علقت ألمانيا التجنيد الإجباري لمواطنيها منذ عام 2011، لكن الحرب في أوكرانيا أثارت الفزع، وأعادت الجدل مرة أخرى حول تلك المادة الدستورية، فما مدى "ضعف" الجيش حالياً؟
كان بوريس بيستوريوس، وزير الدفاع الجديد، قد أعلن أنه سيركز على تحديث الجيش الألماني، وقال إنه يعرف مدى أهمية القوات المسلحة في هذه الأوقات الصعبة، مضيفاً أن مهامها هائلة: "أعتزم جعل الجيش الألماني قوياً".
وفي إشارة إلى مهمته، أضاف بيستوريوس، الذى تولى المنصب رسمياً، الخميس 19 يناير/كانون الثاني الماضي: "وبناء على هذا فإنني بالطبع أدرك بشدة المسؤولية والأهمية الكبيرة لهذه المهمة. يجب على الجيش أن يتكيف مع الوضع الجديد الذي نشأ في أوكرانيا بسبب الحرب الروسية".
وزير الدفاع يريد عودة التجنيد الإجباري
وقبل مرور شهر على توليه المنصب، فتح وزير الدفاع الجديد الباب على مصراعيه للنقاش حول إمكانية إعادة فرض الخدمة الإلزامية في الجيش الألماني، قائلاً إن "إيقاف الخدمة الإلزامية كان أمراً خاطئاً".
كانت ألمانيا قد علقت التجنيد الإجباري أو الإلزامي أو الخدمة العسكرية منذ عام 2011، علماً بأن المادة 12 من الدستور، في بندها الأول، تتحدث عن التجنيد الإلزامي وتنص على أنه "يمكن إجبار الرجال بدءاً من عمر 18 عاماً على الخدمة الإلزامية في القوات المسلحة، وقوات حرس الحدود أو جمعيات الحماية المدنية".
لكن منذ نهاية الحرب الباردة بتفكك الاتحاد السوفييتي، وإعادة توحيد ألمانيا مرة أخرى قبل أكثر من 3 عقود، شهدت غالبية الدول الأوروبية نقاشاً مجتمعياً حول التجنيد الإلزامي، ومع بداية القرن الحالي، قررت 17 دولة في القارة إلغاء أو تعليق التجنيد الإجباري، وكانت ألمانيا من الدول التي تأخرت نسبياً في اتخاذ قرار تعليق الخدمة العسكرية الإجبارية.
ومما لا شك فيه أن نهاية حقبة الحرب الباردة كان لها تأثير عميق على دور القوات المسلّحة في الدول الأوروبية، حيث لم يعد الغرب يُواجه خطراً من الكتلة الشرقية التي كان يتزعّمها الاتحاد السوفييتي سابقاً.
إذ لم تعد المهمّة الأولى والأساسية لجيوش كثيرة الدفاع عن التراب الوطني، بل بات التركيز أكثر على البعثات الدولية كجزء من منظومة الأمم المتحدة، أو من حلف شمال الأطلسي (الناتو)، أو كجزء أيضاً من المنظومة الأمنية للاتحاد الأوروبي، أو أيضاً في إطار مهمات ثانوية كالنجدة خلال حصول كوارث، أو القيام بمهام أمنية لحماية المؤسسات العامة الحيوية ومقار السفارات وغيرها.
لكن بعد مرور نحو سبع سنوات على إلغاء التجنيد الإلزامي في البلاد، كشف استطلاع للرأي أن غالبية الألمان ترغب في إعادة نظام الخدمة الإلزامية بشقيها المدني والعسكري، بحسب تقرير نشرته شبكة DW الألمانية قبل نحو 5 سنوات.
وأظهر الاستطلاع، الذي نُشرت نتائجه، الأربعاء 28 فبراير/شباط 2018، أن 66% من الألمان دعوا إلى تغيير النظام القائم، وطالب 20.7% من الألمان بإعادة تطبيق الخدمة المدنية فقط، بينما طالب 6.6% من الذين شملهم الاستطلاع بإعادة تطبيق الخدمة العسكرية فقط، في حين دعا إلى إعادة تطبيق الخدمتين 36.6% من الألمان.
وقتها عزا القائمون على الاستطلاع النسبة المرتفعة المؤيدة لإعادة تطبيق نظام الخدمة الإلزامية إلى الخبرات الجيدة التي يحتفظ بها كثير من المشاركين في الاستطلاع عن خدمتهم الإلزامية السابقة في ذاكرتهم. فقد أعرب 77% من الذين شملهم الاستطلاع عن رضاهم عن الفترة التي قضوها في الخدمة المدنية، بينما بلغت نسبة الرضا عن فترة الخدمة العسكرية 66%.. الاستطلاع أجراه معهد "سبلنديد ريسيرش" لأبحاث السوق، وشمل الاستطلاع 1022 ألمانياً تتراوح أعمارهم بين 18 و69 عاماً.
ما حالة الجيش الألماني حالياً؟
أعادت تصريحات وزير الدفاع بيستيريوس الجدل مرة أخرى بشأن هذه القضية، وبرزت أصوات تؤيده بناء على الحالة المتردية التي يعاني منها الجيش الألماني، وحالة الفزع التي اعترت البلاد منذ اندلعت الحرب في أوكرانيا، التي تصفها روسيا بأنها "عملية عسكرية خاصة" بينما يصفها الغرب بأنها "غزو عدواني غير مبرر".
باتريك زينزبورغ، وهو سياسي ورئيس جمعية الاحتياطيين في الجيش الألماني، كان من أبرز الأصوات المؤيدة لإعادة التجنيد الإجباري، وعندما تم التصويت، في مارس/آذار 2011، على تعليق المادة 12 من الدستور، كان النائب الوحيد في البوندستاغ (البرلمان) من نواب الحزب المسيحي الديمقراطي الذي عارض إيقاف هذه الخدمة آنذاك.
حينها برر زينزبورغ موقفه من القرار بوجود مخاوف سياسية أمنية لديه، يمكن الاطلاع عليها في محضر الجلسة في البرلمان. ولم يعارض زينزبورغ النواب الآخرين في الحزب فقط، بل عارض أيضاً الجو الذي كان سائداً في البلاد حينها، يومها كانت ألمانيا ترى نفسها محاطة بالأصدقاء فقط، حيث يمكن أن يعم سلام أبدي في أوروبا حسبما قال لشبكة DW، مضيفاً: "قلت، لا يمكنني تحمل المسؤولية، في حال توجب علينا العودة عن هذه الخطوة في العقد القادم".
بعد 12 عاماً، لم يعد العقيد الاحتياطي الصوت الوحيد الذي يرغب بعودة الخدمة الإلزامية، وقد صرح حول ضرورة الخدمة الإلزامية بالقول: "لا يكفي أن يكون بإمكاننا الدفاع عن ولاية أو ولايتين في ألمانيا، لأن الجيش الألماني صغير جداً، وغير مجهز. بالطبع يكلف تجهيز جيش إلزامي المال، الدفاع يكلف المال، هذا قرار يجب علينا اتخاذه مسبقاً كسياسيين: هل نرغب أن نكون قادرين على الدفاع عن بلدنا أم لا؟".
فخلال عقدين من الزمن تراجع عدد أفراد الجيش الألماني من أكثر من 317 ألفاً إلى نحو 183 ألف جندي وجندية، إلا أن زينزبورغ مقتنع بأن هذا الرقم، إلى جانب ما يقرب من 100000 جندي احتياطي، لا يكفي في حالات الحاجة. في الوقت نفسه، فإن الخدمة العسكرية الطوعية ليست كافية على الإطلاق لتحفيز الشباب على الانضمام إلى الجيش الألماني.
في هذا السياق، يقول رئيس جمعية الاحتياطيين: "لا نحتاج فقط إلى المتخصصين، ولا إلى قوات خاصة، بل نحتاج أيضاً إلى عدد معين من الجنود لنتمكن من الدفاع عن البلاد". "بالطبع، لا نريد أن تصبح ألمانيا دولة عسكرية، لكنها تحتاج إلى قوات مدربة بشكل جيد، ولديها كذلك العديد من جنود الاحتياط. ولن تحصل عليهم إلا إذا كان لديها تجنيد إلزامي".
وزير الدفاع الألماني بدوره يقول إن تجنيداً إلزامياً خلال العامين القادمين لن ينفع ألمانيا كثيراً، لكن على ألمانيا وبغض النظر عن حالة الخطورة أن تناقش هذه المسألة بشكل مفتوح وصريح. وبهذا الخصوص قالت متحدثة باسم الجيش رداً على سؤال من DW إن وزارة الدفاع "لا تفكر في إعادة التجنيد الإلزامي".
"الجيش الألماني اليوم مختلف تماماً عما كان عليه قبل عشر سنوات أو أكثر. لدينا مهام مختلفة تتطلب موظفين مدربين جيداً ومتخصصين لأدائها. لدينا هياكل مختلفة وقدرات أخرى وواقع عملياتي مختلف. ولقد فتح باب انضمام النساء إلى القوات المسلحة منذ 20 عاماً"، بحسب الوزارة.
ووفق وزارة الدفاع فإنه "في حالة التوتر أو حالة الدفاع، من المخطط زيادة عدد الاحتياطيين إلى حوالي 60 ألف جندي وجندية. وهذا يعني أن الجيش الألماني، وحسب المهام الموكلة إليه من قبل البرلمان، هو في وضع يمكّنه من تنفيذ مهامه في الدفاع، جنباً إلى جنب مع قوات شركائنا في الناتو".
ما التحديات التي تواجه إعادة التجنيد الإجباري في ألمانيا؟
بالنسبة للمفوضة المكلفة بالشؤون العسكرية، إيفا هوغل، فإن الجدل حول التجنيد الإلزامي هو "مناقشة نظرية"، وبالنسبة لزعيم الحزب الديمقراطي الحر كريستيان ليندنر، فإن النقاش الدائر هو "نقاش أشباح"، ولهذا السبب يقول البرلماني فولفغانغ هيلميش، إنه يمكن تجاوز الحديث حول هذا الموضوع: "هذا النقاش يظهر من حين لآخر، ولكن ليس له علاقة كبيرة بالواقع الحالي"، ويتساءل: "ما الغرض من التجنيد الإلزامي؟ هذا يعني مليارات من التكاليف لإدخال أو إعادة إنشاء هياكل وبنية ضاعت. لسنا بصدد جيش مجند ولكن تجاه جيش محترف".
حتى ما قبل عامين، كان هيلميش رئيساً للجنة الدفاع في البوندستاغ الألماني ولا يزال عضواً فيها حتى اليوم، وهو أيضاً المتحدث باسم مجموعة العمل المعنية بالسياسة الأمنية والدفاعية للمجموعة البرلمانية للحزب الاشتراكي الديمقراطي وهو يشترك مع زينزبورغ وبيستيريوس في اعتبار قرار البرلمان عام 2011 خطأ فادحاً.
وفي هذا الخصوص، قال هيلميش للشبكة الألمانية: "لم تكن هناك مفاهيم محددة من وزير الدفاع حينها كارل- تيودور تسو غوتينبرغ، ولم تكن هناك رؤية تجاه أسئلة معينة، مثل: كيف نجند للجيش في المستقبل؟ كيف نتعامل مع موضوع الخدمة المدنية؟ تسبب إلغاء جميع الوظائف بمشاكل كبيرة. لم يكن هناك أي شيء يمكن الاستناد عليه".
بعد اثني عشر عاماً، لا يوجد شيء على الإطلاق يتحدث عن إعادة التجنيد الإلزامي، كما يقول منتقدون، إذ لا توجد مكاتب للتجنيد في المناطق، ولا معدات عسكرية لتدريب المجندين، ولا يوجد مدربون. لا توجد خطة عادلة تتعلق بضم 700000 شاب وشابة يبلغون من العمر 18 عاماً في حال طُلب منهم الخدمة. وقبل كل شيء، لا توجد مليارات اليورو الكافية لإعادة تشغيل نظام التجنيد.
بدلاً من إضاعة وقت ثمين في إعادة التجنيد الإلزامي، يجب على ألمانيا التركيز على توظيف مهنيين، يقول هيلميش: "ليس لدينا مشكلة في تجنيد الضباط، لدينا مشكلة في الخدمات الفنية. يتعلق الأمر بالإمداد اللوجستي للقوات والمجال السيبراني".
ولا يزال الجيش الألماني يواجه مشكلة كبيرة في تجنيد النساء، فحتى العام الحالي (2023)، هناك مجندة واحدة فقط مقابل كل سبعة جنود. هيلميش وهو أيضاً أمين صندوق الجمعية البرلمانية لحلف الناتو، خلال زيارته إلى النرويج، تحدث إلى قوات خاصة لوحدة عسكرية تتكون فقط من النساء، مثل هذه الوحدة لا تزال غير واردة على الإطلاق في ألمانيا.
في الحصيلة يرى السياسي المتخصص بشؤون الدفاع: "علينا أن نولي مزيداً من الاهتمام لمسألة تجنيد الأفراد. كيف نجند أشخاصاً للخدمة في الجيش الألماني؟ علينا أن نجعل الخدمة التطوعية أكثر جاذبية من أجل جذب أشخاص يستمرون في الخدمة بالجيش".
في هذا السياق، كشف استطلاع حديث للرأي أن نحو 10% فقط من الألمان مستعدون للدفاع عن بلدهم بالسلاح في حالة وقوع هجوم عسكري عليها. وأظهر الاستطلاع الذي أجراه معهد "يوجوف" بتكليف من وكالة الأنباء الألمانية (د ب أ) أن 5% فقط من الألمان مستعدون للتطوع في الخدمة العسكرية، بينما يتوقع نحو 6% استدعاءهم للجيش وتدريبهم للدفاع عن الوطن عند اللزوم.
وبحسب الاستطلاع، فإن 33% يتوقعون مواصلة حياتهم المعتادة في حال وقوع هجوم عسكري على ألمانيا، بينما لا يستبعد 24% مغادرة البلاد في أسرع وقت ممكن في حالة وقوع مثل هذا الهجوم.