جاء الصاروخ الذي أُطلق من قطاع غزة باتجاه سديروت مساء الأربعاء 1 فبراير/شباط 2023 ليذكِّر إسرائيل مرة أخرى بأن التصعيد الذي بدأ في القدس والضفة الغربية يحمل في الوقت نفسه مخاطرة كبيرة بتأجيج الاضطراب وجرِّ قطاع غزة إلى المواجهة. والأمر لا يتعلق هذه المرة بالأحداث الجارية في الخارج، وإنما بالوضع داخل السجون الإسرائيلية، كما يقول تقرير لصحيفة Haaretz الإسرائيلية.
يأتي ذلك فيما تموج المنظمات الفلسطينية في قطاع غزة بالغضب الشديد على وقع الإجراءات التي اتخذتها مصلحة السجون الإسرائيلية تنفيذاً لتعليمات وزير الأمن القومي، إيتمار بن غفير، وما أسفرت عنه من تردٍّ لأحوال الأسرى الأمنيين في إسرائيل. وأحدث هذه الإجراءات هو القرار الذي سُرب من مكتب الوزير إلى صحيفة "يسرائيل هيوم" صباح الأربعاء 1 فبراير/شباط، ويقضي بإغلاق المخابز التي تقدم الخبز الطازج للأسرى الفلسطينيين في السجون.
الأحوال في سجون الاحتلال شديدة الاضطراب
سارع بن غفير نفسه إلى الزعم بأن إطلاق الصاروخ من غزة جاء رداً على أفعاله، إلا أن ذلك لن يثنيه، بحسب زعمه، عن التحرك "لإنهاء تسهيلات المعسكر الصيفي" التي يعيش فيها الأسرى الفلسطينيون. ومع ذلك، قال مسؤولون عسكريون إسرائيليون مساء الأربعاء إنهم لا يستطيعون الجزم بأن إطلاق الصاروخ كان رداً مباشراً على مشكلة منع الخبز، لكنهم أكدوا أن الأحوال في السجون شديدة الاضطراب، وهو ما تؤكده المصادر الفلسطينية أيضاً، لا سيما في ظل التضييق الذي تتعرض له الأسيرات الفلسطينيات في سجن الدامون.
من الواضح أن سير الأمور لم يوافق مُراد بن غفير هذا الأسبوع، فقد اضطر مساء الجمعة 27 يناير/كانون الثاني إلى مغادرة طاولة طعامه للرد على أسئلة ناخبيه الحرجة في موقع الهجوم الذي شهده حي النبي يعقوب بالقدس الشرقية المحتلة، وأسفر عن مقتل 7 إسرائيليين. وهو يتخبط منذ ذلك الحين كمن لدغه ثعبان.
وعلى إثر الضغوط الواقعة عليه والرغبة في استعادة صورته الحازمة المناهضة للإرهاب، انهال وزير الأمن القومي بن غفير على مجلس الوزراء الأمني (الكابينت) بمطالب الإجراءات العقابية، وحاول إلقاء اللوم على المدعية العامة، بالزعم كذباً أنها تمنعه من تدمير منازل منفذي العمليات ضد الإسرائيليين.
وأعلن بن غفير عن مبادرة لتسهيل إجراءات الحصول على تراخيص حمل السلاح، على الرغم من أن الدوائر المهنية بالشرطة ترى أن هذه التراخيص يجب ألا تصدر إلا لمن تلقوا تدريبات مناسبة على القتال وإطلاق النار.
تقول هآرتس، اضطر جناح "الأكثر خبرة" في مجلس الوزراء الداخلي، بقيادة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو ووزير "الدفاع" يوآف غالانت، إلى كبح هذا الطوفان من المقترحات الشعبوية، لا سيما أن قوات الأمن كانت منشغلة بالسعي إلى إجهاض موجة متوقعة من الهجمات المقلدة في مهدها. وقبلت الحكومة بضعة مقترحات، منها إغلاق منازل منفذي العمليات في القدس الشرقية وهدمها، والسماح بفصل موظفي القطاع العام الذي صرحوا بتأييدهم لهذه الهجمات.
وبحسب هآرتس، فوجئ مسؤولون سابقون بالحكومة بعض الشيء باستجابة ممثلي الجيش الإسرائيلي وجهاز الأمن العام (الشاباك) للمطالب المقدمة باتخاذ بعض الإجراءات التي كانوا يرفضونها في الماضي. وقد يكون السبب في ذلك هو اتفاق بين نتنياهو وغالانت على إلقاء بعض العظم للمتشددين لينشغلوا به، ويتركوهم لشأنهم.
هل يورط بن غفير إسرائيل بحرب ليست موجودة على أجندتها؟
لكن يبدو أن بن غفير لن يكتفي بذلك كما تقول هآرتس، فبعد أن فشل اقتحامه الأول للحرم القدسي الشريف في إشعال النار بالمنطقة (وإن تسبب في تأجيل زيارة رئيس الوزراء الإسرائيلي وزوجته إلى الإمارات)، عاد إلى مسألة التضييق على الأسرى الفلسطينيين، والتي سبق له التلويح بها في حملته الانتخابية. ولطالما أثارت بعض الحقوق التي يحصل عليها الأسرى غضب اليمين الفلسطيني، سواء كانت الدراسة الأكاديمية بالمراسلة (التي أُلغيت بعد ذلك) أم أنواع الطعام الذي يحصلون عليه.
ومع ذلك، فإن قادة جيش الاحتلال يدركون جيداً الحساسية الفلسطينية الكبيرة تجاه قضية الأسرى، فهي إحدى القضايا التي تجتمع عليها مختلف الفصائل الفلسطينية.
في سياق مشابه، كان نتنياهو قد عيَّن نفتالي بينيت وزيراً للدفاع في أواخر عام 2019. وفي أشهر بينيت الأولى في المنصب، وقد غلبت عليه حماسة الآلة العسكرية الموضوعة تحت مسؤوليته، فسارع إلى الإعلان عن سياسة أشد صرامة تتضمن احتجاز جثامين منفذي الهجمات الفلسطينيين، والغاية الظاهرة من ذلك هي الضغط على حماس لاستئناف المفاوضات بشأن الأسرى الإسرائيليين لديها وتسليم جثث الجنود الإسرائيليين المحتجزة في غزة.
بعد بضعة أشهر، وقع الجيش الإسرائيلي في موقف محرج أثناء محاولة لتنفيذ تعليمات بينيت على حدود غزة، فقد سحبت جرافة إسرائيلية جثمان فلسطيني، وأظهر مقطع فيديو للحادث صور تدنيس الجثمان. وردَّت فصائل المقاومة بإطلاق 20 صاروخاً على إسرائيل، فتلقت الحكومة عبرتها من الأمر، وتوقف بينيت عن حث الجيش على انتزاع الجثامين، كما تقول هآرتس.
نتنياهو حاصر نفسه بابن غفير وأنصاره
مع ذلك، فإن بينيت، وإن انساق أحياناً إلى قرارات شعبوية، فإن الغالب عليه أنه كان سياسياً مسؤولاً ورجل دولة. أما بن غفير، فهو شخص شعبوي ويعتاش على إثارة الجدل بمثل هذه الأمور والتحركات، لأنه من دونها ليس لديه شيء يقدمه في النشاط العام، كما تصفه هآرتس.
أما نتنياهو، فهو كالعادة يحافظ على مسافة بين خطابه الرسمي وأفعاله. وقد توخى الحذر حتى الآن في استفزازه للفلسطينيين، فقد كان اقتحام بن غفير للحرم القدسي هادئاً بناء على طلب نتنياهو، وذهب رئيس الوزراء إلى أبعد من ذلك بزيارته عمان لاسترضاء العاهل الأردني بشأن الاضطراب الجاري في المسجد الأقصى، على الرغم من التوتر القائم بينهما. وبادر نتنياهو إلى إخلاء بؤرة "أور حاييم" الاستيطانية على الرغم من المعارضة الصاخبة لليمين المتشدد.
على الرغم من ذلك، فإن نتنياهو من استجلب هذه المشكلات على نفسه، بتأسيس ائتلافه على التحالف مع بن غفير وشريكه بتسلئيل سموتريتش. والحال أنه كان يحاول الهروب من القضايا التي يحاكم فيها، فوقع في فخ التحالف مع قوى اليمين المتشدد. لكن التصعيد في المناطق المحتلة قد تطال أضراره الجميع، وكذلك إجراءات (الإصلاح) القضائي المزمعة لهذه الحكومة.