يبدو أن مقولة "المصائب لا تأتي فرادى" باتت تنطبق على أوروبا، حيث يعاني الأوروبيون على جميع المستويات من الارتفاع الجنوني لفواتير الغاز والكهرباء والمياه وأسعار السلع الرئيسية، فماذا عن نقص الأدوية؟
مجلة Politico الأمريكية تناولت هذه الأزمة الحادة في تقرير عنوانه "أوروبا تعاني من نقص في الأدوية"، إذ تُبلِغ بلدان الاتحاد الأوروبي منذ أواخر عام 2022 عن مشكلات جدية فيما يتعلَّق بمحاولة توفير بعض الأدوية المهمة، وتعاني الكثير منها الآن من نقصٍ في هذه الأدوية.
فمع استمرار المستويات القياسية لارتفاع أسعار الغاز ومصادر الطاقة الأخرى، تتأجج نيران تكاليف إنتاج وشراء الأغذية والأدوية ومواد البناء والسلع الاستهلاكية الأخرى، بشكل يثير الخوف والهلع حول العالم. وبفعل ذلك وصل التضخم في غالبية دول العالم إلى مستويات مخيفة، تراوحت بين 8 و10% خلال الأشهر الستة الماضية.
ففي بلد مثل ألمانيا، كان معروفاً باستقرار الأسعار والحفاظ على معدلات تضخم سنوية تقل عن 3%، أدت الحرب في أوكرانيا، التي تصفها روسيا بأنها "عملية عسكرية خاصة" بينما يصفها الغرب بأنها "غزو"، إلى تآكل سريع في القوة الشرائية، وتدهور مستوى معيشة أصحاب الدخل المحدود والمتوسط الذين يشكلون غالبية المجتمع، بحسب تقرير لموقع دويتش فيله.
أزمة التضخم أدت أيضاً إلى توقف الإنتاج وموجة من الإفلاس طالت الشركات في مختلف القطاعات. ففي ألمانيا أظهرت التقارير مؤخراً أن 60% من السكان بدأوا باللجوء إلى ما لديهم من احتياطيات لتوفير احتياجاتهم الشهرية. كما زاد عدد الشركات المفلسة، خلال أغسطس/آب الماضي فقط، بنسبة زادت على 25% مقارنة بمستوى الفترة نفسها من العام الماضي.
ما مدى سوء مشكلة نقص الأدوية؟
حين تشعر ببعض التوعُّك، فإنَّ آخر ما تودُّ القيام به هو التجول من صيدلية إلى أخرى، بحثاً عن أدوية أساسية مثل شراب السعال والمضادات الحيوية، لكنَّ الكثيرين في أرجاء أوروبا- التي تعاني من موسم قاسٍ من عدوى النوروفيروس هذا الشتاء- مضطرون لفعل ذلك.
وفي دراسة أُجريَت على مجموعات مُمثِّلة للصيدليات في 29 بلداً أوروبياً، بما في ذلك أعضاء بالاتحاد الأوروبي وكوسوفو والنرويج ومقدونيا الشمالية، سجَّل نحو ربع البلدان المشمولة بالدراسة وجود نقص في إمدادات أكثر من 600 صنف دواء، وسجَّلت 20% من البلدان نقصاً في 200 إلى 300 صنف دواء. وقالت ثلاثة أرباع البلدان إنَّ حالات النقص أسوأ في هذا الشتاء من الشتاء الماضي. وقالت مجموعات في أربعة بلدان إنَّ حالات نقص الأدوية تلك ارتبطت بحدوث وفيات.
تدعم البيانات الصادرة عن الجهات التنظيمية هذه الصورة، إذ أفادت السلطات البلجيكية بوجود نقص في إمدادات 300 صنف دواء تقريباً. ويبلغ ذلك الرقم في ألمانيا 408 صنف دواءً، في حين لا يمكن شراء أكثر من 600 صنف دواء من الصيدليات في النمسا في الوقت الراهن. وتطول القائمة في إيطاليا أكثر، في ظل امتداد أزمة النقص لأكثر من 3000 صنف دواء، ولو أنَّ الكثير منها تمثل وصفات مختلفة للدواء نفسه.
ما الأدوية المتأثِّرة بالنقص؟
هنالك نقص في إمدادات المضادات الحيوية، لاسيما أموكسيسيلين (Amoxicillin)، الذي يُستخدَم لعلاج عدوى الجهاز التنفسي. وتعاني أصناف أخرى من الأدوية، بما في ذلك شراب السعال، والباراسيتامول الخاص بالأطفال، وأدوية ضغط الدم، من النقص أيضاً.
لماذا يحدث هذا؟ يحدث هذا نتيجة مزيج من ارتفاع الطلب ونقص المعروض. إذ بدأت أصناف العدوى الموسمية- وعلى رأسها الإنفلونزا والفيروس المخلوي التنفسي- مبكراً وبصورة أقوى من المعتاد.
وتتشابه أعراض الإصابة بالفيروس المخلوي التنفسي كثيراً مع الأعراض التي تظهر عند إصابة الشخص بنزلات البرد المعتادة. فالفيروس يصيب الجهاز التنفسي ويسبب التهابات في الرئتين والقصبة الهوائية والحلق.
وهو فيروس شائع الانتشار بشدة، خصوصاً بين الأطفال الرضع وحتى سن 5 سنوات، وتظهر أعراض العدوى بهذا الفيروس خلال 4 إلى 6 أيام من الإصابة بالفيروس. ولا تختلف أعراضه كثيراً بين الأطفال أو الأشخاص البالغين. وتشمل هذه الأعراض سيلان الأنف أو احتقانه، والسعال الجاف، وارتفاعاً خفيفاً في درجات الحرارة. ومن أعراض العدوى أيضاً ظهور التهابات في الحلق والعطس والصداع.
لكن قد تنتقل العدوى بالفيروس إلى الرئتين والقصبة الهوائية، وفي هذه الحالة تظهر أعراض أكثر حدة مثل التهابات الرئة أو التهابات القصبة الهوائية والحمى، أي ارتفاع شديد في درجات الحرارة، والسعال الشديد وسماع صوت أزيز في الصدر خلال عملية التنفس.
وهنالك أيضاً تفشٍّ غير معتاد لالتهاب الحلق العُقَدي، الناجم عن البكتيريا العقدية من المجموعة "أ" لدى الأطفال. ويعتقد الخبراء أنَّ المستوى المرتفع غير المعتاد من نشاط المرض مرتبط بضعف أجهزة المناعة، التي لم تعد تألف بيئة الجراثيم المحيطة بنا في الحياة اليومية، بسبب حالات الإغلاق. وقد فاجأ هذا الشتاء الصعب صُنَّاع الأدوية بعد بضع سنوات هادئة (باستثناء جائحة كوفيد 19).
أثقل التضخم وأزمة الطاقة أيضاً كاهل شركات الأدوية، ما أثَّر على المعروض. فالعام الماضي، 2022، قالت شركة Centrient Pharmaceuticals، وهي شركة هولندية نشطة في إنتاج المكونات الدوائية، إنَّ مصنعها ينتج أقل من إنتاج عام 2021 بمقدار الربع بسبب ارتفاع تكاليف الطاقة. وفي ديسمبر/كانون الأول الماضي، قالت شركة InnoGenerics، وهي شركة أخرى مُصنِّعة للدواء من هولندا، إنَّها حصلت على حزمة إنقاذ من الحكومة بعد إعلان إفلاسها كي تُبقي على مصنعها مفتوحاً.
ووفقاً لشركة Sandoz، وهي واحدة من أكبر المنتجين في سوق الأدوية المكافئة الأوروبية، كانت النتيجة هي "شح" كبير في المعروض. فقال متحدث باسم الشركة لمجلة Politico الأمريكية إنَّ هناك عوامل أخرى تشمل نقص المواد الخام وقيود القدرة التصنيعية. وأضاف أنَّ الشركة قادرة على تلبية الطلب في الوقت الراهن، لكنَّها "تواجه تحديات".
ما رد فعل الحكومات في أوروبا؟
تفرض بعض الحكومات قيوداً على الصادرات لحماية الإمدادات المحلية. ففي نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، وسَّعت الهيئة التنظيمية للأدوية في اليونان قائمة الأدوية المحظور إعادة بيعها إلى البلدان الأخرى، أو ما يُعرَف بالتجارة الموازية.
وأوقفت رومانيا بشكل مؤقت تصدير بعض المضادات الحيوية ومُسكِّنات الأطفال. ونشرت بلجيكا في وقتٍ سابق من شهر يناير/كانون الثاني الماضي، مرسوماً يسمح للسلطات بوقف الصادرات في حال حدوث أزمة.
وقد يكون لقرارات حظر التصدير هذه تأثيرات غير مباشرة، إذ طلبت رسالة من مُفوَّضة الصحة الأوروبية، ستيلا كيرياكيدس، مُوجَّهة لوزير الصحة اليوناني، من هذا الأخير أن يضع في الحسبان تأثيرات قرار الحظر على البلدان الثلاثة. وكتبت كيرياكيدس: "لا بد أن تمتنع الدول الأعضاء عن اتخاذ إجراءات وطنية يمكن أن تؤثر على السوق الداخلي الأوروبي، وتمنع وصول الأدوية للمحتاجين إليها في الدول الأعضاء الأخرى".
وتدرس الحكومة الألمانية تعديل القانون من أجل تسهيل شروط الشراء، التي تجبر حالياً شركات التأمين الصحي على شراء الأدوية من الوجهات التي تكون أرخص فيها، ما أدَّى إلى تركيز الإمدادات في أيدي قلة من المنتجين الأكثر تنافسية من حيث السعر. ومن شأن القانون الجديد أن يسمح للمشترين بشراء الأدوية من موردين متعددين، بما في ذلك موردين أغلى سعراً.
وطرحت هولندا مؤخراً قانوناً يطالب المشترين بالإبقاء على مخزون يكفي لستة أسابيع لسد النقص، وتقترح الحكومة في السويد قواعد مماثلة.
وأوصت لجنة تقودها "وكالة الأدوية الأوروبية"، وهي الهيئة التنظيمية للدواء في الاتحاد الأوروبي، بتخفيف القواعد من أجل السماح للصيدليات بصرف الحبوب أو جرعات الأدوية بصورة فردية، إلى جانب إجراءات أخرى. وفي ألمانيا، ذهب رئيس الجمعية الطبية الألمانية بعيداً إلى حد المطالبة بإنشاء "سوق للأدوية الرخيصة والمستعملة"، يمكن للناس فيه أن يمنحوا أدويتهم التي لم يستخدموها للمرضى الذين يحتاجون إليها. وبدأت صيدليات في فرنسا وألمانيا إنتاج أدويتها الخاصة، ولو أنَّه من المستبعد أن يُحدِث ذلك فارقاً كبيراً بالنظر إلى حجم النقص.
هل بإمكان الاتحاد الأوروبي حل المشكلة؟
من الناحية النظرية، يجب أن يكون الاتحاد الأوروبي مستعداً أكثر من أي وقتٍ مضى لمعالجة أزمة على مستوى الاتحاد ككل. إذ حدَّث مؤخراً تشريعاته المتربطة بالتعامل مع التهديدات الصحية، بما في ذلك نقص الأدوية. ومُنِحَت وكالة الأدوية الأوروبية صلاحيات مُوسَّعة لمراقبة نقص الأدوية. وجرى إنشاء هيئة جديدة كلياً لها صلاحية التوجه إلى الأسواق وشراء الأدوية للاتحاد ككل، هي "الهيئة الأوروبية للتأهب والاستجابة للطوارئ الصحية".
لكن لا يتفق الجميع على أنَّ الوضع بهذا السوء بعد. إذ قررت وكالة الأدوية الأوروبية، الخميس 26 يناير/كانون الثاني، عدم مطالبة المفوضية بإعلان النقص في الأموكسيسيلين "حدثاً كبيراً"- وهو توصيف كان من شأنه إطلاق تحرُّك (محدود) على مستوى الاتحاد الأوروبي ككل- قائلاً إنَّ الإجراءات الحالية تُحسِّن الوضع.
ويمكن لمجموعة عمل تابعة لوكالة الأدوية الأوروبية تعمل على حالات النقص هذه، أن تُقرِّر الخميس 2 فبراير/شباط، ما إن كانت توصي بأن تعلن المفوضية نقص الأدوية "حدثاً كبيراً" من عدمه.
وقالت ساندرا غالينا، كبيرة مسؤولي الصحة بالمفوضية، أمام لجنة الصحة بالبرلمان الأوروبي، إنَّها تريد "أن ترفض بعض الشيء فكرة وجود نقص كبير"، وقالت إنَّ الأدوية البديلة متاحة للاستخدام.
ويعتقد آخرون أنَّ الوضع سيتحسن مع الوقت. فقال أدريان فان دين هوفن، المدير العام لمجموعة الضغط في مجال الأدوية المكافئة، المعروفة باسم "أدوية من أجل أوروبا": "أعتقد أنَّ المشكلة ستحل نفسها، لكنَّ ذلك يعتمد على ذروة عدد الإصابات بالعدوى، فإذا كنا قد وصلنا للذروة سيلحق المعروض (بالطلب) سريعاً. وإن لم يكن كذلك، فربما لا يكون السيناريو جيداً".