاظاً بعلاقة مع كل الطوائف والأحزاب السياسية، وقد تكون علاقته أضعف بالطائفة السنية وحزبها الأكبر تيار المستقبل، خاصةً أثناء المواجهات التي حدثت بين اتباع الزعيم السني المتطرف أحمد الأسير والجيش اللبناني، في صيف 2013، ولكن يظل الجيش اللبناني الطرف الأكثر قبولاً من الجميع، بما في ذلك قدرته على التواصل بحذر مع النظام السوري.
ولكن من المستبعد أن يكون الجيش اللبناني أداة في يد نظام الأسد للتدخل في الوضع اللبناني وإفساده.
ولكن قد يثور تساؤل حول مدى قدرة الجيش اللبناني الحساس بتوازناته الطائفية والسياسية، ومدى فاعليته وحتى إرادته في التصدي للتدخلات السورية، في ظل نهجه المحايد المعتاد، وتأثير الضباط الشيعة والمسيحيين الموالين لعون على قراراته في هذا الشأن.
فعلى الأرجح لن يكون الجيش اللبناني أداة للنظام السوري، ولكن لن يتصدى بحسم لأدوات النظام إذا كسرت الخطوط الحمر.
ويظل الجيش اللبناني يتسم بحنكة نادرة وسط هذه الظروف، إذا يكاد الجيش الوحيد في العالم الذي ينشر كامل قواته في أوساط المدنيين بشكل دائم، ويقوم بمهام الشرطة في بلد جبلي وعر ومسلح، ومنقسم على أساس طائفي، ولكل منطقة زعيمها الذي هو ملك متوج فيها، ويدير الجيش اللبناني كذلك علاقة وثيقة مع الجيش الأمريكي وحزب الله في الوقت ذاته، في نموذج نادر قد لا يكون له مثيل سوى الجيش العراقي.
فبينما تأتي رواتب وأسلحة الجيش اللبناني من واشنطن، فإنه يتغاضى عن الأسلحة التي تأتي من طهران لحزب الله!.
هل تعود معادلة "س س" لحكم لبنان؟
أحد العوامل التي قد تعزز فرص سيطرة آل الأسد على لبنان هي تراجع دور تيار المستقبل، أكبر القوى السنية، وغياب رئيسه سعد الحريري عن الساحة السياسية، وتخفيض السعودية دعمَها له، ووقفها المعونات للجيش والقوى الأمنية اللبنانية، بعد أن شعرت أنها تدفع الأموال للبنان، بينما تزداد سيطرة حزب الله عليه.
ولم يعرف بعد كيف يمكن أن ينعكس أي تفاهم سعودي محتمل مع الأسد على الوضع في لبنان، وهل يؤدي لعودة معادلة "س س"، التي كانت تحكم لبنان بعد الحرب لأهلية، أي "سوريا والسعودية"، أم تصبح هناك معادلة جديدة هي معادلة "س أ"، أي "سوريا وإيران".
فالأسد الأسب الذي أدخل النفوذ الإيراني إلى لبنان لأول مرة عام 1981، ينتظر ابنه أن ترد له طهران الجميل.