تفتتح حكومة ناريندرا مودي قريباً أعلى جسر سكة حديد في العالم يربط بين ولاية جامو وكشمير الواقعة في جبال الهيمالايا ببقية أنحاء الهند، فلماذا يعتبر هذا القطار الطائر مغيراً لقواعد اللعبة هناك؟
ففي ظل عدم وجود نقل بري موثوق، كان اجتياز التضاريس الوعرة لإقليم كشمير مهمة شاقة للقوات الهندية، إذ تقطَّعت السبل في عديد المناسبات بقوافل الجنود على الطريق السريع، بعدما تسبب الطقس العاصف في انهيارات أرضية. علاوة على ذلك، سيؤدي افتتاح وصلة السكة الحديد إلى تقليص النفقات الحكومية، لأنَّ نقل اللوجستيات للجيش الهندي سيكون أرخص بكثير مقارنةً بالطريق الجوي، الذي يمثل الخيار الوحيد المتاح في الشتاء حالياً.
ما قصة هذا القطار الطائر إلى كشمير؟
جرى الإعلان عن المشروع، الذي أُطلِقَ عام 2002 على يد رئيس الوزراء الهندي آنذاك أتال بيهاري فاجبايي، على أنه مسألة ذات "أهمية وطنية"، بهدف تسريع التنمية الاقتصادية-الاجتماعية للمنطقة، وتعزيز الاندماج الوطني، و(الأهم) تعزيز "البنية التحتية الأمنية" للهند.
ويُعَد جسر السكة الحديد، الذي يُشيَّد بتكلفة كبيرة تبلغ 14.86 مليار روبية هندية (نحو 182.4 مليون دولار)، جزءاً من وصلة سكة حديد بانيهال-كاترا البالغ طولها 69 ميلاً (111 كم تقريباً) في منطقة ريسي بولاية جامو وكشمير. ويزيد ارتفاع الجسر البالغ طوله نحو ميل (1.6 كم تقريباً)، والذي يُبنى على ارتفاع نحو 1200 قدم تقريباً (365.8 م تقريباً)، عن ارتفاع برج إيفل بنحو 114 قدماً (34.8 متر تقريباً). وسيصبح عند انتهائه أعلى جسر سكة حديد في العالم.
وتبني شركتا Afcons Infrastructure وKonkan Railway Corporation العاملتان في مجال البنية التحتية الجسر. راشمي رانجان ماليك، نائب كبير مهندسي المشروع، قال لمجلة Foreign Policy الأمريكية، إنَّ بناء الجسر كان أصعب مهمة تضطلع بها شركة Konkan Railway على الإطلاق، وتطلَّب الأمر نحو 2200 عامل لإتمام المهمة. وأضاف: "كان علينا أن نواجه الكثير من العقبات من حيث المناخ القاسي والتضاريس". وأكد ماليك أن الجسر يزن نحو 30 ألف طن متري (أو نحو 30 مليون كغم)، متابعاً: "أتممنا الجزء الأصعب. ونحن نضع حالياً مسارات السكة الحديد التي تربط الجسر بأقرب المحطات".
وأشاد رئيس الوزراء الهندي، ناريندرا مودي، بإكمال القنطرة الأخيرة للجسر العام الماضي، 2022. فكتب على تويتر: "تُقدِّم قدرة وثقة الهنود اليوم نموذجاً للعالم. لا يظهر عمل البناء هذا قوة الهند المتزايدة في الهندسة والتكنولوجيا الحديثة فقط، بل أيضاً يظهر نموذجاً على ثقافة العمل المتغيرة في البلاد".
ولا يوجد حتى الآن إلا طريق خطر للغاية، هو الطريق السريع الوطني رقم 44، يربط وادي كشمير المعزول ببقية الهند. مع ذلك، تُعتَبَر وصلة السكة الحديد عاملاً مُغيِّراً لقواعد اللعبة تجلب الازدهار الاقتصادي للمنطقة، وتمنح القوات الهندية إمكانية وصول برية إلى الوادي على مدار العام، فضلاً عن الحدود الصينية الواقعة وراءها، وهي المناطق التي تظل حتى الآن معزولة معظم فصل الشتاء.
كيف يرى أهل كشمير هذا الجسر الطائر؟
بدلاً من أن يكون الجسر "رمزاً للازدهار" -مثلما تتصوَّر الحكومة الهندية- يتشكك الكثير من الكشميريين في الغرض من بناء الجسر بالنظر إلى الوضعية المتنازَع عليها لكشمير بين الهند وباكستان.
إذ يُعَد إقليم كشمير، وهو واحد من أكثر المناطق ذات الطابع العسكري في العالم، محور نزاع إقليمي مُعتَرَف به من الأمم المتحدة بين الهند وباكستان. وقُسِّم إقليم كشمير في عام 1947 حين انقسمت الهند على أساس ديني بعد الانسحاب البريطاني من البلاد، إلى شطرين، فتسيطر الهند على حوالي 55% من إجمالي الأرض، في حين تسيطر باكستان على 30% وتسيطر الصين على نسبة الـ15% المتبقية في الجانب الشمالي الشرقي بمنطقة لداخ.
يخشى الكشميريون اليوم إمكانية أن يوفر جسر السكة الحديد ممراً سهلاً لنيودلهي من أجل فرض السيطرة على أراضيهم من خلال إرسال المزيد من القوات والعتاد العسكري متى شاءت.
ولوجهة النظر هذه وجاهتها بطبيعة الحال، ففي 5 أغسطس/آب 2019، ألغت حكومة مودي المادة 370 من الدستور، والتي تكفل الحكم الذاتي في جامو وكشمير ذات الأغلبية المسلمة الوحيدة في البلاد، ومن ثم تقسيمها إلى منطقتين تديرهما الحكومة الفيدرالية.
وكان الإقليم يتمتع منذ عام 1954، بوضع خاص بموجب الدستور الهندي، الذي سمح له بسن قوانينه الخاصة، إلى جانب حماية قانون الجنسية، الذي منع الغرباء من الاستقرار في الأراضي وامتلاكها.
وطبَّقت نيودلهي في الثلاث سنوات ونصف السنة الماضية العديد من المقترحات، بما في ذلك توطين غير الكشميريين في الوادي، وهو ما يعتبره الكثيرون محاولة لتحويل المنطقة الوحيدة التي يسيطر عليها المسلمون في الهند إلى منطقة ذات غالبية هندوسية.
فوفقاً لأحد القوانين الجديدة، سيحصل أي شخص أقام في كشمير لمدة 15 سنة أو درس في المنطقة لسبع سنوات واجتاز اختبارات معينة على الحق في الإقامة ويصبح مؤهلاً لتولي الوظائف الحكومية.
وبما أنَّ القوانين الجديدة دخلت حيز التنفيذ، يعقد بعض الكشميريين الآن مقارنات بين كشمير وفلسطين، ويخشون من أنَّ الهند تعمل على نسخ ما يُسمُّونه "نموذج الاحتلال الإسرائيلي" من خلال جلب الهندوس من ولايات هندية أخرى لتوطينهم في الوادي.
كيف يسوق مودي هذا المشروع؟
أما بالنسبة لحكومة مودي، فالجسر يمثل أعجوبة هندسية. أمَّا بالنسبة لغالبية الكشميريين، فهو سبيل للهند من أجل تعزيز قبضتها على منطقة الهيمالايا.
لكن أنورادها بهاسين، المحررة التنفيذية لإحدى الصحف المحلية في كشمير، ترى أن القوانين الجديدة المُطبَّقة في كشمير توفر "سبيلاً لنسخ نموذج الاحتلال الإسرائيلي واستيطان الضفة الغربية في كشمير من أجل نزع قوة وملكية السكان المحليين، لا سيما المسلمين الكشميريين، لممارسة سيطرة مهيمنة من خلال المستوطنين الجدد".
وخوفاً من فقدان موطنهم، يميل الكشميريون إلى عدم النظر إلى وصلة السكة الحديد بمعزل عن التطورات الأخرى. فهناك تصور عام بأن الهند تمنح الأولوية لوصلة السكة الحديد؛ حتى يكون من السهل لجيشها الوصول إلى كشمير في كافة أحوال الطقس وليس لجلب الازدهار الاقتصادي إلى المنطقة، وهو ما يعتقد الكشميريون أنه جزء من جهد أوسع لإحداث تغيير ديموغرافي دائم في المنطقة.
وبالنسبة للجيش الهندي، الذي يواجهه نزاع حدودي مستمر مع الصين اشتعل مؤخراً في شرقي منطقة لداخ، يُعَد السعي للحصول على رابط بري كفؤ بالمنطقة أمراً ضرورياً لإمداد منطقة لداخ ووادي كشمير بالأسلحة والذخيرة.
فقال الجنرال المتقاعد س. ب. سينها، لمجلة Foreign Policy الأمريكية، إنَّ الجسر يتمتع بـ"أهمية استراتيجية كبيرة" لتعبئة القوات الهندية والمدفعية من بقية الهند إلى منطقة كشمير ولداخ.
وإلى جانب اتخاذ كافة تدابير السلامة الشائعة في بناء الجسور، مثل البناء المقاوم للزلازل والرياح، استعدَّت شركات البناء أيضاً لهجمات المسلحين، وضمنت ألا تكون أعمدة الجسر ضعيفة في مواجهة الانفجارات. فصُنِعَت أعمدة الجسر من فولاذ سميك خاص مضاد للانفجارات وبإمكانه امتصاص التفجيرات بمادة TNT شديدة الانفجار. وأضاف سينها: "ستكون إمكانية الوصول إلى الوادي 365 يوماً في السنة ميزة كبيرة لنا في مواجهة أي تهديد من البلد المجاور (باكستان)".
تمثل الصين هي الأخرى مصدر قلق رئيسياً. فبالإضافة إلى العمل على مشروع السكة الحديد، تسارع الحكومة الهندية أيضاً لإكمال مشروع آخر مهم، نفق "زوجي لا" قرب منطقة سونمارغ التي تقطع الثلوج طرق الوصول إليها في وسط كشمير. ومن شأن النفق البالغ طوله 8 أميال (13 كم تقريباً) وباتساع حارتيّ سير، توفير إمكانية وصول في كافة أحوال الطقس بين كشمير ولداخ قرب الحدود الهندية مع الصين.
قال سينها، الذي خدم في لداخ خلال فترته بالجيش، إنَّ نفق "زوجي لا" مهم بقدر مشروع السكة الحديد بسبب حضور الصين على الحدود المتنازَع عليها.
وأضاف: "ستربط السكة الحديد جامو بكشمير، وسيربط النفق كشمير بلداخ. لذا، فإنَّ لكلا المشروعين أهمية هائلة لانتقال قوات الدفاع إلى الصين في الشمال".
وقال سينها إنَّه بعيداً عن وجود المزيد من خيارات السفر، سيؤدي الربط عبر السكة الحديد أيضاً إلى تقليص النفقات على الجيش: "خلال خدمتي، كنا نستخدم طائرة من طراز IL-76 لنقل اللوجستيات للجيش في الشتاء. وكان ذلك مكلفاً أكثر من الإمدادات التي اعتدنا تلقِّيها عبر الطرق البرية في فصل الصيف. بالتالي، ستوفر وصلة السكة الحديد أيضاً للحكومة الكثير من المال".
ماذا تريد الهند إذاً؟
على عكس تأكيدات سينها، قال شيخ شوكت حسام، وهو محلل سياسي وباحث بارز في حقوق الإنسان والقانون الدولي، إنَّ جسر السكة الحديد الجديد يشبه نفق بانيهال قازيغوند (الطريق الوطني الحالي) الذي أنشأته الهند لغرض النقل البري على مدار السنة بين عاميّ 1954 و1956 من أجل الوصول السهل من بقية الهند إلى كشمير.
وأشار حسين: "قبل بناء النفق، كانت الهند تتبنَّى نهجاً معتدلاً للغاية تجاه نزاع كشمير"، موضحاً أن الهند سعت في البداية "لحل المشكلة من خلال القرارات التي أصدرتها الأمم المتحدة. لكن بمجرد بناء النفق وتمكُّنها من نقل جيشها ومدفعيتها بحرية، تغيَّر سلوكها".
ويؤكد حسين أنه بعد تعزيز الهند قبضتها على كشمير ولداخ بعد افتتاح نفق بانيهال قازيغوند، انتهكت كل القواعد الدولية وأعلنت أنَّ كشمير "جزء لا يتجزأ" من أراضيها.
وأضاف: "أعتقد أنَّ افتتاح وصلة السكة الحديد امتداد لتلك القبضة التي تسيطر بها الهند على كشمير ولداخ. وفي ظل كون المواجهة بين الصين والهند عند حدود لداخ في أوجها، سيوفر افتتاح وصلة السكك الحديد بعض العون للجيش الهندي في ما يتعلَّق بالتعبئة".
وكان سكان آخرون أكثر صراحةً، فقال عرفان، وهو طالب بجامعة كشمير يدرس العلوم السياسية: "يعلم الكشميريون لماذا بذلت الحكومة الهندية الكثير من الجهد والمال في مشروع السكة الحديد هذا. إنَّها لا تريد إلا توفير ممر آمن لجيشها وشعبها من أجل المجيء إلى كشمير وتأكيد سلطتها علينا".
وقرب موقع البناء، قال السكان المحليون في منطقة ريسي -ذات الأغلبية الهندوسية- لمجلة Foreign Policy إنَّ وصلة السكة الحديد ستجلب الازدهار وتُحسِّن ارتباط منطقتهم الجبلية ببقية البلاد.
فقال راجيندر كومار، وهو أستاذ مساعد لعلم النفس في ريسي، إنَّ الجسر سيسهم في التنمية الاقتصادية بالمنطقة ويساعد في توفير إمكانية وصول أفضل لوسائل النقل.
وقال سونيل كومار، وهو أحد السكان المحليين ويعمل لدى شركة Afcons Infrastructure في وظيفة مصمم في المشروع، إنَّ المنطقة تتحول بالفعل إلى بقعة جذب سياحي منذ إتمام الجسر.
وأضاف كومار، الذي ارتبط بالعمل في المشروع منذ 2015: "الناس من مختلف أنحاء البلاد يزورون المكان لرؤية أعلى جسر سكة حديد في العالم. لقد أعطى دفعة حقيقية لقطاع السياحة في ريسي".
ومع اقتراب افتتاح الجسر، تبقى منطقة جامو وكشمير منقسمة. فمع أنَّ كثيراً من السكان في جامو يعتبرون المشروع طريقاً نحو الازدهار وأنَّه لا شك بأنَّ خط السكة الحديد سيوفر أيضاً وصلات نقل أسهل لسكان كشمير من أجل السفر إلى خارج الوادي -لا سيما لمزارعي التفاح من أجل نقل إنتاجهم إلى الأسواق الهندية الكبرى في الوقت المناسب- تركت عقودٌ من انعدام الثقة بين كشمير ونيودلهي الكشميريين متشكيين بشأن الغرض الحقيقي من خط السكة الحديد هذا.