مرت الأسواق العالمية العام الماضي 2022 بوقت عصيب، لكن حتى الآن يبدو عام 2023 مختلفاً، حيث شهدت العديد من المؤشرات، بما في ذلك Euro Stoxx 600 وHang Seng في هونغ كونغ، أفضل بداية لها لهذا العام منذ عقود. وارتفع مؤشر أسهم "إس آند بي 500" الأمريكي بنسبة 5٪. ومنذ أن بلغت ذروتها في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، انخفضت قيمة التجارة المرجحة للدولار بنسبة 7٪، في إشارة إلى انحسار المخاوف بشأن الاقتصاد العالمي. فهل يمكن تجاوز الركود العالمي بعدما عاد التفاؤل الآن إلى الظهور من جديد؟
هل يستطيع العالم حقاً تجنب الركود خلال عام 2023؟
"مرحباً بانخفاض أسعار الغاز، وداعاً للركود الاقتصادي"، هتف المحللون في بنك "جي بي مورجان تشيس"، أكبر بنك في الولايات المتَّحدة، في 18 يناير/كانون الثاني 2023، في تقرير عن منطقة اليورو. وقام بنك "نومورا" بتعديل توقعاته للركود البريطاني المقبل "إلى شيء أقل ضرراً مما توقعناه في الأصل".
فيما قال بنك "سيتي غروب" أحد أضخم شركات الخدمات المالية الأمريكية، إن "احتمال حدوث ركود عالمي كامل، حيث يتراجع النمو في العديد من البلدان جنباً إلى جنب، يبلغ الآن حوالي 30٪ [على عكس] التقييم البالغ 50٪ الذي توقعناه خلال النصف الثاني العام الماضي".
وتقول مجلة Economist البريطانية التي رصدت تفاؤل المحللين الغربيين، إنه على الرغم من الحديث عن ركود عالمي منذ فبراير/شباط 2022 على الأقل، أي عندما غزت روسيا أوكرانيا، فقد صمدت هذه البيانات بشكل أفضل من المتوقع. خذ بعين الاعتبار التقدير الأسبوعي للناتج المحلي الإجمالي من منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، وهي مجموعة من الدول الغنية والتي تمثل حوالي 60٪ من الناتج العالمي. إنها بالكاد مزدهرة، ولكن في منتصف شهر يناير/كانون الثاني 2023 كانت بلدان قليلة تكافح مشاكلها الاقتصادية.
وارتفعت مقاييس "مؤشر مديري المشتريات" الذي تتم مراقبته على نطاق واسع للناتج العالمي بشكل طفيف في يناير/كانون الثاني 2023، بما يتفق مع نمو إجمالي الناتج المحلي بنحو 2٪.
لكن تبقى الأرقام الرسمية مختلطة، كما تقول مجلة الإيكونومست، حيث جاءت الأرقام الأخيرة لمبيعات التجزئة الأمريكية أقل من التوقعات. وفي الوقت نفسه، كانت طلبات الآلات في اليابان أضعف بكثير مما كان متوقعاً. ومع ذلك، بعد أن وصلت إلى أدنى مستوى لها على الإطلاق في الصيف، ارتفعت ثقة المستهلك في دولة منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية.
ومن المقرر أن ينشر المسؤولون أول تقديراتهم لنمو الناتج المحلي الإجمالي الأمريكي في الربع الرابع من عام 2022 في 27 يناير/كانون الثاني 2023، حيث يتوقع معظم الاقتصاديين رقماً لائقاً، على الرغم من أن الاضطرابات الوبائية تعني أن هذه الأرقام ستكون أقل موثوقية من المعتاد.
لكن الأسواق ما زالت تتأرجح وعلامات الركود ظاهرة
لكن يبدو أن أسواق العمل تتأرجح أيضاً، ففي بعض البلدان الغنية، بما في ذلك النمسا والدنمارك، ترتفع معدلات البطالة، وهي علامة واضحة على أن الركود يلوح في الأفق. وبالكاد يمر يوم دون إعلان من شركة تكنولوجية كبيرة أخرى أنها قامت بتسريح مئات وحتى آلاف الموظفين.
ومع ذلك، تمثل التكنولوجيا حصة صغيرة من الوظائف الإجمالية في الأسواق العالمية، ولا تزال البطالة منخفضة في معظم البلدان، كما تقول المجلة البريطانية.
ولحسن الحظ، يعبر أرباب العمل عبر منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية عن انخفاض طلبهم على العمالة إلى حد كبير، من خلال سحب إعلانات الوظائف، بدلاً من إقالة الأشخاص. ومنذ الوصول إلى أعلى مستوى له على الإطلاق بأكثر من 30 مليوناً في أوائل العام الماضي، انخفضت الوظائف الشاغرة بنحو 10٪.
ويولي المستثمرون اهتماماً لأسواق العمل، لكن ما يهتمون به حقاً الآن هو التضخم. من السابق لأوانه معرفة ما إذا كان التهديد قد انتهى. وفي العالم الغني، لا يزال التضخم الأساسي، وهو مقياس للضغط الرئيسي، والذي يقدر ما بين 5-6٪ على أساس سنوي، أعلى بكثير مما تريده البنوك المركزية.
لكن المشكلة لم تعد تزداد سوءاً، حيث ينخفض معدل التضخم الأساسي في أمريكا، وكذلك حصة الشركات الصغيرة التي تخطط لرفع الأسعار. وتشير مجموعة بيانات بحثية أخرى، مثل البنك الاحتياطي الفيدرالي في كليفلاند، وشركة Morning Consult للبيانات وغيرها، إلى أن توقعات التضخم العام تتراجع.
ما أسباب تماسك الاقتصاد العالمي حتى الآن؟
هناك عاملان يفسران سبب تماسك الاقتصاد العالمي: أسعار الطاقة وتمويل القطاع الخاص. في العام الماضي، ارتفعت تكلفة الوقود في العالم الغني بأكثر من 20٪، وبنسبة 60٪ أو أكثر في أجزاء من أوروبا. وتوقع الاقتصاديون أن تظل الأسعار مرتفعة في عام 2023، ما يسحق القطاعات كثيفة الاستهلاك للطاقة مثل الصناعات الثقيلة.
وفي كلتا الحالتين كان هؤلاء الاقتصاديون مخطئين، كما تقول الإيكونومست. فبمساعدة الطقس الحار بشكل غير معتاد، أثبتت الشركات مرونة غير متوقعة عندما يتعلق الأمر بالتعامل مع التكاليف المرتفعة. وفي نوفمبر/تشرين الثاني 2022، كان استهلاك الغاز الصناعي الألماني أقل بنسبة 27٪ من المعدل الطبيعي، لكن الإنتاج الصناعي انخفض بنسبة 0.5٪ فقط عن العام السابق. وخلال فترة عيد الميلاد، انخفضت أسعار الغاز الطبيعي في أوروبا بمقدار النصف إلى المستويات التي شوهدت آخر مرة قبل غزو روسيا لأوكرانيا.
وأحدثت قوة الموارد المالية للقطاع الخاص فرقاً أيضاً. أفضل تخمين هو أن العائلات في "مجموعة الدول الصناعية السبع" لا تزال تحتفظ بمدخرات "فائضة"، أي تلك التي تفوق ما تتوقع أن تكون قد تراكمت في الأوقات العادية، تبلغ حوالي 3 تريليونات دولار (أو حوالي 10٪ من الإنفاق الاستهلاكي السنوي)، والتي تراكمت عن طريق مزيج من التحفيز الحكومي أثناء الوباء، أو نفقات أقل في 2020-2021.
لكن هل يمكن أن تستمر البيانات في تجاوز التوقعات؟
هناك بعض الأدلة، بما في ذلك في ورقة بحثية حديثة أجراها بنك "جولدمان ساكس"، تشير إلى أن أكبر عائق على النمو الاقتصادي من السياسة النقدية الأكثر تشدداً يحدث بعد حوالي تسعة أشهر.
وبدأت الظروف المالية العالمية في التشديد بشكل خطير منذ حوالي 9 أشهر. إذا ثبتت صحة النظرية، فبعد فترة طويلة قد يعود الاقتصاد إلى مكانة أكثر تأكيداً واستقراراً مرة أخرى، حتى عندما تبدأ المعدلات المرتفعة في التهام التضخم. والصين سبب آخر للتفاؤل، فعلى الرغم من أن رفع قيود كورونا المحلية أدى إلى تباطؤ الاقتصاد في ديسمبر/كانون الأول، حيث اختبأ الناس من الفيروس، فإن التخلي عن سياسة "الفيروس الصفري" سيؤدي في النهاية إلى زيادة الطلب على السلع والخدمات على مستوى العالم. ويتوقع المتنبئون أيضاً استمرار الطقس الدافئ في معظم أنحاء أوروبا.
مع ذلك، لا تزال الحالة المتشائمة قوية، وأمام البنوك المركزية طريق طويل لتقطعه قبل أن تتأكد من أن التضخم تحت السيطرة، خاصة مع إعادة فتح الصين، ما أدى إلى ارتفاع أسعار السلع الأساسية.
بالإضافة إلى ذلك، لا يمكن التنبؤ باقتصاد على أعتاب ركود، كما تقول الإيكونومست، وبمجرد أن يبدأ الناس في فقدان وظائفهم، وتقليص الإنفاق، يصبح التنبؤ بأعماق الانكماش مستحيلاً. والدرس الحاسم المستفاد من السنوات الأخيرة هو أنه إذا حدث خطأ ما، فإنه يحدث غالباً. لكن من الجيد أن يكون لديك بصيص أمل على الرغم من كل شيء.