"قتلوا أبي لأنه فقط تقدم لمساعدة جريح، ثم منعوا مجيء سيارة الإسعاف إليه"، مأساة مروعة باتت تكرر في جنين، حيث أصبحت قواعد الاشتباك لقوات الاحتلال تبيح قتل من يساعد الجرحى واستهداف سيارات الإسعاف والمسفعين.
فمنذ مطلع يناير/كانون الثاني، يعلم سكان مخيم جنين وفرق الإنقاذ الفلسطينية في المدينة، أن الجيش الإسرائيلي يمنع سيارات الإسعاف من المرور إلى المناطق التي يشن فيها مداهماته العسكرية لإخراج الجرحى، حسبما ورد في تقرير لصحيفة Haaretz الإسرائيلية.
وقال سكان المخيم لصحيفة Haaretz، إن جيش الاحتلال أمر موظفي السلطة الفلسطينية بإرسال رسالة بهذا المعنى إلى فرق الإنقاذ، خلال مداهمات يناير/كانون الثاني في جنين.
قناص سيقتلك إذا حاولت مساعدة جريح في جنين، وإليك تبرير الاحتلال لذلك
يعرف السكان أيضاً، من واقع الخبرة، أن من يقترب من الجرحى لتقديم الإسعافات الأولية يخاطر بحياته، لأن قناصاً إسرائيلياً سيطلق عليه النار على الأغلب. فبهذه الطريقة قُتل جواد بواقنة (57 عاماً)، في 19 يناير/كانون الثاني.
وبهذه الطريقة أيضاً أطلق جندي أو قناص في الجيش الإسرائيلي النار على سيارة إسعاف كان يقودها فادي جرار (51 عاماً)، في 26 يناير/كانون الثاني.
وقال متحدثان باسم الجيش الإسرائيلي ووحدة تنسيق أعمال الحكومة في هذه المناطق، في ردهم على الصحيفة، إنه لا يوجد ما يمنع إنقاذ الجرحى، ولكن من الضروري التنسيق معهم "لمنع أي ضرر بالمارة الأبرياء". ويرد الفلسطينيون على ذلك بالقول إن التنسيق يستغرق وقتاً، وليس ممكناً في حالة الضرورات الطبية، وسيؤدي إلى خسائر بشرية.
أطلقوا رصاصة على صدر أبي لأنه لبَّى نداء استغاثة
كان جواد بواقنة مدرس تربية بدنية في مدرسة ثانوية في جنين، وكان محبوباً من طلابه. ويوم الخميس، الموافق 19 يناير/كانون الثاني، استيقظ هو وأسرته قرابة الساعة 2:30 صباحاً، مثل باقي سكان المخيم، على صوت صافرات الإنذار.
وفي حوالي الساعة 4 فجراً، يوم 19 يناير/كانون الثاني، سمعوا صوت صراخ يطلب النجدة من الشارع، ورغم الخطر فتحوا النافذة ورأوا رجلاً ملقى على الأرض ويصرخ من الألم، وكان أول من هرع إليه ابنة جواد، آلاء (34 عاماً)، التي تعمل أيضاً مدرّسة تربية بدنية.
وتبيّن فيما بعد أن الرجل هو أدهم جبارين، العضو في حركة الجهاد الإسلامي. وتمكنت من سحبه لمسافة مترين أو ثلاثة أمتار، قبل أن ينضم إليها جواد لمساعدتها.
وقال فريد، نجل جواد، الذي كان بجانب والده، لصحيفة Haaretz، الأسبوع الماضي، إن والده نجح في سحب المصاب لمسافة لا تزيد عن 40 سنتيمتراً حين سقط رأس الوالد فجأة أمام أبنائه المصعوقين.
وكان ما حدث أن أصابته رصاصة في كتفه اليسرى واخترقت صدره، وجاءت هذه الرصاصة من جهة الشرق من الأعلى، وسحب فريد والده الجريح إلى مدخل المنزل.
وقال فريد إنه عندما كان رأس جواد وصدره داخل بئر السلم، وكانت قدماه لا تزالان خارج المدخل، أُطلق عليه النار من جديد وأصيب مرة أخرى. وتظهر بعض الثقوب الناجمة عن إطلاق النار مثلما قال فريد بوضوح في الصيدلية المجاورة، وشجرة التين البنجاميني القريبة.
وقال محمود السعدي، مدير طاقم الإسعاف في منظمة الهلال الأحمر، إن سيارة إسعاف تابعة للمنظمة كانت تحاول الوصول إلى الموقع، تعطلت 45 دقيقة. وكانت سيارة عائلة بواقنة متوقفة في الفناء الداخلي للمنزل، وهذا مكّن آلاء من نقل والدها إلى المستشفى، حيث أُعلنت وفاته، ونُقلت جثة جبارين إلى المستشفى بعدها.
إطلاق النار على سيارة إسعاف
وبعد أسبوع، وتحديداً يوم 26 يناير/كانون الثاني، نفذ الجيش والشرطة الإسرائيليان مداهمة أخرى، وعلى عكس المتوقع كانت في وضح النهار. وقدّر فادي جرار، صاحب شركة إسعاف خاصة متواضعة، وسائق سيارة إسعاف، أنه سمع صافرة الإنذار الساعة 6:55 أو 7:00 صباحاً. ومنزله، فوق شركته، قريب من المخيم. واستقل هو والمسعف الذي يعمل معه، محمد البلعاوي، في الحال واحدة من سيارات الإسعاف الثلاث الخاصة بالشركة، وانضم إليهما متطوع يعمل ممرضاً في المستشفى.
وكان الهلال الأحمر قد أبلغ عن أول فقيد، وهو عز الدين صلاحات (22 عاماً)، الشرطي في القوة الفلسطينية وعضو فريقها لكرة القدم. وقال سكان المخيم إن عز الدين حين لاحظ وجود جنود إسرائيليين متخفين أطلق النار عليهم. وأضافوا أنه أصيب على الفور في ظهره.
وأمام جميع مداخل المخيم كانت تقف سيارات عسكرية تمنع سيارة جرار من الدخول، ولذلك اضطُر لأن يسلك طريقاً فرعياً على طول منحدر التل الذي أقيم عليه المخيم. وقال جرار: "الشباب الفلسطينيون ومساعدوهم انتشروا هناك، ووجهونا إلى زقاق يقود إلى جورة الذهب". وكان المنزل الذي يسكنه أعضاء الجهاد الإسلامي المطلوبون للجيش الإسرائيلي في هذا الحي، وقصفه الجيش بتسعة صواريخ من طراز LAU بعد أن رفضوا الخروج.
وأوقف جرار سيارته في مكان آمن- على حد تعبيره- أي ليس في المنطقة الواقعة بين سيارات الجيب الإسرائيلية المدرعة وشباب المخيم المسلحين بالبنادق أو الحجارة.
وكالمعتاد، استعدّ هو وفريقه للحظة التي يُخطرون فيها بإصابة أحدهم ليقدموا له الإسعافات الأولية أو ينقلوه إلى المستشفى.
وبعد فترة سمعوا صراخاً يعلن سقوط مصاب، تقدم جرار قليلاً على منحدر الزقاق، وخرج المسعفان من سيارة الإسعاف وعادا برجل أصيب بجروح طفيفة. وقال جرار: "الرصاص كان ينهمر بغزارة"، وبينما كان زملاؤه يعالجون الرجل، لاحظ أن شاباً أصيب برصاصة وسقط أرضاً، وحمله بعض الشبان باتجاه جرار، الذي تقدم بسيارة الإسعاف نحو نصف متر باتجاههم.
ثم اخترقت رصاصتان الزجاج الأمامي لسيارة الإسعاف أمام مقعد الراكب، وأحدثتا ثقبين فيه. وقال جرار: "تناثر ما يشبه الغبار على وجهي"، وكان الرجل الثاني مصاباً بجروح خطيرة.
ثم عطلوها، ما أدى لوفاة المصاب
وحين بدأ جرار في قيادة السيارة للتوجه بمصابيه إلى المستشفى، وجد أمامه جرافة عسكرية، ولم تسمح له بالاستمرار في اتجاه المستشفى (الذي يبعد حوالي ثلاث إلى أربع دقائق من هذا الطريق).
واضطر لأن يسلك طريقاً فرعياً يبعد عن المستشفى 15 دقيقة.
وعلموا في اليوم التالي أن المصاب قد مات متأثراً بجراحه، فلو لو لم تقف الجرافة في طريق سيارة الإسعاف، وسلكت الطريق الأقصر، هل كان لينجو؟ لا أحد يعلم.
حتى لو تم التنسيق مع الاحتلال فهذا لا يمنع التعرض لصواريخه
يقول السعدي: "نحن نعمل بحذر، لكن واجبنا في إنقاذ الأرواح له الأولوية، وهذه مهمتنا. في بعض الأحيان، أثناء المداهمات، نأخذ أيضاً من يصابون بالقلق أو حتى النوبات القلبية بسبب الخوف، وحدث أن الجنود منعونا من الوصول إليهم".
وتابع: "كل دقيقة مهمة في إنقاذ الأرواح، ففي اللحظة التي يصاب فيها رجل مسلح يتوقف اعتبارُه رجلاً مسلحاً، ويصبح ضحيةً من الضروري إنقاذها. والحظر الإسرائيلي الرسمي على عملنا أثناء المداهمات جديد علينا ويقلقني، أخشى على المسعفين وعلى المصابين".
وقال السعدي: "في المداهمة الأخيرة أخرجت فرق الهلال الأحمر 20 جريحاً واثنين آخرين اختنقا من استنشاق الغاز المسيل للدموع، لو كنا نسّقنا مع الجيش في إخراج كل جريح لكان ذلك سيستغرق وقتاً طويلاً، ولكنا فقدنا أربعة على الأقل من المصابين بجروح خطيرة".
والسعدي ممزق بين واجبه المهني ومسؤوليته تجاه الجرحى، والخوف على سلامة مسعفيه. وعام 2002، خلال مداهمات جيش الاحتلال الإسرائيلي على مخيم اللاجئين في الانتفاضة الثانية، عمل مسعفاً في جنين مع طبيب الهلال الأحمر الدكتور خليل سليمان. ويوم 4 مارس/آذار، دخلوا إلى المخيم بسيارات الإسعاف بالتنسيق مع الاحتلال. ورغم ذلك، أطلق الجنود صاروخاً من نوع LAU على سيارة الإسعاف، واشتعلت فيها النيران. وتمكن السعدي ومسعف آخر من تخليص نفسيهما، لكن الجنود واصلوا إطلاق النار عليهما. وتوفي الدكتور سليمان في سيارة الإسعاف، وسُمي المستشفى الحكومي في جنين باسمه.
وقال السعدي، الذي تظهر آثار العمليات الكثيرة التي خضع لها لمدة خمس سنوات تقريباً على يديه ووجهه: "لم تتعرف زوجتي عليّ حين جاءت إلى المستشفى".