تسبّب رضوخ حكومة المستشار أولاف شولتز لضغوط جو بايدن وباقي الحلفاء لإرسال دبابات ليوبارد إلى أوكرانيا في سيطرة الخوف وعقدة الذنب على ألمانيا، فما أسباب هذا القلق في برلين تحديداً؟
كانت ألمانيا قد استسلمت أخيراً ووافقت على إرسال دبابات ليوبارد 2 المتقدمة إلى أوكرانيا، بعد أسابيع من الضغوط المتواصلة من جانب الحلفاء الغربيين بزعامة إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن، الذي وافق على إرسال دبابات أبرامز أيضاً، لتصبح حرب الدبابات هي شعار المرحلة.
فرغم إعلان ألمانيا أنها ستزود أوكرانيا بعربات قتالية من طراز ماردير، للمساعدة في صد القوات الروسية، فإن شولتز قال الإثنين، 9 يناير/كانون الثاني 2023، إنه لا يزال مقتنعاً بضرورة تنسيق تسليم الأسلحة إلى أوكرانيا مع الحلفاء، وذلك رداً على تصاعد الضغوط على برلين لإرسال دبابات ليوبارد 2 إلى كييف.
إذ قال شولتز، الذي شدّد في كثير من الأحيان على أهمية عدم تصعيد الصراع في أوكرانيا أو إعطاء روسيا سبباً لاعتبار ألمانيا طرفاً في الحرب، إن الحلفاء الغربيين أمضوا "وقتاً طويلاً في التحضير والمناقشة والتنظيم لهذا". وفي تجمع لحزبه الديمقراطي الاشتراكي، قال المستشار الألماني: "لن تتحرك ألمانيا بمفردها… ستبقى ألمانيا دائماً متحدة مع أصدقائها وحلفائها… وأي شيء آخر سيكون غير مسؤول في مثل هذا الوضع الخطير".
لماذا يسيطر "الخوف وعقدة الذنب" على ألمانيا؟
الآن وقد تجاهلت برلين الخطوط الحمراء التي وضعتها الحكومات الألمانية عنواناً رئيسياً لاستراتيجية البلاد وسياستها على مدى عقود، يبدو أن المزاج العام في البلاد أصبح واقعاً تحت قبضة القلق من تبعات هذا التحول.
صحيفة Financial Times البريطانية، تناولت هذا القلق في تقرير عنوانه "مشاعر الذنب والخوف تسيطر على ألمانيا"، رصدت من خلاله ردود الأفعال بين الألمان في أعقاب قرار إرسال الدبابات إلى أوكرانيا، والذي يأتي كأول قرارات لوزير الدفاع الجديد، بوريس بيستوريوس، الذي تولى المهمة خلفاً لكريستينا لامبريشت.
كانت لامبريشت قد تقدمت باستقالتها في أعقاب تعرضها لانتقادات حادة، بسبب عثرات متعددة، كان آخرها رسالة مبهجة خلال رأس السنة تحدثت فيها عن الحرب في أوكرانيا، بطريقة وصفها معارضون بأنها تفتقر إلى التعاطف.
فمنذ اندلاع الحرب في شرق أوروبا، في شهر فبراير/شباط الماضي، بين روسيا وأوكرانيا، تعرضت برلين لسيل من الاتهامات بالمماطلة. إذ رأت كييف وأنصارها أن ألمانيا كانت بطيئة ومترددة للغاية في الاستجابة لمطالب أوكرانيا، التي تريد الحصول على الأسلحة من أجل صد الهجوم الروسي.
لكن المسؤولين الألمان قالوا إنه يجب على حلفائهم الغربيين أن يفهموا القلق الفريد من نوعه الذي تثيره هذه المطالب في بلدهم، حيث أظهرت الاستطلاعات أن نحو نصف سكانها يعارضون قرار إمداد كييف بدبابات ليوبارد 2 المتطورة.
ولا شك أن الدبابات مثّلت أحد الخطوط الحمراء التي يصعب اجتيازها بالنسبة لألمانيا، وفقاً لكلوديا ميجور، المحللة الدفاعية في مركز أبحاث German Institute for International and Security Affairs. وأوضحت كلوديا: "يصعب شرح الأمر بالنسبة للأشخاص غير المطلعين على طبيعة النفسية الألمانية، فهذه دبابات بانزر ألمانية، وهي تختلف عن مدافع هاوتزر".
إذ كانت دبابات بانزر كامبف فاجن (مركبة القتال المدرعة)، المعروفة باسم بانزر هي العمود الفقري لحملة النازيين، التي نجحت في اجتياح أوروبا خلال السنوات الأولى من الحرب العالمية الثانية، ما يجعل فكرة إرسال الدبابات إلى منطقة حرب فكرةً غير مريحة بالنسبة لألمانيا، التي تتمحور هويتها المعاصرة حول فكرة "عدم تكرار ما حدث مطلقاً"، حيث إن البانزر هي "رمز الغزو الألماني لأوروبا"، وفقاً لسونكه نيتزل، المؤرخ العسكري الألماني.
كما يُدرك الألمان أن أدولف هتلر كان مسؤولاً عن قتل 27 مليون مواطن سوفييتي، سقط غالبيتهم داخل الأراضي التي أصبحت جزءاً من أوكرانيا اليوم، بخلاف مذابح الهولوكوست.
وبذلت ألمانيا جهوداً كبيرة في محاولةٍ لمواجهة ماضيها المظلم خلال العقود الأخيرة، لهذا يجري تدريس مسؤولية البلاد عن الهولوكوست في المدارس، وتخليد تلك الذكرى في المعالم الأثرية بطول البلاد. وعلى الساحة الدولية، تحاول برلين الامتناع عن اتخاذ أي خطوات من شأنها تصوير ألمانيا على أنها الدولة المعتدية في أوروبا. بينما صممت منظومةً سياسية توافقية في الداخل، بهدف الحيلولة دون صعود هتلر جديد.
لكن تلك الخطوات يمكن أن تزيد صعوبة اتخاذ إجراءات سريعة وحاسمة، ولا عجب أن البطء الشديد في عملية الموافقة على إرسال الأسلحة إلى كييف، ولهجة النقاش المصاحبة لها، قد أثارت حفيظة الأوكرانيين وأنصارهم في بعض الأحيان.
ألمانيا ثالث أكبر الدول الداعمة لأوكرانيا؟
أندريه بورتنوف، مؤرخ أوكراني يعيش في ألمانيا منذ عقدٍ كامل، قال لصحيفة فايننشال تايمز البريطانية، إنه يرى مدى التقدم الذي أحرزته ألمانيا خلال الفترة المضطربة الماضية، التي أعقبت هجوم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على بلاده، حيث كانت ألمانيا رافضةً لفكرة إرسال الأسلحة إلى منطقة حرب في مثل هذا الوقت من العام الماضي، لكنها أصبحت ثالث أكبر مورد للمساعدات العسكرية إلى أوكرانيا اليوم. وأعلنت الأسبوع الجاري أنها ستُرسل الدبابات القتالية الحديثة من طراز ليوبارد 2، لتستبيح بذلك حلقةً جديدة في سلسلة المحظورات الوطنية الطويلة.
لكن بورتنوف قال أيضاً إنه شعر بالإحباط أحياناً حيال الطريقة التي أثّر بها العبء التاريخي الألماني، من فترتي الرايخ الثالث والحرب الباردة، على شكل النقاش المعاصر: "أعتقد أن ألمانيا المعاصرة لا تزال نتاجاً سياسياً ونفسياً لفترة الحرب العالمية الثانية، ولطريقة سعي المجتمع الألماني إلى التغلب على ذلك الماضي النازي". وأردف بورتنوف أنه لاحظ "عُقدةً روسية" ناتجة جزئياً عن الخوف والانقسام اللذين ميّزا حقبة الحرب الباردة، مضيفاً أن هذه العقدة "يجب التفكير فيها، ونقاشها، والتغلب عليها".
بينما قالت الفيلسوفة الأمريكية سوزان نيمان إن جهود ألمانيا لمواجهة تاريخها تظل جديرةً بالثناء، حيث ضربت المثل بالبلد الأوروبي باعتباره نموذجاً للتصالح مع الماضي، في كتابها "التعلُّم من الألمان Learning from the Germans". لكنها أوضحت أنها اضطرت لإعادة النظر في بعض استنتاجاتها السابقة حول ألمانيا، بعد أن شاهدت ما شعرت أنها استجابة مُضلّلة من ألمانيا للأزمة الراهنة.
وأردفت: "أعتقد أن الموقف الألماني يأتي نتاجاً لمزيجٍ معقد من مشاعر الذنب والخوف بشكلٍ أساسي. وأظن أنه يُظهر قيود التركيز على الجرائم التاريخية للفرد".
ويُعرب بعض منتقدي النقاش الوطني عن إحباطهم حيال ما يرون فيه موقفاً "استعمارياً" تجاه كييف، ويحرم المواطنين الأوكرانيين من وكالتهم. بينما يجادل البعض بأن الإشارة إلى ماضي ألمانيا النازي هي مجرد ستار، ويلجأ إليه أولئك الذين يعارضون تسليح أوكرانيا لأسباب أخرى.
فيما يتعيّن على حزب أولاف شولتز، الحزب الديمقراطي الاشتراكي، أن يواجه ماضيه المعقد الخاص، إذ يضم الحزب جناحاً سلمياً قوياً تُغرقه الشكوك في الولايات المتحدة والناتو، كما أن له سجله الطويل في الدعاية للتعامل مع موسكو باعتبارها شريكةً وليست تهديداً.
القلق من التصعيد ضد روسيا
لكن المدافعين عن شولتز جادلوا بصدق مخاوفه من تصعيد الصراع مع قوةٍ نووية، وهي المخاوف التي جرى التعبير عنها مراراً خلال الفترة السابقة لصدور القرار. كما يشاركه في هذه المخاوف الرأي العام الألماني، الذي لا يزال يتذكر حياته على جبهة الحرب الباردة.
إذ قال رجل يُدعى هيل شلوسر خلال مكالمةٍ هاتفية مع إذاعة Deutschlandfunk الألمانية الأسبوع الجاري: "بوتين رجلٌ مجنون، ولنقل إنه أطلق صواريخه النووية (بالخطأ) على وارسو. فماذا سنفعل حينها؟".
وأوضح أنصار شولتز أسباب نهجه الحذر، وإصراره على عدم إرسال الدبابات قبل أن تفعل أمريكا الشيء نفسه، قائلين إنها ترجع جزئياً إلى حرصه على إشراك شعبه القلِق في العملية.
ونشرت شبكة CNN الأمريكية تقريراً عن الموقف ذاته بعنوان "كثير من الألمان قلقون من خطوة برلين التاريخية"، رصد ردود الأفعال في الشارع الألماني بعد قرار إرسال الدبابات إلى أوكرانيا.
مانويل، شاب ألماني يبلغ من العمر 29 عاماً، قال للشبكة الأمريكية إنه يخشى أن يؤدي قرار إرسال الدبابات إلى أوكرانيا إلى مرحلة خطيرة في الصراع الممتد منذ نحو عام: "لا أعتقد أن روسيا ستهاجم أياً من أعضاء حلف الناتو، على الأقل الآن، لكنني قلق من رد فعل أكثر قسوة تجاه الأوكرانيين أنفسهم".
بينما قال المؤرخ الأوكراني بورتنوف لفايننشال تايمز إنه ممتنٌّ بشدة للدعم الذي تقدمه ألمانيا لأوكرانيا، وخاصةً قرارها باستقبال مليون لاجئ بينهم والده ووالدته وشقيقته. كما أعرب عن احترامه لمراعاة البلاد لماضيها المضطرب. وأردف: "أشعر بمدى صعوبة تفاعل هذا المجتمع- المجتمع الألماني- مع الواقع السياسي المتغير في أوروبا بشكلٍ سريعٍ وفوري".
لكنه متعطشٌ لردٍ أسرع يواكب مدى إلحاح وخطورة معركة أوكرانيا الوجودية. حيث أضاف: "يكمُن التحدي الأكبر بالنسبة لألمانيا وللثقافة السياسية الألمانية في النقطة التالية: كيفية الاستجابة بسرعة ودون فقدان الإجماع، ودون تضييع المسؤولية".
الخلاصة هنا هي أن إرث ألمانيا المدمر ودورها في الحربين العالميتين الأولى والثانية لا يزال حاضراً على المستوى القومي، ويؤثر في القرارات الاستراتيجية الكبرى، كإرسال الأسلحة الثقيلة إلى أوكرانيا، وظهر هذا بوضوح في أعقاب قرار إرسال الدبابات تحديداً.