شهدت عطلات نهاية الأسبوع الماضية خروج عشرات الآلاف من الإسرائيليين إلى شوارع تل أبيب والمدن الأخرى، وذلك احتجاجاً على خطط رئيس الوزراء اليميني بنيامين نتنياهو لإضعاف المحكمة العليا حتى يسمح لحكومته المتطرفة بتقوية دور الدين في الحياة العامة.
إذ رفع المحتجون المناهضون للإصلاحات القضائية اللافتات في وسط المدينة المحتلة، يوم السبت 21 يناير/كانون الثاني 2023، وطالبوا بإنهاء تحالف نتنياهو المنتقى بعناية، والذي يمثل أكثر الحكومات الدينية يمينيةً في تاريخ دولة الاحتلال. وشارك نحو 100 ألف شخص في الاحتجاجات، لتصبح واحدةً من أكبر التظاهرات في تاريخ البلاد.
ما "الإصلاحات القضائية" التي يسعى لها نتنياهو وتحالفه المتطرف؟
تمثل الإصلاحات القضائية مسألةً محورية بالنسبة لإدارة "صانع الصفقات" نتنياهو، كما تقول صحيفة Wall Street Journal الأمريكية، حيث ستسمح لحلفائه المتطرفين بتمرير القوانين التي يطمحون لفرضها منذ وقتٍ بعيد، لكنها كانت تتعطل أمام المحكمة العليا، أو تواجه أرجحية الطعن في صحتها أمام المحكمة.
وتشمل القائمة القوانين التي ستُعفي اليهود الأرثوذكس المتشددين من التجنيد العسكري الإلزامي قانوناً، وستسمح بالفصل بين الرجال والنساء في الأماكن العامة، كما ستمنح الزعماء الدينيين سيطرةً أكبر على الحياة السياسية ومفاصلها والمواقع المقدسة.
وأسفرت تلك الخطط عن اندلاع صراعٍ بين العلمانيين واليهود الليبراليين من ناحية، واليمين الديني الذي ازداد نفوذه السياسي في العقد الماضي من ناحيةٍ أخرى. ويسيطر المتطرفون على نصف مقاعد التحالف، البالغ عددها 64 مقعداً، بينما يسيطر حزب الليكود اليميني الخاص بنتنياهو على النصف الآخر.
وقال إسرائيل كوهين، المعلق السياسي في إذاعة Kol Barama اليهودية الأرثوذكسية المتشددة: "لقد كانت المحكمة العليا عدوهم في قضايا الدين والدولة. وإسرائيل دولة يهودية وديمقراطية في الوقت ذاته. لكن الجانب اليهودي يُعَدُّ أكثر أهمية بالنسبة لمجموعة المتدينين التقليديين، الذين يشكلون تحالف نتنياهو"، حسب تعبيره.
وتتوافق قضية هؤلاء مع قضية العديد من أنصار اليمين الإسرائيلي، الذين يؤمنون بأن المحكمة العليا تخضع لسيطرة قضاة يساريين رغم زيادة النفوذ السياسي لليمين.
"أجندة مناهضة للدين اليهودي"
انضم بعض المسؤولين القضائيين الحاليين والسابقين إلى المعارضة السياسية اليوم، وبينهم النائب العام الحالي ورئيس المحكمة العليا. إذ يقولون إن الإصلاحات القضائية المقترحة ستُقوّض نظام الضوابط والموازين المحدود داخل البلاد، في ما تُعَدُّ المحكمة العليا بمثابة الفرع الوحيد الذي يتمتع باستقلاليةٍ كاملةٍ داخل الحكومة.
بينما يقول أنصار الإصلاحات إنها لا تهدف لتسهيل تمرير تشريع بعينه، لكن الغرض منها هو تصحيح ما وصفوه بـ"النشاط القضائي المتفشي".
وقال أوري مكليف، المشرّع اليهودي الأرثوذكسي المتشدد من حزب يهدوت هتوراة، إن "اليهود الأرثوذكس المتشددين يشاركون في حملة الإصلاحات القضائية، انطلاقاً من شعورهم بأن المحكمة تتبع أجندةً مناهضةً للدين".
وأردف لصحيفة وول ستريت جورنال: "من المفترض بالمحكمة أن تحمي الأقليات. لكن أقلياتنا لم تحصل على الحماية، بل على العكس، أصبحنا أكثر تعرضاً للأذى بسببها".
من الواضح أن اتفاقات التحالف مع نتنياهو، وتصريحات المشرعين المحافظين، ترسم ملامح أجندةٍ تعتمد على تجاوز أي تحديات سابقة أو متوقعة من جانب المحكمة العليا.
ويمثل تشريع الإعفاء من التجنيد العسكري الإلزامي أولوية قصوى بالنسبة لليهود الأرثوذكس المتشددين. إذ لا يخدم غالبية المواطنين من اليهود الأرثوذكس المتشددين في الجيش، بل يدرسون التوراة بدوامٍ كامل في المعاهد الدينية، ويعيشون على المعونات الحكومية، وذلك بموجب اتفاقٍ غير رسمي عُقِدَ منذ تأسيس دولة الاحتلال عام 1948.
ويقول العديدون في دولة الاحتلال إنه ليس من العادل أن يتحمّل المواطنون من غير الأرثوذكس أعباء البلاد الأمنية والاقتصادية معاً.
ورفضت المحكمة العليا جميع المحاولات لتمرير قوانين تشرع ذلك الإعفاء منذ عام 1998، وذلك بحجة أنه سيمثل عدم مساواةٍ في معاملة المجتمع. وأدت تلك القرارات إلى إثارة مجموعةٍ من أكبر الاحتجاجات في تاريخ دولة الاحتلال.
"دراسة التوراة يجب أن تكون في مكانة الخدمة العسكرية"
توصّل اليهود المتشددون إلى اتفاقٍ مع نتنياهو على تمرير قانونٍ يجعل دراسة التوراة من القيم الوطنية الأساسية، مما سيضعها في نفس مكانة الخدمة العسكرية، ويمهد الطريق أمام الإعفاء الرسمي. لكن المشرعين من اليهود الأرثوذكس المتشددين يخشون ألا يصمد مشروع قانون الإعفاء، وذلك في حال عدم إصلاح القضاء وعدم توافر القدرة على نقض قرارات المحكمة العليا.
وعلى صعيدٍ آخر، دعت اتفاقات التحالف مع الأحزاب الأرثوذكسية المتشددة إلى إلغاء قرارات المحكمة العليا، التي ضمنت بعض الحقوق لليهود من غير الأرثوذكس.
وتشمل تلك القرارات اعتراف الدولة بحالات التحول إلى الديانة اليهودية، حتى لو لم تجر عبر القنوات الرسمية للأرثوذكس المتشددين. ودعت الاتفاقيات كذلك إلى سحب الحق الذي منحته المحكمة للطوائف اليهودية الأخرى، مثل اليهودية الإصلاحية واليهودية المحافظة. حيث كفلت المحكمة لتلك الطوائف حق الصلاة بما يتوافق مع تقاليدهم، ودون الفصل بين النوعين، عند حائط البراق في القدس المحتلة وغيرها من الأماكن المقدسة.
"الأحزاب اليمينية تريد احتكار الدين"
ويخشى البعض أن غياب تدخلات المحكمة العليا سيفتح الباب أمام الأحزاب الأرثوذكسية المتشددة لتحتكر دور الدين في الحياة العامة. حيث قالت شلوميت رافيتسكي تور-باز، من مركز أبحاث Israel Democracy Institute: "عندما نتحدث عن قضايا الدين والدولة، سنجد أن تنفيذ الإصلاحات القضائية… قد ينقض حقوق غالبية الإسرائيليين في الواقع، ومن بينهم أولئك الذين يعتبرون أنفسهم من اليهود العلمانيين، أو الأرثوذكس، أو الليبراليين، أو الأرثوذكس الحديثين".
ودعت اتفاقيات تحالف نتنياهو مع الأحزاب الدينية المحافظة إلى تعديل قوانين دولة الاحتلال التي تُعرّف ماهية التمييز. ولن يُعَدَّ الفصل بين النوعين بمثابةِ تمييز بموجب تلك التغييرات. مما قد يمهد الطريق أمام فرض الفصل بين النوعين داخل الحافلات والتجمعات العامة التي يتردد عليها المتدينون كثيراً، وهي الخطوة التي رفضتها المحكمة العليا في الماضي. وتأمل تلك الأحزاب كذلك في إنشاء مجتمعات تسمح بإقامة المتدينين فقط.
كما تريد الأحزاب السياسية الدينية أن تُقنِّن لمقدمي السلع والخدمات التمييز بين العملاء بناءً على معتقداتهم الدينية، وذلك بموجب اتفاقيات التحالف. وأوضح المشرعون المحافظون الذين يدعمون هذا التشريع أنه سيسمح للأطباء برفض علاج المثليين مثلاً، أو سيتيح لملاك الفنادق رفض استضافتهم في الغرف.
بينما قالت وزيرة المهمات الوطنية أوريت ستروك، عضوة حزب الصهيونية الدينية، إن التشريع يستهدف السماح للمتدينين بالعيش وفقاً لمعتقداتهم، وليس السماح بالتمييز ضد الآخرين. وأوضحت أن التعديلات قد جرى اختيارها تحديداً لمواجهة القرارات السابقة من المحكمة العليا والمستشارين القانونيين للحكومة. وفي مقابلةٍ مع هيئة البث الإسرائيلي الشهر الماضي، قالت أوريت: "أريد السماح للناس بفعل ما يحلو لهم دون أن يخبرهم القانون أن تصرفهم يُعدُّ تمييزاً"، حسب تعبيرها.