في 6 فبراير/شباط 2023، ضرب زلزالان قويان محافظات تركيا الجنوبية الشرقية، ومناطق شمال غربي سوريا، الأول بقوة 7.7 درجة على مقياس ريختر مركزه ولاية كهرمان مرعش، فيما ضرب آخَر بقوة 6.5 درجة على مقياس ريختر في ولاية غازي عنتاب جنوبي تركيا.
ويعتبر هذا أقوى زلزال يضرب تركيا منذ 100 عام تقريباً، حيث سرعان ما أفضى إلى كارثة مدمرة أسفرت عن مقتل أكثر من 38 ألف شخص في تركيا ونحو 6000 ألف في سوريا، كما أنه دمر وألحق أضراراً متفاوتة بأكثر من 70 ألف مبنى في المناطق المتضررة من تركيا، فضلاً عن أضرار بالغة بالطرق، وأخرى متفاوتة ببعض المطارات بالمنطقة.
أعلنت الحكومة التركية حالة الطوارئ لمدة ثلاثة أشهر في الولايات العشر الأكثر تضرراً (كهرمان مرعش، أديامان، ملاطيا، كيليس، غازي عنتاب، عثمانية، شانلي أورفا، أضنة، ديار بكر، وهطاي)، ودعت إلى حداد وطني لمدة سبعة أيام.
ما بعد غبار كارثة الزلزال.. غموض محلي وهدوء خارجي
يقول تقرير لموقع أسباب المتخصص بالتحليلات الاستراتيجية، إنه لطالما أطلقت الكوارث الطبيعية تداعيات سياسية محلية وأخرى جيوسياسية خارجية خارج تخطيط الحكومات، وليس معنى هذا أن هذه العملية تكون في اتجاه واحد؛ فكما أن قوى المعارضة يمكنها أن تستفيد من الحدث في التشكيك بقدرة الحكومة على إدارة الأزمات بكفاءة، فإن الحكومة يمكنها بالمقابل أن تستفيد من قدرتها على تعبئة موارد الدولة في تقديم نفسها أمام الرأي العام المحلي كقيادة فعالة في التعامل مع تداعيات الكارثة.
وفي تركيا تحديداً، اتُّهمت حكومة "بولنت أجاويد" بسوء إدارة أموال الإغاثة والفشل في تحسين البنية التحتية في أعقاب زلزال إزميت المدمر عام 1999، والذي تسبب في أضرار بمليارات الدولارات، في وقت كانت فيه البلاد تواجه بالفعل أزمة اقتصادية كبرى. وقد سلَّطت هذه التداعيات في حينه الضوء على ضعف قيادة الحكومة وفشل سياساتها الاقتصادية، مما مهد بصورة مؤثرة الطريق أمام فوز حزب العدالة والتنمية في الانتخابات عام 2002.
الآن، تقف تركيا على أعتاب انتخابات رئاسية وبرلمانية حاسمة، كانت الحكومة تخطط لإجرائها في منتصف مايو/أيار. وبينما لم تكن نتائج الانتخابات محسومة، فإن تداعيات زلزال كهرمان مرعش جعلتها دون شك أكثر غموضاً؛ حيث يمكن لمشاعر الغضب والحزن أن توجه الناخبين لإسقاط الحزب الحاكم، كما يمكن للحكومة إذا واجهت الأزمة بكفاءة أن تعيد التأكيد على موقع حزب العدالة والتنمية كجهة موثوقة للناخبين للرهان عليها مجدداً.
تداعيات زلزال تركيا اقتصادياً ومحلياً وخارجياً
وفيما يلي يستعرض موقع أسباب تقديره الأولي لتداعيات زلزال تركيا على جوانب ثلاثة: التداعيات الاقتصادية، والسياسة المحلية، والتداعيات الجيوسياسية الخارجية.
أولاً: التداعيات الاقتصادية
- الوزن الاقتصادي
تمثل الولايات العشر المتضررة من زلزال تركيا 15% من سكان البلاد (ما يقارب 13 مليون نسمة)، لكنّها من بين أفقر الولايات نسبياً في تركيا، وتسهم مجتمعة بحوالي 9% من الناتج المحلي الإجمالي للبلاد؛ بما يشمل تقريبا 15% من الناتج الزراعي، 9% من الصناعة و8% من التجارة الخارجية.
ومع الأهمية النسبية لهذه المناطق اقتصادياً، فإن التقييم المبكر يميل لاعتبار أن التأثير الاقتصادي للزلزال سيكون محدوداً وقصير الأجل؛ في ظل أن المراكز الصناعية والتجارية الخمس الكبرى في إسطنبول وأنقرة وإزمير وبورصة وكوجالي (53.7% من الناتج المحلي الإجمالي) بعيدة عن آثار الزلزال.
وهو نفس الحال لمراكز السياحة الرئيسية في البلاد: إسطنبول وأنطالية وأدرنة (76.7% من إجمالي عدد السياح). وحتى في الولايات العشر المنكوبة، لن يتأثر كل الإنتاج (مثل الزراعة)، ولا يبدو أن الضرر الذي لحق بالبنية التحتية الاستراتيجية واسع النطاق وطويل الأمد، مثل خطوط أنابيب الغاز الرئيسية ومصافي النفط والمطارات (عدا مطار أنطاكية الذي أصبح خارج الخدمة) والموانئ الرئيسية، باستثناء حريقٍ في ميناء إسكندرون.
- إعاقة جهود احتواء التضخم
في المدى القصير من المتوقع أن تؤدي صدمة الكارثة وجهود توجيه السلع الأساسية للمناطق المنكوبة إلى إعاقة جهود الحكومة لاحتواء التضخم. وفي المقابل؛ يتوقع أن يتلقى ميزان المدفوعات دعماً من تدفقات المساعدات لدعم جهود الإغاثة والتعافي قد يساعد في ضمان استقرار الليرة في الفترة التي تسبق الانتخابات. لكن من المرجح بعد الانتخابات أن تتخلى الحكومة والبنك المركزي عن الدفاع عن قيمة الليرة وستكون الحاجة ملحة لتعديل أسعار الصرف.
من المتوقع أن يتأثر عجز ميزانية الدولة والذي كانت التوقعات الحكومية تضعه عند 3.5% من الناتج المحلي الإجمالي بمستوى يتوقف على حجم المساعدات الخارجية.
وقد يتأثر كذلك نمو الناتج المحلي الإجمالي هذا العام، وإن كان من المرجح ألا يكون التأثير بنفس الأهمية مقارنة بزلزال 1999 حين انكمش الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي 3.3%، كما سيساهم الإنفاق على جهود إعادة البناء والتي يتوقع أن تطلقها الحكومة قريباً في تحفيز النمو، حيث تُحسب أعمال إعادة البناء على أنها زيادة في الإنتاج.
وتشير الدلائل من الزلازل السابقة إلى أن الاقتصادات يمكن أن تعوض بسرعة إنتاجها المفقود، حيث استمر الناتج المحلي الإجمالي في النمو أثناء وبعد زلزال كوبي الياباني عام 1995، وكان هناك انتعاش قوي عقب زلزال نيغاتا الياباني عام 2004، بينما نجحت تشيلي في تعويض آثار زلزال 2010 بالكامل في ربعين.
- لا تقييم نهائياً بعد
ومع هذا، من المهم التأكيد على أن تقييماً نهائياً حول خسائر الاقتصاد التركي ما زال من المبكر الجزم به، في ظل عدم الانتهاء من حصر الأضرار، وهو ما ينعكس على التفاوت الكبير في تقديرات بعض الجهات. فمثلاً؛ يتوقع اتحاد الشركات والأعمال التركي (TÜRKONFED) أن يتسبب الزلزال في أضرار بنحو 70.8 مليار دولار للمباني السكنية، بالإضافة إلى 10.4 مليار دولار في الدخل القومي، كما ستكلف خسائر القوى العاملة الاقتصاد التركي 2.9 مليار دولار.
تثير هذه الحصيلة الإجمالية البالغة حوالي 84 مليار دولار تساؤلات في ظل أن تقديرات أخرى قدرت الخسائر بأقل من ذلك بكثير، وهو ما دفع بنك "باركليز بي إل سي"، للتأكيد على أنه من السابق لأوانه تقييم التأثير الكامل للزلزال حالياً.
ثانياً: انعكاس الزلزال على السياسة الداخلية والانتخابات التركية
- اشتداد الانتقادات
من المرجح أن تشهد تركيا لحظة وجيزة من الوحدة والتضامن الوطني في أعقاب الزلازل المدمرة، لكن من المرجح أن المعارضة ستعمل على انتهاز الفرصة للإشارة إلى أن البرامج الاقتصادية التوسعية لحزب العدالة والتنمية، مثل رفع الحد الأدنى للأجور والحفاظ على أسعار الفائدة منخفضة، ستؤدي إلى إجهاد القدرة الاقتصادية لتركيا على إعادة بناء خسائر تقدر بمليارات الدولارات بسرعة.
وستتعزز حجج المعارضة الاقتصادية إذا كانت تعهدات المساعدات الدولية أقل من تقديرات الأضرار، مما يترك تركيا تتحمل المزيد من العبء المالي لإعادة الإعمار.
بالإضافة إلى ذلك؛ فإن التقارير حول سلامة المباني ومطابقتها لمعايير مقاومة الزلازل وأثر ذلك على ارتفاع عدد الضحايا في هذه الكارثة، ستشكل مادة مهمة للمعارضة للتركيز عليها، وكذا بعض ذوي الضحايا، وربطها مع مرور الوقت باحتمالات الفساد الحكومي والإداري في البلديات الذي دفع بعض شركات البناء إلى تجاهل اللوائح المصممة لزيادة مقاومة المباني للزلازل.
لذلك؛ سارعت السلطات التركية بتوقيف عشرات من مقاولي البناء، وفتحت تحقيقات ضدهم حول مزاعم مخالفة معايير البناء.
- تأجيل الانتخابات
من المحتمل تأجيل موعد الانتخابات في ظل خسائر البنية التحتية وانتقال مئات الآلاف من السكان، وربما ملايين، خارج ولاياتهم، وفقدان الآلاف منهم لأوراقهم الثبوتية، وهو ما يمثل تحديات لتنظيم عملية الاقتراع في المناطق المتضررة. والأهم من ذلك؛ أن قرار تأجيل الانتخابات سيرتبط أيضاً بتقدير الحكومة وحزب العدالة والتنمية الحاكم لمدى تحولات الرأي العام، بعد إعادة تركيز الناخبين على الكارثة، سواء من حيث تقييم الرأي العام لكفاية استعدادات الحكومة للزلزال بشكل مسبق، أو من حيث استجابة الحكومة له وكفاءتها في إدارة الأزمة.
في ظل هذه الظروف المعقدة؛ يواجه الرئيس رجب طيب أردوغان أصعب الاختبارات في فترة حكمه التي استمرت 20 عاماً. ومع ذلك؛ سيبقى الرهان على إدارة أردوغان للأزمة بشكل مبادر كعادته، وأن يتصدر جهود التعافي وإعادة الإعمار، مما يعزز فرص إعادة انتخابه والحد من التداعيات السلبية للأزمة، خاصة في ظل وسائل الإعلام المحلية الداعمة إلى حد كبير والتي ستُمكّن الحزب الحاكم من التأثير في السردية السائدة شعبياً.
ويلاحظ هنا أن أردوغان لجأ مباشرة لتفعيل "مستوى التنبيه الرابع" لسرعة حشد فرق الإنقاذ والمساعدات الدولية، وهو نهج مختلف عن إدارة أزمة حرائق الغابات الهائلة في صيف 2021.
ثالثاً: التداعيات الجيوسياسية من المحيط والعالم
- تصفير المشاكل واحتواء التوتر
مع وصول المساعدات الدولية بسرعة من الحلفاء واللاعبين الإقليميين، وحتى من دول مثل فرنسا واليونان التي تصاعدت معها التوترات الجيوسياسية مؤخراً، فمن المرجح أن تتحسن العلاقات، وأن تكون مخاطر التوترات الإقليمية الجيوسياسية أقل، على الرغم من أن هذا من المحتمل أن يكون قصير الأجل؛ نظراً للخلافات الراسخة والاستقطاب الانتخابي في تركيا، خاصة إذا استأنفت اليونان جهود تغيير الوضع القائم في جزر بحر إيجة.
كما تُظهر الاستجابة الواسعة لنداء المساعدة الدولية مكانة تركيا، وبالتبعية نجاعة سياسة أردوغان الخارجية، حيث بادرت كافة الأطراف المتصارعة فيما بينها (مثل روسيا والغرب، أو إيران و"إسرائيل")، بالمشاركة في جهود الإنقاذ. كما أن الحكومة ستعمل على إبراز هذا الأمر كنتيجة لسياسة تهدئة التوترات الإقليمية التي انتهجها أردوغان ونتج عنها تلقي تركيا دعماً إغاثياً من السعودية ومصر والإمارات و"إسرائيل"، وحتى اليونان، وهو أمر ربما كان مستبعداً قبل عامين.
وبينما من المرجح أن تساهم قطر بفاعلية في جهود التعافي وإعادة البناء، فإن المؤشر الحاسم حول حرص دول الخليج الأخرى، خاصة السعودية والإمارات، على الاستثمار في علاقة استراتيجية مع تركيا، وليس مجرد احتواء توتر العلاقات، سيظهر في مستوى الدعم المالي الذي ستقدمه لبرامج إعادة البناء، وبرامج الدعم الاقتصادي للمتضررين من الزلزال، والتي ستثمل عبئاً على ميزانية الدولة المثقلة بالفعل ببرامج الدعم والإنفاق الحكومي الاجتماعي التوسعية التي أقرتها الحكومة خلال الأشهر الأخيرة لمواجهة موجة التضخم.
- الدعم الغربي
حالة التضامن الدولي لا تعني أن الحسابات الجيوسياسية الأوسع ستكون غائبة؛ حيث ستراقب تركيا مستوى الدعم الحقيقي المقدم من دول أوروبا والولايات المتحدة، والذي ستنظر إليه أنقرة كرسالة سياسية لا ترتبط فقط بقضايا خارجية مثل ملف عضوية السويد في الناتو، ولكن أيضاً قد تفسره بتعمد هذه الأطراف الضغط على الحكومة محلياً قبيل الانتخابات.
وبينما لا يزال الموقف الصيني غامضاً، فإن احتمالات الدعم الروسي لا يمكن استبعادها، خاصة إذا تقاعس الغرب عن تقديم دعم معتبر؛ فقد لا يتمكن الرئيس الروسي بوتين من تقديم مساعدات مالية، لكنّه قادر على دعم تركيا بشحنات من الغاز على سبيل المثال، وهو لا يقل أهمية أبداً عن الدعم المالي؛ لأنه سيوفر لميزان المدفوعات التركي فائضاً يمكن للحكومة توجيهه لتسريع جهود البناء دون أن أعباء إضافية على الميزانية.
- أزمة اللاجئين
قد يواجه شمال غرب سوريا أيضاً حالات من عدم الاستقرار الاجتماعي، حيث سيؤدي الزلزال إلى زعزعة استقرار هيكل الحكم الهش بالفعل. فقد كانت إدلب وحلب أكثر المناطق تضرراً في سوريا، حيث تسيطر هيئة تحرير الشام على الأولى، والأخيرة منقسمة بين قوات النظام السوري و"الجيش الوطني السوري" المدعوم من تركيا.
وتضم هذه المناطق عدداً كبيراً من اللاجئين النازحين داخلياً وتعتمد بشكل كبير على المساعدات من تركيا، مع تصارع تركيا مع استجابتها بعد الأزمة، والعقوبات الدولية التي تعرقل المساعدات لسوريا، تعثرت بشكل كارثي الاستجابة الدولية للاحتياجات الطارئة لسكان إدلب وشمال حلب، وهذا يمكن أن يعرِّض الاستقرار الاجتماعي الهش للخطر.
تسببت زلازل 6 فبراير/شباط أيضاً في أضرار واسعة النطاق في الأراضي السورية الواقعة تحت الحماية التركية، وقد يعني هذا استبعاد قدرة حزب العدالة والتنمية على المضي في مخطط إعادة توطين مليون لاجئ سوري، من بين 3.6 مليون لاجئ يعيشون في تركيا، والذين أصبحوا هدفاً للمعارضة لتعبئة المشاعر القومية ضد الحكومة في الفترة التي تسبق الانتخابات.
وقد تكون المعارضة التركية أقل حماساً في استخدام ورقة إعادة اللاجئين السوريين خلال الحملة الانتخابية بنفس الزخم السابق، في ظل حالة النزوح الداخلي لعدد واسع من المواطنين الأتراك خارج الولايات المنكوبة، وتفاقم المعاناة الإنسانية في الشمال السوري نتيجة الزلزال. ومع هذا؛ ستظل الخطابات القومية المعادية للاجئين والأجانب ضمن أجندة بعض أحزاب المعارضة التركية، وهو ما يجعل من غير المتوقع أن تتراجع الحكومة عن الإجراءات والقوانين التي تبنتها بخصوص الأجانب واللاجئين خلال العام الماضي.