لا شك أن قرار القيادة المركزية في جيش الاحتلال بإرسال قوةٍ كبيرة إلى نابلس في وضح النهار، يوم الأربعاء 22 فبراير/شباط 2023، بغرض اعتقال أو اغتيال 3 مسلحين فلسطينيين من كتيبة عرين الأسود، يزيد من احتقان الشارع الفلسطيني الذي يوشك على الانفجار في وجه السلطة الفلسطينية والاحتلال. إذ انتهت الواقعة باستشهاد 11 فلسطينياً بينهم كبار سن وأطفال وإصابة نحو 100 آخرين، ما سيتسبب في تصعيد هجمات انتقامية من الضفة الغربية وإطلاق نيران الصواريخ من قطاع غزة، كما تقول صحيفة Haaretz الإسرائيلية.
ولا شك أيضاً أن عملية جيش الاحتلال في نابلس، تأتي في أسوأ توقيت ممكن بالنسبة للسلطة الفلسطينية التي تنخرط بتوافقات أمنية مع تل أبيب بضغط من واشنطن، رغم مسارعة قادة السلطة لإدانة دولة الاحتلال والمطالبة بتوفير حماية دولية للفلسطينيين، بحسب الصحيفة ذاتها.
كيف تقوّض عمليات الاحتلال بالضفة وجود السلطة الفلسطينية؟
ينظر العديد من الفلسطينيين إلى المداهمة العسكرية باعتبارها علامةً أخرى على سياسات السلطة الفلسطينية الخادعة، وتصريحاتها الخداعة. والأسوأ من ذلك، بحسب وصف هآرتس، أن المداهمة الأخيرة تُقوّض مصداقية السلطة الفلسطينية أكثر، وتجعلها تبدو كجزء من "المؤامرة" الإسرائيلية-الأمريكية ضد الشعب الفلسطيني. وهناك قناعة لدى العديد من الفلسطينيين بأن عملية نابلس جاءت ضمن سياق التنسيق الأمني المتواصل بين قوات أمن السلطة الفلسطينية وبين دولة الاحتلال، وهو ما كان بالفعل.
وشهد الشهر الماضي مداهمةً مماثلة لمخيم جنين للاجئين شمالي الضفة، وانتهت المداهمة بقتل الاحتلال لـ10 فلسطينيين أيضاً. وألمح جيش الاحتلال آنذاك إلى أن المطلوبين كانوا بمثابة "قنبلة موقوتة"، وهو المصطلح الذي بدا أنه يحمل نوعاً من المبالغة كما تقول الصحيفة الإسرائيلية.
وهذه المرة، قال البيان المشترك من جيش الاحتلال وجهاز الشاباك إن المشتبه بهم "تورطوا في تنفيذ هجمات إطلاق نار داخل الضفة الغربية، وفي التخطيط لهجمات إطلاق نار أخرى خلال المستقبل القريب". وكما هو معتاد، لم يجر تقديم أية تفاصيل أو أدلة مع تلك التصريحات، كما تقول هآرتس.
ومن الواضح أن الحوادث نفسها تتكرر ثانيةً في عمليات عسكرية متشابهة. إذ تجري العمليات في وضح النهار وفي قلب المناطق التي فقدت السلطة الفلسطينية سيطرتها عليها قبل وقتٍ طويل، لتنتهي بعمليات قتل جماعي للفلسطينيين.
ولا شك أن جيش الاحتلال كان يعلم ذلك مسبقاً. حيث تعُجُّ جنين ونابلس بالأسلحة الآلية. وعندما تقتحم قوة إسرائيلية كبيرة منطقةً مدنية لتباشر الاعتقالات، فهي تعلم أن المطلوبين سيقاومون الاعتقال بالقوة ولن يسلموا أنفسهم. كما تعلم أن عشرات المسلحين الآخرين سيتوافدون على المنطقة للاشتباك مع جنود الاحتلال، وسيحاولون الهجوم على قوات الاحتلال أثناء انسحابها من المنطقة.
وهذا بحسب هآرتس، يُعيد طرح التساؤلات حول مدى إلحاح وضرورية العملية التي جرت صباح الأربعاء وغيرها من العمليات، والتي وافقت عليها أكبر رتب الجيش.
العملية جاءت في أعقاب اتفاق بين السلطة و"إسرائيل" على "خفض التصعيد"
من جهتها، علقت صحيفة Jerusalem Post الإسرائيلية على مجزرة نابلس بالقول إنها جاءت في خضم الانتقادات واسعة النطاق التي تلقتها السلطة الفلسطينية، بسبب تراجعها، مطلع الأسبوع الجاري، عن مشروع قرار إدانة الاحتلال أمام مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة. إذ خطط الفلسطينيون لتقديم مشروع قرار يُدين دولة الاحتلال بشدة على أنشطتها الاستيطانية "وتدابيرها الأحادية". واستهدف مشروع القرار إدانة الاحتلال بعد أن قرر شرعنة بؤر استيطانية جديدة وبناء بيوت جديدة في المستوطنات القائمة.
بينما أفاد تقرير موقع Axios الأمريكي بأن خطوة سحب مشروع القرار قد اتُّخِذت ضمن سياق "التفاهم" المشترك، الذي توصلت إليه دولة الاحتلال مع السلطة الفلسطينية.
وبموجب التفاهمات الأمنية المزعومة، التزمت الولايات المتحدة بدعوة رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس إلى اجتماع مع الرئيس جو بايدن في البيت الأبيض. علاوةً على ذلك، التزم الفلسطينيون باستئناف التنسيق الأمني مع دولة الاحتلال، والبدء في تنفيذ الخطة الأمنية التي وضعها المنسق الأمني الأمريكي الجنرال مايكل فينزل، وذلك بهدف إعادة سيطرة السلطة الفلسطينية على جنين ونابلس، مع تدريب قوة خاصة تابعة للسلطة على إنهاء المظاهر المسلحة في نابلس وجنين.
من ناحيتها، أُجبِرَت حكومة الاحتلال على التعهُّد بعدم شرعنة أية بؤر استيطانية غير قانونية أخرى خلال الأشهر المقبلة، وعدم التصريح بأعمال بناء إضافية للمستوطنات. كما جرى التوصل إلى تفاهمٍ آخر، تقرر أن يقلل جيش الاحتلال توغلاته العسكرية في المنطقة "أ" من الضفة الغربية، بينما ستنشر السلطة الفلسطينية قواتها الأمنية في نابلس وجنين. وقد جرى التوصل إلى تلك الاتفاقيات في يوم الأحد، 19 فبراير/شباط، أي قبل ثلاثة أيام فقط من العملية العسكرية الموسعة في نابلس.
وتسبب قرار السلطة الفلسطينية بسحب مشروع مجلس الأمن في إغضاب العديد من الفلسطينيين، الذين اتهموا قادة رام الله بالرضوخ لضغوطات الولايات المتحدة والاحتلال. وأثار القرار كذلك انتقادات حادة من 7 فصائل فلسطينية متشددة، حيث حذّر ممثلو تلك الفصائل من أن سياسات القيادة الفلسطينية ستكون لها "تداعيات مدمرة" على الشعب الفلسطيني.
هل أنهت السلطة الفلسطينية تنسيقها الأمني مع الاحتلال فعلاً؟
رغم مزاعم السلطة بإنهاء التنسيق في أواخر يناير/كانون الثاني، يؤكد الفلسطينيون أن السلطة الفلسطينية لم توقف تنسيقها الأمني مع دولة الاحتلال مطلقاً، وأشار الفلسطينيون إلى أن عملية نابلس جاءت في أعقاب تقارير حول ضغط الإدارة الأمريكية على السلطة الفلسطينية، من أجل شن حملةٍ ضد الجماعات المسلحة في شمال الضفة الغربية.
وكشف تقرير آخر نشره موقع Axios الأمريكي مؤخراً أن كبار المسؤولين الفلسطينيين والإسرائيليين كانوا يجرون المحادثات سراً لنحو شهرين، وذلك في محاولةٍ لتهدئة التوترات بالضفة الغربية. وذكر التقرير أن أمين سر اللجنة التنفيذية بمنظمة التحرير الفلسطينية، حسين الشيخ، قاد المحادثات السرية مع مستشار الأمن القومي تساحي هنغبي.
ويستشهد العديد من الفلسطينيين بهذا التقرير كدليل على كذب السلطة الفلسطينية بشأن تعليقها للتنسيق الأمني مع دولة الاحتلال.
ولم تقدم السلطة الفلسطينية أي تفسيرٍ لقرارها بسحب مشروع مجلس الأمن في اللحظات الأخيرة. علاوةً على أنها لم تنفِ أو تؤكد التقارير حول إجراء محادثات "وتفاهمات" عبر القنوات الخلفية، أو التقارير المرتبطة بخطة أمنية مدعومة من الولايات المتحدة للقضاء على الجماعات المسلحة في نابلس وجنين.
وقد عزّز صمت السلطة الفلسطينية من قناعة العديد من الفلسطينيين بأن عباس وكبار مساعديه يتعاملون مع شعبهم بأسلوب مخادع.
صورة السلطة الفلسطينية تنهار في عيون شعبها
تقول جيروزاليم بوست، إن أعداداً متزايدة من الفلسطينيين باتوا يرون أن قيادة السلطة الفلسطينية تتواطأ مع دولة الاحتلال ومع الولايات المتحدة ضد مصالح شعبها.
بينما يبذل قادة السلطة في الوقت ذاته قصارى جهدهم لنفي ذلك عن طريق اتهام "إسرائيل" بارتكاب "جرائم ومذابح" ضد الفلسطينيين. إذ كتب الشيخ على تويتر: "مجزرة أخرى يرتكبها الاحتلال بعدوانه على نابلس صباح اليوم".
ورداً على تغريدته، اتهمه العديد من الفلسطينيين مرةً أخرى بالتعاون مع الاحتلال. كما طالبوا بأن تُفرج قوات أمن السلطة الفلسطينية عن مصعب أشتيه، الناشط البارز في حركة حماس وأحد مؤسسي عرين الأسود، بعد اعتقاله بواسطة السلطة في سبتمبر/أيلول عام 2022.
ولا شك أن الهجوم على الشيخ، الرجل الثاني في السلطة الفلسطينية، يعكس الاستياء واسع النطاق ضد عباس ودائرته المقربة. ومن المتوقع أن يؤدي القتل الجماعي في نابلس إلى محاولات انتقام من الشباب الفلسطيني، الذين يرون في القتلى أبطالاً كما جرت العادة. ومن المحتمل أن يأتي الرد بنيران الصواريخ من غزة، بحسب الصحيفة الإسرائيلية.
ولا تزال "مؤسسة الدفاع" في حكومة الاحتلال مؤمنةً بأن حماس في غزة ليست لها مصلحة في التصعيد غير المنضبط الآن. لكن المؤكد هو أن شيئاً ما سيحدث. بينما تواصل دولة الاحتلال التحذير من التصعيد في رمضان، لكن يبدو أن بعض الخطوات التي تتخذها تساهم في إشعال المواجهة أكثر من احتوائها، على حد تعبير الصحيفة.