ظلت إفريقيا لعقود "أثيرة" الشركات الأوروبية والغربية، في كل شيء تقريباً، من النفط والسيارات، وحتى صناعة الأشياء البسيطة، لكن في السنوات الأخيرة دخلت المنطقة شركات صينية وتركية متخصصة في مجال الإعمار والمقاولات، وبدت المنافسة بينها أقوى.
في عام 2015، فازت الشركة الصينية المملوكة للدولة China Harbour Engineering Company، بعقد بناء خط سكة حديد بطول 273 كيلومتراً، بقيمة 2.2 مليار دولار، يمتد شرقاً من مدينة كمبالا الأوغندية إلى مدينة مالابا الكينية.
ولكن بعد ثماني سنوات من غياب أي تقدم في المشروع، وتحديداً في يناير/كانون الثاني الماضي، منحت الحكومة الأوغندية المشروع لشركة يابي ميركيزي Yapi Merkezi التركية، بحسب تقرير لموقع Middle East Eye البريطاني.
وعام 2019، فازت شركة Summa التركية، متعددة الجنسيات، على شركات صينية في تأمين عقود لبناء مبنى البرلمان ومركز تسوق في غينيا الاستوائية، وكذلك مركز مؤتمرات في رواندا. وفازت يابي ميركيزي بمناقصة في إثيوبيا ضد شركة صينية عام 2017، لبناء خط قطار حديث في البلاد. وعام 2021، تفوقت الشركة على أخرى صينية في مناقصة في تنزانيا على مشروع سكة حديد بقيمة 900 مليون دولار.
لكن هذه النجاحات التي حققتها الشركات التركية تُظهر أنه في حين أن تركيا قد لا تكون منافساً كامل القوة للصين في إفريقيا، فهي قادرة على اللحاق بها.
خطة عمل إفريقيا
بدأت تركيا دخول الأسواق الإفريقية منذ عقود، وتحديداً عام 1998، بخطة عمل إفريقيا Africa Action Plan، التي كانت تهدف إلى تعزيز العلاقات الثنائية على مستوى القارة. لكن تركيا لم تبدأ فعلياً في التركيز على القارة عن طريق استثمارات اقتصادية ودبلوماسية واسعة النطاق إلا في عهد الرئيس رجب طيب أردوغان.
ولجأت تركيا، التي وصفها الاتحاد الإفريقي بـ"الشريك الاستراتيجي" عام 2008، إلى ورقة الإمبراطورية العثمانية، التي على عكس القوى الغربية ليس لها تاريخ استعماري هناك، ولم تنهب موارد القارة، بل إن أردوغان وصف تركيا بدولة "أفرو-أوراسية".
ومتابعة لبرنامج خطة العمل، أطلقت تركيا برنامجين مشابهين: افتتاح إفريقيا Africa Opening عام 2008، والشراكة الإفريقية Africa Partnership عام 2013. وأصبح حضور البلاد في القارة الآن أكثر قوة من أي وقت مضى.
وارتفع عدد السفارات التركية من 12 فقط عام 2002 إلى 43 سفارة، وتطير الخطوط الجوية التركية الآن إلى 61 بقعة على مستوى القارة، وافتتحت وكالة التعاون والتنسيق التركية 22 مكتباً، ولدى مؤسسة معارف 175 مدرسة في 26 دولة إفريقية.
وحذت شركات البناء التركية حذوهما، فهي الآن تنفذ 17.8% من مشاريع البناء الدولية في إفريقيا، وفقاً للأرقام التي نشرتها جمعية المقاولين التركية عام 2021، والتي ذكرت أن الحجم الإجمالي للمشاريع التي تنفذها شركات البناء التركية تجاوز الآن 77 مليار دولار.
وارتفع حجم تجارة تركيا مع الدول الإفريقية من 5.4 مليار دولار عام 2003 إلى 34.5 مليار دولار عام 2021.
وتعمل شركات المقاولات التركية على زيادة حصتها في السوق الإفريقية، إذ تعمل شركة يابي مركيزي، ومقرها إسطنبول، على مشاريع في الجزائر وإثيوبيا والمغرب والسنغال والسودان وتنزانيا. وفي الوقت نفسه، شيدت شركة Summa Construction ملعب داكار أرينا، ومركز المؤتمرات الدولي في داكار، ومطار بليز دياني الدولي في السنغال، ومطار نيامي في النيجر.
وشيدت مجموعة من الشركات التركية منازل وملاعب ومراكز مؤتمرات ومستشفيات ومراكز تسوق وسفارات على مستوى القارة.
الهيمنة الصينية
على أن مكاسب تركيا في إفريقيا، رغم أنها مبهرة، تتضاءل أمام مكاسب الصين، التي تعد أكبر مستثمر في القارة وأكبر شريك تجاري لها.
إذ ارتفع الاستثمار الأجنبي المباشر السنوي للصين في القارة من 490 مليون دولار عام 2003 إلى 43.4 مليار دولار عام 2020. ووصل حجم التجارة بين البلدين عام 2021 إلى 254 مليار دولار.
وتوفر الصين الآن 16% من إجمالي واردات الصناعة لإفريقيا.
ويرى فيديريكو دونيلي، الأستاذ في جامعة تريست الإيطالية، ومؤلف كتاب Turkey in Africa، أن الحديث عن منافسة تركيا للصين في القارة "ضرب من المبالغة".
وقال لموقع Middle East Eye: "تركيا قوة وسطى صاعدة في النظام الدولي متعدد الأقطاب. وإفريقيا، من هذا المنظور، يمكن اعتبارها نموذجاً مصغراً للصراعات العالمية. ومع ذلك لا يزال من السابق لأوانه اعتبار تركيا مؤثراً حقيقياً في إفريقيا، أو قادرة على منافسة الصين".
ويتفق محمد أوزكان، الأستاذ في جامعة الدفاع الوطني في إسطنبول، مع أن تركيا لم تصل بعد إلى وضع يمكّنها من التنافس مع الصين.
وقال أوزكان: "أولاً، موارد الصين الاقتصادية أكبر بكثير من موارد تركيا. وثانياً، تتبع أنقرة سياسة عدم الدخول في منافسة مع أي جهات فاعلة أخرى في المنطقة. وترى أنقرة أن إفريقيا تساعد الشركات التركية في تحقيق أرباح، وفي الوقت نفسه تُسهم في تطوير العلاقات الدبلوماسية والإنسانية".
ومع ذلك، يرى أوزكان أن "تاريخ تركيا النظيف" في القارة يجعلها شريكاً تجارياً محبذاً، بالنظر إلى المخاوف المحلية من أن العلاقة مع الصين- بقروضها واتفاقياتها طويلة الأجل على الموارد الطبيعية- قد تتحول إلى استعمار جديد.
وقال أوزكان لموقع Middle East Eye: "الروابط الثقافية والدينية مع تركيا، فضلاً عن تأكيدها على التعاون المباشر والمتساوي، تمنح أنقرة موقفاً أكثر موثوقية، وتبشر بوضع يربح فيه الجميع".
على أن هانا رايدر، الرئيس التنفيذي لشركة Development Reimagined ومقرها بكين، والباحثة في مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية، لا تعتبر هذه النقطة "جديرة بالاهتمام"، لأن الصين "تقدم الحجة نفسها لتأكيد اختلافها عن المستثمرين الغربيين".
وترى هانا أن على البلدان الإفريقية تقييم كل علاقة على أساس الجدارة، ومقدار ما تُسهم به في خطط التنمية الإفريقية.
وقالت إن "الحكومتين الصينية والتركية تتخذان خطوات مهمة، تضمن توافق مشاريعهما في إفريقيا مع خطط التنمية الإفريقية".
ملء فراغ
يقول دونيلي إن الشركات التركية تفضل بشكل عام التعاون مع الموردين المحليين، وتوظيف المواطنين المحليين، في إطار سياسة تركيا التي تشجع على تبادل الخبرات وتقديم الدورات التدريبية.
فمثلاً، أثناء العمل في مشروع سكة حديد في إثيوبيا، اعتمدت شركة يابي ميركيزي التركية، اللغة الإنجليزية لغة العمل- على عكس مشروع صيني مماثل في البلاد- ودربت 40 إثيوبياً على العمل في السكك الحديدية.
وفضلاً عن ذلك، أفسحت سياسة الصين الصارمة مع كوفيد-19 وما أعقبها من اضطرابات في سلسلة التوريد، المجال أمام الشركات التركية، وفقاً لما يراه دونيلي.
وقال: "رغم أن الصين بلا شك أكبر لاعب في إفريقيا، أجبرتها الجائحة على إعادة النظر في خططها الاستثمارية في إفريقيا".
وأضاف: "ونتيجة لذلك، نشأ فراغ، خاصةً في قطاع البنية التحتية، وتركيا تحاول ملأه".
على أن هانا ترى أنه لا وجود لهذا الفراغ، بل توجد منافسة على مشاريع معينة، كما في أوغندا، لكنها لم تنكر أن الشركات الصينية واجهت تحديات بسبب الجائحة.
إذ تراجعت التزامات القروض الصينية للدول الأجنبية إلى 3.7 مليار دولار عام 2021 من 35.6 مليار دولار.
وهذا الانخفاض يعني تراجع حجم المشاريع في إفريقيا، في وقت تواجه فيه بكين مشاكل في استرداد أموالها من بعض البلدان الإفريقية، مثل زامبيا، التي لم تتمكن من دفع قسط في نوفمبر/تشرين الثاني، من ديونها البالغة 5.5 مليار دولار للصين.
القوة المالية
في هذه المرحلة، تتمتع تركيا، بحسب دونيلي، بميزتين: قربها من القارة وتفوقها التقني، لا سيما في مجال البناء.
فشركات المقاولات التركية تتمتع بسمعة طيبة على المستوى الدولي، و40 شركة من أكبر 250 شركة مقاولات في العالم تركية.
ومثلاً، في اجتماع بين رجال أعمال أنغوليين وأتراك، قال خبير استثمار أنغولي إن "جزءاً كبيراً من البنية التحتية التي بناها الصينيون، مثل الطرق، تآكلت بسرعة" و"الشركات التركية الأعلى جودة لديها فرصة عمل".
لكن ما يحافظ على هيمنة الصين قوتها المالية التي لا تستطيع تركيا منافستها.
ورغم أن أردوغان حقق نمواً اقتصادياً لفترة، فالسياسات الاقتصادية غير التقليدية في السنوات الأخيرة أوقعت الحكومة في صراع مع التضخم، الذي استنفد مدخرات الناس، وتسبب في انخفاض قيمة الأجور. والانتخابات الرئاسية التي ستُجرى في مايو/أيار، قد تبعد التركيز- والإنفاق- عن القارة.
يقول محمد إردال إرين، رئيس رابطة المقاولين الأتراك: "الغزو الروسي لأوكرانيا، وانخفاض السيولة على نطاق عالمي، وتقلص قدرة بنك Eximbank التركي على تمويل المشاريع الكبيرة، يجعل من الصعب على الشركات التركية غزو أسواق جديدة".
وأضاف: "وعلى الجانب الآخر، فالشركات الصينية هي في حقيقة الأمر شركات حكومية، ولذلك فإن استثماراتها تتلقى دعماً كبيراً من حكومتها".
وقال: "نقطة ضعفنا الرئيسية في مواجهة الصين هي غياب القوة المالية".