في ظل أزمة اقتصادية متفاقمة، تقدمت الحكومة المصرية في مارس/آذار 2022 بطلب لصندوق النقد الدولي للحصول على قرض جديد، وذلك بعد حصولها على نحو 20 مليار دولار سابقاً كقروض منذ عام 2016، لتصبح ثاني أكبر دائن عالمياً للصندوق بعد الأرجنتين.
وبعد مفاوضات شاقة تخللها طلب رئاسي مصري من قادة ألمانيا وفرنسا حثّ صندوق النقد على تخفيف شروطه، أعلنت إدارة الصندوق في أكتوبر/تشرين الأول الماضي تقديم قرض لمصر بمقدار 3 مليارات دولار أمريكي فقط تُدفع على شكل أقساط نصف سنوية على مدى 46 شهراً.
اعتاد صندوق النقد في قروضه الممنوحة لمصر على الإشادة بالسياسات الحكومية، والإشارة إلى نجاحها في تحقيق استقرار الاقتصاد الكلي وتعافي النمو والتوظيف وتخفيض نسبة البطالة، وهي عبارات مطاطة أخفت دور الصندوق في تعميق أزمة الاقتصاد المصري.
لكن تلك اللغة تغيرت مؤخراً، حيث تطرقت حيثيات القرض الجديد التي نشرها الصندوق في يناير/كانون الثاني 2023 في 107 صفحات إلى اقتصاد الجيش المصري بشكل شبه صريح للمرة الأولى، حيث شملت شروط تسليم دفعات القرض إلغاء الحكومة المعاملة التفضيلية للشركات المملوكة للدولة بما فيها شركات الجيش، وتقديم حسابات تلك الشركات إلى وزارة المالية على أساس نصف سنوي مع إتاحة الاطلاع عليها.
استجابت الحكومة المصرية نظرياً لشروط الصندوق في ظل صعوبة حصولها على قروض جديدة من الخارج، وزيادة مخاطر الإفلاس، وخروج نحو 20 مليار دولار من مصر باتجاه سوق الفائدة الأمريكي، مع رفع البنك الفيدرالي لمعدلات الفائدة تدريجياً، فسمحت بالتحول الدائم إلى نظام سعر صرف مرن حتى وصل سعر الجنيه أمام الدولار إلى 30 جنيهاً، كما أعلن مصطفى مدبولي رئيس مجلس الوزراء في 8 فبراير/شباط الجاري أسماء 32 شركة كبرى تملكها الدولة وتنوي طرحها في البورصة أو بيعها لمستثمرين استراتيجيين، ومن بينها شركتا "وطنية لبيع وتوزيع المنتجات البترولية" و"صافي لتعبئة المياه" التابعتان لجهاز مشروعات الخدمة الوطنية بالقوات المسلحة.
ورغم حديث السيسي في عام 2019 عن أن النشاط الاقتصادي للجيش لا يشكل سوى 2-3٪ من الناتج المحلي الإجمالي لمصر، إلا أن تقديرات أخرى ترفع النسبة إلى 40 % وصولاً إلى 60% في ظل عدم نشر شركات الجيش لسجلاتها المالية، وصعوبة تقدير حجم أنشطتها في الاقتصاد، وفي المحصلة دفعت تلك الأوضاع الباحثين في الاقتصاد السياسي للجيش المصري مثل يزيد صايغ وستيفان رول وروبرت سبرنجبورج إلى المطالبة بضرورة تطرق صندوق النقد لدور الجيش المصري في الاقتصاد، ووقف نمط القروض التي تزيد من عبء الديون وعبء الفائدة، دون توفير الزخم الضروري لإحداث تنمية اقتصادية واجتماعية وسياسية حقيقية في مصر.
والسؤال الأهم المطروح هو: هل ستشرع الدولة بالفعل في تفكيك أنشطة الجيش الاقتصادية عبر خصخصة الشركات العسكرية العاملة في القطاع المدني؟ وذلك في ظل استحضار تصريح مساعد وزير الدفاع الأسبق للشؤون المالية اللواء محمود نصر في عام 2012 لصحيفة الشروق بأن (العَرق الذي بنيناه في 30 سنة لن نترك أحداً يدمره، ولن نسمح لأحد أياً كان بالاقتراب من مشروعات القوات المسلحة).
امتيازات الجيش
عقب عقد الرئيس السادات اتفاقية سلام مع إسرائيل في عام 1978، تأسس في العام التالي جهاز مشروعات الخدمة الوطنية بالقوات المسلحة، ثم تأسس في عام 1981 جهازا الخدمات العامة ومشروعات الأراضي التابعان للقوات المسلحة، وشرع الجيش بالانخراط في مجالات الإنتاج المدنية بحجة تحقيق الاكتفاء الذاتي لقواته من الألبان واللحوم وغيرها من الأغذية، وبيع الفائض في الأسواق المدنية لتقليل معدلات الاستيراد، وكسر الاحتكار.
لكن بمرور الوقت، وبالأخص منذ عام 2013 اتسع نشاط شركات الجيش ليشمل أغلب مجالات النشاط الاقتصادي المدني بداية من منح رخص التعدين إلى إنتاج الصلب والإسمنت وتوفير الإمدادات الطبية، وتنوعت شركات المؤسسة العسكرية ما بين شركات وهيئات تتبع وزارة الدفاع مباشرة مثل جهاز الخدمات العامة الذي يشرف على مجمعات تسوق "صن"، والهيئة الهندسية، وجهاز مشروعات الخدمة الوطنية بالقوات المسلحة الذي يشرف على نحو 35 شركة، فضلاً عن نحو 20 شركة تتبع وزارة الإنتاج الحربي، وقرابة 12 شركة ومصنعاً تتبع الهيئة العربية للتصنيع.
تقتطع شركات الجيش من حصة القطاع الخاص في الاقتصاد، وتتمتع بامتيازات جمة من قبيل الحق القانوني في استعمال الأراضي المصنفة عسكرية كحصة في المشاريع التجارية المشتركة، وصلاحية إصدار التراخيص لاستخدام أراضي الدولة، والأولوية في التعاقد مع الوزارات والمؤسسات الحكومية لبيع منتجاتها أو تنفيذ المشاريع، فعلى سبيل المثال فوضت المسؤولية الخاصة بتدابير الشراء لمستلزمات تنفيذ مبادرة "حياة كريمة" الرئاسية المعنية بتطوير البنية التحتية في الريف إلى وزارة الإنتاج الحربي والهيئة العربية للتصنيع.
ومن بين الامتيازات أيضاً التقاضي في النزاعات مع الشركات المدنية ورجال الأعمال أمام القضاء العسكري فقط، والاستئثار بمجالات معينة في الاستيراد والتصدير، وعدم وجود تدقيق خارجي من أي مؤسسة مدنية رقابية في الدولة، ورخص تكلفة التشغيل في ظل الاعتماد على عمالة من الجنود، والإعفاء من ضريبة الدخل والضرائب العقارية والرسوم الجمركية وغيرها من أنواع الضرائب، وهو ما دفع رجل الأعمال البارز نجيب ساويرس للتصريح قائلاً: (الشركات المملوكة للحكومة أو التابعة للجيش لا تدفع ضرائب أو جمارك، وبالتالي تصبح المنافسة بين القطاعين الحكومي والخاص غير عادلة منذ البداية.. إن المستثمرين الأجانب خائفون بعض الشيء. أنا نفسي لا أخوض عروضاً لمشاريع عندما أرى شركات حكومية، إذ إن ساحة اللعب لا تكون متكافئة).
نماذج من قطاعات الأغذية والإسمنت والمقاولات
انخراط الجيش في الاقتصاد على حساب القطاع الخاص، يبرز في نموذج السيطرة على تصنيع الوجبات المدرسية في العديد من المحافظات، فمنذ عام 2015 تولت شركة النصر للخدمات (كوين سرفيس) التابعة لجهاز الخدمة الوطنية بالقوات المسلحة توريد التغذية للطلاب في المدارس والمعاهد الأزهرية بالأمر المباشر.
وبدلاً من الاقتصار في التوريد على شركات القطاع الخاص، افتتح السيسي في عام 2021 شركة "سايلو فودز" للصناعات الغذائية في مدينة السادات بمحافظة المنوفية، وهي شركة تابعة للجيش، ترأس مجلس إدارتها آنذاك اللواء أركان حرب تيمور موسى، ثم افتتح في فبراير/شباط 2023 المرحلة الثانية من مصانع "سايلو فودز" التي أصبحت تنتج وحدها 45% من حجم المكرونة في السوق المصري سنوياً، فضلاً عن تصنيع وتوريد الوجبات المدرسية لما يزيد عن 13 مليون طالب. وهو ما حرم شركات القطاع الخاص من تلك الحصة السوقية الضخمة، وأخرجها خارج دائرة المنافسة نظراً للامتيازات المذكورة سابقاً التي تحصل عليها شركات الجيش.
كذلك ساهم انخراط شركات الجيش في مشاريع اقتصادية دون تنسيق مع الجهات الحكومية المختصة إلى حدوث إهدار للمال العام، وكوارث في السوق المحلي.
فعلى سبيل المثال افتتح جهاز مشروعات الخدمة الوطنية مجمع مصانع إسمنت بني سويف في عام 2018 بطاقة إنتاج تبلغ 11 مليون طن سنوياً، ليتجاوز بذلك حجم الإنتاج السنوي للإسمنت في مصر 85 مليون طن من بينها 19.5 مليون طن تنتجهم شركات الجيش وحدها، بينما يبلغ الاستهلاك نحو 50 مليون طن فقط، في حين لا يتجاوز حجم التصدير 1.5% من الإنتاج نظراً لارتفاع سعر الإسمنت المصري، وبالتالي كانت المحصلة الإضرار بشركات الإسمنت التي عانت من خسائر فادحة مثل شركة إسمنت السويس التي تراجعت من المركز الأول في السوق لتسجل صافي خسارة بمقدار 1.18 مليار جنيه خلال عام 2019.
وفيما يخص قطاع المقاولات، فقد سيطر الجيش على تنفيذ المشاريع القومية من طرق وكباري، فقد كشف اللواء أركان حرب إيهاب الفار رئيس الهيئة الهندسية للقوات المسلحة في عام 2021 أنه منذ 30 يونيو/حزيران 2014 شرعت الهيئة في تنفيذ 418 مشروعاً بإجمالي تكلفة 486 مليار جنيه.
ومن اللافت أنه في قطاع مقاولات الطرق والكباري مثل غيره من القطاعات عادة ما اقتصر دور شركات الجيش على لعب دور الوسيط بين الدولة والقطاع الخاص، فالجيش يأخذ عقوداً بالأمر المباشر من المؤسسات الحكومية، ثم يوكل تنفيذها لشركات مدنية من الباطن بمقابل مالي أقل، وهو ما يحرم القطاع الخاص من إيرادات يمكن أن تساهم في تطويره وزيادة ربحيته، بل ويؤدي في كثير من الأحيان لإفلاس الشركات المدنية في ظل تحولها إلى الخسارة مع الانخفاض المتكرر لقيمة الجنيه المصري، وهو ما يوضحه إذاعة التلفزيون الرسمي مقطعاً لحديث رئيس الدولة مع مقاولين ينفذون مشاريع طرق بقيمة 9 مليارات جنيه تحت إشراف الجيش مقابل تلقي 25% فقط من مستحقاتهم لدى الحكومة عند الاستلام، وتسلم الباقي بعد فترة قد تصل إلى سنة.
استفادة الجيش من الديون الخارجية
يشير ستيفان رول رئيس قسم إفريقيا والشرق الأوسط في المعهد الألماني للشؤون الدولية والأمنية، في دراسة نشرها في نهاية ديسمبر/كانون الأول 2022 بعنوان "الديون الخارجية وتعزيز سلطة النظام في مصر" إلى أن الجيش خلال عهد السيسي كان هو المستفيد الأول من التوسع في سياسة الاستدانة من الخارج، فبفضل القروض الأجنبية حقق الجيش 3 مكتسبات:
أولاً: تفادي الجيش لجوء الحكومة إلى أصول القوات المسلحة لتمويل العجز في الميزانية، فعقب ثورة يناير 2011 عزز الجيش احتياطي النقد الأجنبي لدى البنك المركزي المصري بمبلغ قدره مليار دولار، وهو ما لم يتكرر لاحقاً، حيث تم الاعتماد على القروض الأجنبية.
ثانياً: استفادت شركات الجيش من تنفيذها عقود مشاريع البنية التحتية المعتمدة على القروض، مثل مشروع بناء العاصمة الإدارية الجديدة الذي تقدر تكلفته بنحو 58 مليار دولار، وبناء الكباري والطرق تحت إشراف الهيئة الهندسية للقوات المسلحة. مع العلم أن أرباح شركات الجيش لا تُنقل إلى وزارة المالية، إنما يحتفظ بها في صناديقه الخاصة، كما يتمتع بالحق في استثمار أمواله في بنوك خارج مصر، بينما لا يُسمح للهيئات الحكومية المدنية سوى بالاحتفاظ بأموالها في حسابات بالبنك المركزي المصري.
ثالثاً: ساهمت القروض في عملية إعادة تسليح الجيش، فوفقاً لبيانات معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام، احتلت مصر بين عامي 2017 و2021 المرتبة الثالثة بين أكبر مستوردي الأسلحة في العالم مقارنة بالمرتبة 11 بين عامي 2012 و2016. فعلى سبيل المثال اشترت مصر صفقة طائرات رافال فرنسية في عام 2021 عبر قرض من بنوك فرنسية بقيمة 3.95 مليار يورو تسدد على 10 سنوات. والسؤال هنا يرتبط بمدى أولوية تلك الصفقات العسكرية مقارنة بالإنفاق على التعليم والصحة.
هل سيقلص الجيش حضوره الاقتصادي؟
خلال التفاوض مع صندوق النقد على القرض الأخير، أعلنت رئاسة الجمهورية في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي عن قرب طرح شركتي "وطنية لبيع وتوزيع المنتجات البترولية" و"صافي لتعبئة المياه" التابعتين لجهاز مشروعات الخدمة الوطنية بالقوات المسلحة، في البورصة، وهو إعلان تكرر عدة مرات منذ عام 2019 دون تطبيقه، لكن يبدو أن الضغوط الدولية تدفع باتجاه تحويل الوعد الرئاسي إلى واقع، حيث ذكر رئيس الوزراء مدبولي في فبراير/شباط 2023 الشركتين ضمن 32 شركة تنوي الحكومة بيعها.
الخلاصة أن تواصل سياسات الدولة الاقتصادية القائمة على الاستدانة، واستمرار توسع دور الجيش في الاقتصاد على حساب القطاع الخاص يقود مصر نحو الإفلاس، ولكن في الوقت ذاته ليس من السهل أن يتخلى الجيش بشكل موسع عن شركاته تدريجياً ليطرحها في البورصة أو ليبيعها لمستثمرين أجانب ومحليين، إذ سيضعف هذا من دوره في المشهد العام، ويهدم ما بذله خلال عقود.
ويترجح في ظل الضغوط الإقليمية من دول الخليج، والدولية عبر بوابة صندوق النقد، أن يلجأ الجيش إلى طرح عدد محدود من شركاته في البورصة كي يظهر استجابة شكلية لطلبات صندوق النقد، ويجذب مستثمرين أجانب، مع الاعتماد على شبكات واجهة من رجال الأعمال والضباط المتقاعدين في إدارة بعض الشركات الأخرى ليلتف بذلك على الضغوط، ويحافظ على نفوذه.
ولكن لا يتوقع أن ينجح ذلك النهج في حل الأزمة الاقتصادية المتفاقمة والمتكررة، حيث يتوقع أن تدفع في النهاية باتجاه إصلاحات سياسية تعيد تحديد دور الجيش، وتغير أطروحة أنه جيش لديه دولة ليصبح الوضع طبيعياً بأن تكون مصر دولة لها جيش لا علاقة له بالنشاطات الاقتصادية ولا الحياة السياسية، فذلك هو الحل لتجنب مصير الإفلاس، وترشيد السياسات الحكومية عبر إخضاعها لنقاش مجتمعي ورقابة حقيقية تنشد الصالح العام للمواطنين.