تواجه باكستان عاصفة ثلاثية، من فيضانات أغرقت ثلث البلاد ثم أزمة سياسية حادة، إضافة إلى التضخم وأزمة ديون خانقة، فما تداعيات شبح "الإفلاس" الذي يهدد القوة النووية الإقليمية في العام الحالي؟
نشر موقع The Intercept الأمريكي تحليلاً للمصائب التي تعاقبت على باكستان العام الماضي حتى دفعت بها إلى حافة الهاوية، من فيضانات كارثية وشلل سياسي وتضخم هائل وعودة لخطر الإرهاب، مما يشير إلى أن هذه الأمور كلها تهدد بدفع هذا البلد المهم عالمياً إلى أتون الانهيار الكامل. وإذا حدث ذلك، فإن عواقب الكارثة المحدقة بباكستان لن تقف عند حدودها.
باكستان.. قوة نووية تواجه الخطر
كانت الأمطار الغزيرة والفيضانات، صيف العام الماضي، قد أغرقت ثلث مساحة باكستان وقتلت أكثر من 1100 شخص، من بينهم 380 طفلاً، فيما وصفته الأمم المتحدة، الثلاثاء 30 أغسطس/آب، بـ"الكارثة المناخية التي لم يسبقها مثيل".
وقبل تلك الكارثة الطبيعية بأشهر قليلة، كان البرلمان الباكستاني قد أطاح بعمران خان عبر تصويت على حجب الثقة عن رئيس الوزراء، وتولى شهباز شريف المنصب بدلاً منه، ولاحقاً تعرض خان لمحاولة اغتيال.
عزيز يونس، مدير قسم الشؤون الباكستانية في مركز جنوب آسيا التابع للمجلس الأطلسي الأمريكي، قال للموقع الأمريكي: "هذه دولة يبلغ عدد سكانها 220 مليون نسمة، ولديها أسلحة نووية ونزاعات وانقسامات داخلية خطيرة. وقد شقَّ على العالم تدفق اللاجئين والأسلحة من دول مثل سوريا وليبيا، فماذا سيكون رأيه إذا حدث ذلك مع دولة أكبر مساحة وأكثر أهمية مثل باكستان".
"إذا بقي الاقتصاد الباكستاني في احتضاره، واستمر النقص في السلع والطاقة حتى انفجار الأزمة السياسية في شوارع المدن الكبرى، فإن ذلك سيُتيح لجماعة (طالبان باكستان) وغيرها من الجماعات الإرهابية أن توجه ضربات مباشرة إلى الحكومة. وقد نرى في أعقاب ذلك انهياراً مديداً للدولة وتقويضاً لقدرتها على فرض النظام"، بحسب يونس.
أفضت تلك النوائب ومعها سوء الإدارة المزمن في البلاد إلى وقوع النظام السياسي الباكستاني تحت وطأة تهديد حقيقي بالانهيار. ووصف يونس الأمر بالقول: "تواجه باكستان الآن ثلاث أزمات يتقاطع حدوثها في وقت واحد: أزمة اقتصادية، وأزمة سياسية، وأزمة أمنية تتفاقم منذ عودة طالبان أفغانستان (إلى حكم البلاد في أعقاب الانسحاب الأمريكي في أغسطس/آب 2020)؛ إنه أكبر تهديد لتماسك الدولة الباكستانية منذ عام 1971 (العام الذي اندلعت فيه الحرب بين باكستان وباكستان الشرقية، وانتهى باستقلال الأخيرة وإعلان دولة بنغلاديش)".
كشفت البيانات عن تضاؤل احتياطي العملات الأجنبية لباكستان إلى 3.7 مليار دولار فقط. وهو مبلغ لا يكاد يكفي للوفاء بما تحتاج إليه البلاد في بضعة أسابيع لتأمين واردات الطاقة والحفاظ على سير العمل في مدنها وشركاتها، أما الدين العام للبلاد فقد زاد إلى 270 مليار دولار.
وقد تعرضت باكستان لأضرار كبيرة من جراء الحرب في أوكرانيا، لا سيما بعد أن اضطرت هي وغيرها من الدول النامية إلى الدخول في حرب مزايدة على واردات الغاز الطبيعي المتناقصة في الأسواق.
أجبرت تلك الأعباء رئيسَ الوزراء الباكستاني، شهباز شريف، على الاستغاثة بصندوق النقد الدولي لاستئناف خطة الإنقاذ المالية التي تجمدت في أوائل العام الماضي. المفاوضات جارية حالياً، لكن الأخبار الواردة تشير إلى أن الصندوق يطالب بتنازلات مؤلمة، وتخشى الحكومة عواقب الموافقة عليها قبيل الانتخابات المزمع إجراؤها هذا العام.
هل تقع البلاد تحت وطأة "الإفلاس" بسبب أزمة الديون؟
في غضون ذلك، لاحت بالفعل علامات تشير إلى أن الضغط الاقتصادي المتفاقم سيؤثر في احتياجات الباكستانيين الأساسية. فقد شهدت البلاد في أواخر يناير/كانون الثاني، انقطاعاً غير مسبوق للتيار الكهربائي في عموم البلاد لأكثر من 24 ساعة. وفي حين أن سبب الانقطاع غير واضح، فإنه يكشف عن لمحةٍ مما قد تواجهه البلاد من أزمات. يوسف نزار، المحلل الاقتصادي الباكستاني، قال للموقع الأمريكي: "يعتمد توليد الكهرباء في باكستان اعتماداً كبيراً على استيراد إمدادات الوقود. ومن ثم إذا بدأنا نشهد انقطاع التيار الكهربائي، والنقص في وقود النقل، في وقت تواجه فيه البلاد نسبة تضخم بلغت 40%، فلا يمكن لأحد أن يتصور حجم العواقب".
كانت نُذر الأزمات المتراكمة، وأبرزها الاقتصاد المثقل بالديون وغياب القيادة السياسية المتماسكة وهيمنة النخب الفاسدة على الحكم، تُخيِّم على الأفق منذ وقت طويل. ففي الوقت الذي صارت فيه كثير من دول آسيا غنية ومستقرة خلال العقود الماضية، ظلت باكستان فقيرة ومضطربة ومتقلبة.
قال نزار لموقع إنترسبت: "في أثناء حقبة العولمة وتحرير التجارة التي شهدتها آسيا خلال التسعينيات، كانت باكستان منهمكة في صراعات القوة بين النخب العسكرية والمدنية. لقد كانت الأزمة الحالية تختمر قبل وقت طويل من حرب أوكرانيا، لكنها جاءت كالقشة التي قصمت ظهر البعير".
ولطالما اتسم الاقتصاد الباكستاني بحفنةٍ من السياسات الفاسدة التي تعمل على تقديم أموال البلاد إلى النخب المدنية والمسؤولين العسكريين وإهمال الغالبية العظمى من السكان العاملين في صناعات مختلفة، مثل الزراعة والمنسوجات. لكن الظاهر الآن هو أن موارد الأموال الأجنبية التي طالما اعتمدت عليها النخب الباكستانية في تمويل سبل عيشها المترفة، قد بدأت في النضوب.
أعلنت السعودية، التي لطالما كانت إحدى الدول المانحة لباكستان، الشهر الماضي، أنها ستربط مساعداتها إلى الدول "الحليفة" بإصلاح الاقتصاد والسوق الداخلية في تلك الدول. وقد وُصف ذلك بأنه تحذير واضح لبعض الدول المتلقية للمساعدات، مثل مصر وباكستان، اللتين يتسم اقتصادهما بتضخم القطاع العام وتغلغل السيطرة العسكرية.
وعلى الرغم من أن الإمارات تعهدت بتقديم بعض المساعدة المالية لباكستان، فإن المبلغ المعلن عنه لا يكاد يكفي لتغطية واردات السلع الحيوية بضعة أسابيع أخرى. وفي غضون ذلك، لم تُظهر الصين، التي تدين لها باكستان بنحو 30% من نسبة ديونها، أي استعداد حتى الآن للتفاوض من أجل تخفيف شروط الوفاء بالديون. أما الولايات المتحدة، فقد نأت بنفسها إلى حد كبير عن المنطقة بعد انسحابها المرير من أفغانستان.
وفي الوقت ذاته، لا تظهر أي بوادر على إمكان تحسن العلاقات بين باكستان وجارتها (الهند) التي تشهد صعوداً اقتصادياً، لكن تسيطر عليها حكومة قومية هندوسية متشددة.
في معرض الحديث عن الفروق بين الهند وباكستان من حيث المسار الاقتصادي لكل من البلدين، خاصةً أن باكستان كانت تبدو في حال أحسن من جارتها حتى ثمانينيات القرن الماضي، قال مايكل جوغلمان، نائب رئيس قسم الشؤون الآسيوية في مركز ويلسون البحثي الأمريكي، إن "الأمر يتضمن عوامل كثيرة [أدت إلى تراجع باكستان وصعود الهند]، منها سوء الإدارة السياسية في باكستان لسنوات طويلة، واحتكار نخبة معينة للسياسة في البلاد. وقد بذلت الهند جهوداً حثيثة لتنفيذ سياسات تقوم على نشر التعليم الشامل والرعاية الصحية، أما في باكستان، فقد تجاهلت سلطة البلاد الاحتياجات الاقتصادية الأساسية للشعب".
الأزمة وتداعياتها الخطيرة
تقترن الأزمة الاقتصادية في باكستان باضطراب سياسي يمكن أن يقوض سيطرة الدولة، ويزيد من العقبات القائمة في سبيل الإدارة الجيدة للحكم في البلاد.
بعد إقالة عمران خان من رئاسة الوزراء العام الماضي في غمار صراعه مع الجيش الذي كان حليفه ذات يوم، زعم رئيس الوزراء السابق أن حكومته أُزيحت بانقلاب شاركت في تدبيره الولايات المتحدة، وشرع في تنظيم تظاهرات حاشدة تطالب بإعادة تنصيبه رئيساً للوزراء.
تعرض حلفاء خان وأنصاره لموجةٍ من الاغتيالات والاعتقالات، وأصيب هو نفسه أثناء محاولة اغتيال في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي بعد أن أطلق مسلح النار عليه خلال تجمع انتخابي. وعمران خان من الشخصيات التي تتباين الآراء حولها بشدة في السياسة الباكستانية، فهو يحظى بقاعدة شعبية كبيرة ومخلصة له، ولو قُتل لكان الأقرب أن تشهد البلاد صراعاً أهلياً واسع النطاق.
والحال كذلك، فإن جميع الأحزاب السياسية الكبرى تحاول الحفاظ على تماسك البلاد، رغم الخلافات الشديدة فيما بينها، وما زال الجيش هو الحكم الذي له اليد العليا على السياسة. لكن الاقتتال السياسي والتغيرات المتوالية في قيادة البلاد جعلت الإدارة الرشيدة للاقتصاد أمراً صعب المنال، وهو يدفع بالبلاد في طريق التوجه إلى أزمات أشد وطأة.
قال عارف رفيق، الزميل غير المقيم في معهد الشرق الأوسط والمتخصص في الشؤون الباكستانية، إن "تفكك الدولة أمر متعذر، لكننا يمكن أن نشهد أزمة اقتصادية عميقة تدفع بكثيرٍ من الناس إلى ما دون خط الفقر، وتحرمهم من السلع الأساسية، وتزيد من انعدام الأمن الغذائي، وتؤجج الغضب بين أهل البلاد".
وحذَّر رفيق من أن ذلك قد يكون له "عواقب سياسة شديدة الوطأة، ليس على الأحزاب السياسية فقط، وإنما على الجيش أيضاً. فهذه الجهات إذا عجزت عن تلبية الاحتياجات الاقتصادية للشعب واعتمدت على القهر فقط، فإن المآل الوحيد لذلك هو تأجيج السخط بين الناس".
كما شهدت باكستان في الأشهر الماضية تصاعداً للعمليات الإرهابية التي تشنها الجماعات المتطرفة، والمسلحين الانفصاليين في إقليم بلوشستان الغني بالموارد. وقد أعلنت حركة "طالبان باكستان" عن عودتها الشهر الماضي بهجوم انتحاري مروع أسفر عن مقتل أكثر من 100 مصلّ أثناء صلاة الجمعة في أحد المساجد.
وعلى إثر الأزمات الاقتصادية والسياسية المتفاقمة، ما زال ملايين الناس في جميع أنحاء البلاد لم يتعافوا من آثار الفيضانات غير المسبوقة التي وقعت العام الماضي وأفضت إلى غرق ما يقرب من ثلث الأراضي الباكستانية ونزوح الملايين عن بيوتهم. وعلى الرغم من أن التغير المناخي المدفوع بالنشاط الصناعي الغربي كان من أبرز أسباب الفيضانات في باكستان، فإن المساعدات الدولية كانت بطيئة وهزيلة، وتُركت البلاد وحيدة إزاء محنتها الكبيرة.
رئيس الوزراء الباكستاني السابق، آصف علي زرداري، قال ذات مرة للدبلوماسي الأمريكي ريتشارد هولبروك، إن باكستان "أكبر من أن [تُترك] لتنهار"، وشبَّهها بالبنوك الكبرى التي أمدَّتها الحكومة الأمريكية بمساعدات إنقاذ ضخمة لمنع انهيارها في أعقاب الأزمة المالية العالمية في عام 2008.
صحيح أن باكستان دولة نووية، وهي خامس دولة من حيث عدد السكان في العالم، لكن إذا لم يستطِع قادتها الاجتماع على كلمة واحدة وإيجاد طريقة للخروج بالبلاد من أزماتها، فإن العواقب قد تكون أشد سوءاً مما يجري في الحسبان.
قال رفيق: "البلاد تعيش حالة اضطراب هائلة، والناس لا يعرفون ما إذا كانت باكستان تستطيع الوفاء بالتزامات قروضها الخارجية هذا العام أم أنها عاجزة عن ذلك. والمخاطر تتزايد في جميع المجالات، والمؤشرات من سيئ إلى أسوأ. وفوق هذا وذاك، يصعب علينا أن نرى سبيلاً متاحاً للاستقرار؛ لأن شرعية الحكومة تأتي من قدرتها على التعامل مع الأزمات الاقتصادية، وهذه أمور يتعذر تحسُّنها في الأمد المنظور".