يثير لجوء مصر لثالث مرة إلى صندوق النقد الدولي في عهد الرئيس عبد الفتاح السيسي، وقبل ذلك التعثر المتكرر للأرجنتين عن سداد ديونها وهي أكبر مقترض من الصندوق، تساؤلاً جوهرياً، هل سقوط الدول التي تلجأ للصندوق النقد في دوامة الديون وأحياناً الإفلاس سببه سياسات صندوق النقد أم العيب في سياسات هذه الدول؟
ولطالما تعرض صندوق النقد الدولي لانتقادات بسبب التأثير المرهق الذي يمارسه على السياسات المحلية للعديد من الدول. منذ التسعينيات على وجه الخصوص، تم انتقاده لفرض سياسات – مثل إصلاحات التكيف الهيكلي وتدابير التقشف، التي تعمق عدم المساواة في جنوب الكرة الأرضية، والتي بدورها تفيد البلدان القوية في شمال الكرة الأرضية.
الصندوق يدعم الرئيس الأرجنتيني في الانتخابات
ويُتهم صندوق النقد الدولي بتدخله في الشؤون الداخلية للدول ذات السيادة من أجل عولمة شكل مفرط التحرر من الرأسمالية تحت هيمنة الولايات المتحدة.
خلال الثلث الأول من عام 2022، نزل آلاف الأشخاص إلى شوارع الأرجنتين، للتعبير عن غضبهم من صندوق النقد الدولي، الذي يقول سكان هذا البلد الغني بموارده والمشهور بسهوله الواسعة الخصبة إنه سبب مآسي لهم لعقود (الأرجنتين كانت صاحبة واحد من أعلى الدخول في العالم في بداية القرن العشرين).
تتبع خطط صندوق النقد مع الأرجنتين نمطاً مألوفاً الآن: قروض الصندوق مصحوبة بمطالب بتقليص الخدمات العامة والمدفوعات المالية الاجتماعية، وبيع الشركات الحكومية، وشروط يقول المعارضون إنها تحمي ثروة القلة، مما أدى لتفاقم عدم المساواة والفقر وانعدام الأمن، حسبما تقول الاقتصادية والسياسية الأرجنتينية فرناندا فاليجوس في مقال نشره موقع theintercept الأمريكي.
بيونيس إيريس نالت 56 مليار دولار في 2018، وها هي مهددة بالتعثر مجدداً
في عام 2018، منح صندوق النقد الدولي أكبر قرض في تاريخه للأرجنتين – 56.3 مليار دولار، وفرض على البلاد سنوات من سياسات التقشف والخصخصة، وقيدت البلاد بجدول سداد ديون قاس.
لم يكن توقيت اتفاق صندوق النقد الدولي لعام 2018 مع الأرجنتين، الذي اكتمل قبل عام من الانتخابات الرئاسية، من قبيل الصدفة. وتم إخفاء التفاصيل عن الجمهور.
وزعم وزير المالية الأرجنتيني، مارتن غوزمان، أن ممثل الولايات المتحدة في مجلس إدارة صندوق النقد الدولي في ذلك الوقت اعترف بأن النية كانت لأن يؤثر القرض في الانتخابات لصالح الرئيس اليميني الموجود في ذلك الوقت ماوريسيو ماكري، حليف الولايات المتحدة آنذاك.
خسر المرشح المفضل للصندوق حسب وصف فرناندا فاليجوس، لكن الفائز، ألبرتو فرنانديز، أصبح عالقاً في القرض، وكان عليه سداد 20 مليار دولار في عام 2022، وتعد الأرجنتين أكبر مقترض من الصندوق تليها مصر، ومازالت بيونيس أيرس من الدول المرشحة في السقوط في فخ التعثر عن سداد الديون ضمن نحو 40 دولة على مستوى العالم.
ورفع البنك المركزي الأرجنتيني في سبتمبر/أيلول 2022، سعر الفائدة القياسي للبلاد بمقدار 550 نقطة أساس إلى 75٪، بعد يوم من تجاوز التضخم للتوقعات وبلوغه ما يقرب من 80٪ على أساس سنوي.
شهادة حسن السير من الصندوق لازمة للاقتراض من الآخرين
مارس صندوق النقد الدولي ضغوطاً هائلة على الدول التي تتلقى قروضاً – من الأرجنتين إلى كازاخستان إلى تايلاند في التسعينيات- مطالباً إياها بالالتزام بالتقشف والتحولات الكبرى في اقتصاداتها المحلية.
عدم الموافقة على هذه الشروط لا يضر فقط بمساعدة صندوق النقد الدولي؛ بل أنه يؤثر على قدرة الدول على الوصول لمصادر أخرى لرأس المال الأجنبي، حيث شهادة الصندوق بحق اقتصاد أي بلد يستخدمه مقرضون آخرون لتحديد الجدارة الائتمانية لهذا البلد.
وهذا ما يحدث مع مصر حالياً، حيث يبدو أن دول الخليج رغم أنها قد تكون المانح الرئيسي لمصر هذه المرة (يفترض أنها ستقدم لمصر نحو 14 مليار دولار مقابل 3 فقط من الصندوق)، إلا أنها تشترط الالتزام بشروط الصندوق، كما ظهر من تصريح وزير المالية السعودي محمد الجدعان الذي قال في منتدى دافوس مؤخراً، إن بلاده غيّرت طريقتها في تقديم المنح والمساعدات إلى الدول المجاورة، موضحاً أنها ستكون مشروطة بحدوث "إصلاحات"، وأضاف قائلاً"نقوم بالعمل مع مؤسسات متعددة الأطراف"، في إشارة لصندوق النقد الدولي على الأرجح.
في معظم الحالات كان صندوق النقد الدولي يصر على نفس النوع من إصلاحات السوق في الجنوب العالمي ودول الكتلة الشرقية ما بعد الشيوعية.
وبالنظر إلى هيمنة وزارة الخزانة الأمريكية على صندوق النقد الدولي، غالباً ما كان نفس الأشخاص الذين يشرفون على هذه التحولات في الاقتصاد الأمريكي هم الذين كانوا يطالبون بها في أماكن مثل روسيا أو إندونيسيا.
وفي معظم الأحوال كانت المعارضة وكثير من نشطاء اليسار في العالم يتهمون صندوق النقد بالمسؤولية عن معاناة الشعوب والدول التي يقرضها، وكثيراً ما كانت هذه الحكومات تكرر نفس الاتهامات وتتملص من شروط صندوق النقد إذا استطاعت لذلك سبيلاً.
ولكن ما هي هذه الشروط، وهل تكرار تعثر الدول المقترضة من الصندوق هو نتيجة سياسات صندوق النقد الدولي أم عيوب سياسية واجتماعية هيكلية في هذه الدول؟
أبرز شروط وسياسات صندوق النقد الدولي
لم تتغير وصفة صندوق النقد، تتجه له الدول التي تعاني من عجز في الميزانية وأزمة في العملات الأجنبية، تؤثر على عملتها، وتهدد بعدم قدرة البلاد على الاستيراد، بل أحياناً على تلبية ميزانيتها.
وفي كل الأحوال يفرض الصندوق شروطاً أو كما يسميها إصلاحات، تطالب بتدابير تقشفية أولها تقليل أو إلغاء الدعم على السلع خاصة الوقود، وتحرير العملة بما يعني فعلياً تخفيضها، وتحرير التجارة الخارجية وتقليص دور الحكومة في الاقتصاد، بما في ذلك بيع الشركات المملوكة للحكومة، ورفع سعر الفائدة، وأحياناً تجميد زيادة الرواتب، وتقليل عدد موظفين الحكومة، وغير ذلك من الشروط القاسية.
من الصعب القول إن كل الدول التي لجأت لصندوق النقد الدولي تعثرت بعد ذلك، ودخلت في دوامة استدانة، نجحت بعض الدول التي لجأت للصندوق من التخلص من أزماتها، ولو بعد حين، ولم تعد للصندوق حتى الآن، هناك نماذج مثل روسيا وتركيا والعديد من دول جنوب شرق آسيا، مثل إندونيسيا وتايلاند.
ماليزيا تمردت عليه في عهد مهاتير محمد.. فماذا جرى لها؟
ولكن هناك النموذج الأكثر ثورية في التمرد على الصندوق، ماليزيا خلال الأزمة المالية الآسيوية في 1997-1998، حيث رفض رئيس وزرائها في ذلك الوقت مهاتير محمد توصيات صندوق النقد، ومن بينها اتخاذ تدابير تقشفية على رأسها رفع سعر الفائدة.
ونجح مهاتير محمد آنذاك في إنقاذ بلاده من الأزمة أسرع من جيرانه الآسيويين الذين تفاقمت معاناة بعضهم لفترة؛ مما أدى إلى الإطاحة في حال إندونيسيا بالديكتاتور محمد سوهارتو عام 1997.
في المقابل، هناك العديد من الدول الناشئة والنامية في إفريقيا وأمريكا اللاتينية وآسيا التي عادت مراراً لصندوق النقد الدولي.
هل المطالبة بتخفيض الدعم خطأ؟
تحديد موطن الخطأ في قصة تعثر الدول المعتمدة على الصندوق ليس بالأمر اليسير.
فرغم الانتقادات الموجهة للصندوق، تبدو كثير من إصلاحاته بديهية.
عندما تواجه دولة ما أزمة مالية فطبيعي أن تحاول تقليل نفقاتها بترشيد الدعم، وهو الشرط الأكثر تسبباً للانتقادات للصندوق، ولكن رغم هذا الانتقاد، فالتجارب الواقعية تشير إلى أن دعم المحروقات وأحياناً الغذاء أمر غير اقتصادي، لأن السلع الرخيصة والمدعومة تؤدي إلى زيادة الاستهلاك بشكل مفرط وبمعدل أعلى من النمو الاقتصادي، كما يشجع ذلك الهدر، والفساد والسوق السوداء، وتهريب الوقود الرخيص لدول الجوار، مثلما كان يحدث في مصر قبل رفع أسعار الوقود، حيث كانت سفن الصيد المصرية تبيع الوقود للسفن الأجنبية في البحر المتوسط، وفي سوريا حيث كان يعد تهريب الوقود للبنان تجارة رائجة وغيرها من النماذج.
كما أن هناك مبالغة من قبل المنتقدين في الحديث عن تأثير الوقود في أسعار النقل، حيث لا يمثل الوقود سوى جزء ضئيل من تكلفة النقل، كما أن بيع الوقود بسعره الطبيعي المرتفع يشجع على سلوكيات موفرة للطاقة.
وبات الصندوق لا يكتفي بالمطالبة بإلغاء الدعم العيني، حيث أصبح حديثاً يطالب في المقابل بتعزيز الدعم النقدي الأكفأ للفقراء بشكل انتقائي يستهدف المحتاجين فعلاً (رغم أن هذا أمر صعب في معظم دول العالم الثالث)، ويشجع الصندوق برامج التكافل الاجتماعي والصحي (مثل برنامج تكافل وكرامة في مصر)، والإنفاق على التعليم والصحة، الذي تتجاهله عادة دول العالم الثالث.
كما أن مطالبة الصندوق بتقليل النفقات الحكومية عبر محاربة الفساد وترشيد مشروعات البنية الأساسية مطلب منطقي، خاصة أن أغلب دول العالم الثالث تعمد حكوماتها للتوسع في مشروعات البنية الأساسية بشكل غير مدروس في الأغلب، ولأهداف سياسية أو دعائية.
وماذا عن تخفيض العملة؟
أما تحرير سعر العملة الذي هو مطلب أساسي للصندوق، رغم أضراره الجانبية جراء انخفاضها، فإنه يساعد على إنهاء السوق السوداء التي تزدهر بوجود سعرين للعملة جراء تسعيرها غير الواقعي، مما يمثل استنزافاً لموارد أي بلد فقير.
كما أن انخفاض سعر العملة يؤدي لتقليل الواردات وزيادة الصادرات، الأمر الذي يقلل العجز التجاري والعجز في ميزان المدفوعات، ورغم آثاره التضخمية، فإن تخفيض العملة يمكن أن يؤدي لدورة من النمو الاقتصادي جراء زيادة الصادرات، ويالتالي يتيح فرصة لاحقة للتغلب على التضخم.
رفع سعر الفائدة مشكلة للشركات المحلية
على الجانب الآخر، فإن رفع سعر الفائدة رغم أنه الشرط الأقل إثارة للجدل بين الشعوب والنشطاء غير الاقتصاديين، فإنه الأكثر مدعاة للقلق من قبل رجال الأعمال والاقتصاديين؛ لأنه يؤثر على النشاط الاقتصادي عبر تشجيع الناس على وضع أموالهم في البنوك وعدم استثمارها، ويزيد أعباء القروض على الشركات، الأمر الذي يؤثر على الإنتاج والتوظيف.
ولكن يعتبر الصندوق أن رفع الفائدة هو قرار مؤقت لكبح التضخم والاستيراد، وتعزيز الإقبال على العملة المحلية بعد تراجع قيمتها.
أردوغان خالف الصندوق وخفض الفائدة، وها هي الليرة تتجه للاستقرار
وأشهر نموذجين للتمرد على الصندوق كان تمردهما على هذا الشرط، ففي أواخر التسعينيات، رفض رئيس وزراء ماليزيا في ذلك الوقت مهاتير محمد طلب الصندوق رفع الفائدة، كما تجاهلت تركيا مؤخراً دعوة الصندوق (وفي الحقيقة دعوات كل المؤسسات المالية في العالم) رفع الفائدة، (لم يقدم الصندوق أي برامج لتركيا منذ عقود، ولكن دعوته لرفع الفائدة جاءت ضمن نصائح وتقييمات عامة عن العديد البلدان).
وخلال زيارته لتركيا في أكتوبر/تشرين الأول 2022 أشاد بتجربة البلاد الاقتصادية وخاصة تغلبها على جائحة كورونا، ولكن كرر مطالبته برفع الفائدة على الليرة.
وأصر الرئيس التركي رجب طيب أردوغان على سلسلة من التخفيضات على سعر الفائدة أوصلتها من أعلى من 20% إلى أقل من 10%، والمفارقة أن الليرة استقرت رغم تحذيرات الصندوق والخبراء الاقتصاديين.
ولكن حالتي تركيا وماليزيا، مختلفتان عن الحالات التقليدية للصندوق.
كانت حالة ماليزيا، نابعة من أزمة إقليمية لم تخلقها البلاد، بل حدثت في جوارها الآسيوي نتيجة حالة من الفوران والنمو الاقتصادي غير المنضبط صاحبتها حرية حركة رأسمال قاربت الفوضى، وشجعت المضاربات، عبر سلسلة طويلة من الاقتراض غير المأمون وغير الشفاف في دول المنطقة، ولكن البنية الاقتصادية في المنطقة ولا سيما الصناعية كانت قوية.
وكانت وجهة نظر مهاتير محمد أن رفع الفائدة والسياسات التقشفية معناه تراجع اقتصادي، ودورة من الكساد ستؤثر على الضرائب؛ أي موارد الدولة.
ورأى أن ما تحتاجه البلاد هو فرض السيطرة على النظام المالي وليس إجراءات تقشفية؛ لأن هيكل الاقتصاد الماليزي ولا سيما الإنتاجي قوي.
ولذا فرض قيوداً لوقف الفوضى المالية والمضاربة على العملة المحلية (الرينغيت الماليزي) وليس تخفيضها؛ وكان أبرز قرارته تقييد تداول الرينغيت في الخارج، ريثما تمر العاصفة.
وكانت وجهة نظره أن تخفيض العملة في ظروف الفوضى هذه سيؤدي لدوامة من الانهيار في أسعارها، وحدث ما توقع في دول الجوار، بينما نجح نموذجه الذي بات الأشهر في تحدي سياسات صندوق النقد الدولي.
بالنسبة لتركيا، فقد لجأت لصندوق النقد في نهاية التسعينيات لمواجهة أزمة مالية كارثية، أدت لتغيير سياسي تكلل بوصول حزب العدالة والتنمية للسلطة في بداية القرن الحادي والعشرين، حيث نفذ برامج إصلاح اقتصادية ناجحة أدت لنمو اقتصادي لافت وزيادة في الصادرات.
ولكن حدثت أزمات لليرة التركية خلال السنوات الماضية، لأسباب مختلفة أدت لتعرضها لتراجعات حادة، رغم النمو الاقتصادي الكبير للبلاد.
وخالف أردوغان الآراء الاقتصادية السائدة ونصائح المؤسسات المالية، بما فيها صندوق النقد واقتصاديي بلاده، ومنهم عدد من محافظي البنك المركزي التركي، وأصر على تخفيض سعر الفائدة، مراهناً على أن النمو هو الذي سوف يحقق الاستقرار الاقتصادي، حتى لو أدى لتراجع مؤقت لليرة وتزايد التضخم، خاصة إذا عالج التضخم برفع الأجور.
وحتى الآن حققت الليرة التركية استقراراً لافتاً في النصف الثاني من عام 2022، رغم الأزمة الأوكرانية التي تأثرت بها تركيا بشدة وهي الشريك الكبير لموسكو وكييف، والمستورد الكبير للطاقة، مع رفع الحد الأدنى للأجور ثلاث مرات.
لماذا تختلف الحالتان التركية والماليزية عن أغلب تجارب الصندوق؟
لا تعني الحالتان التركية والماليزية أن صندوق النقد دوماً على خطأ، ولكنها تظهران قصوراً وفقراً في التفكير لدى الصندوق، الذي يقدم روشتة تكاد تكون ثابتة لكل الدول بصرف النظر عن ظروفها.
فالحالتان الماليزية والتركية مختلفتان عن معظم الحالات التي عالجها صندوق النقد، فالدولتان لا تعانيان من عجز كبير في المالية العامة ولا فساد أو سوء إدارة كبيرين، بل على العكس تمثلان نموذجين للاقتصاد التصديري، القوي والكفؤ الذي تعتبره الشركات متعددة الجنسيات ساحة مفضلة، كما أن شركات البلاد المحلية ناجحة للغاية وتتسم بمستوى جيد من الحوكمة والانفتاح والشفافية.
ولكن المشكلة الماليزية كانت فوضى مالية، أغلب أسبابها خارجية وإفراط في المضاربة الدولية على العملة الوطنية استلزمت حمايتها عبر قيود على تداولها مع إبقاء النمو الاقتصادي عبر تجنب رفع الفائدة، عكس روشتة الصندوق التقليدية.
وأزمات الليرة التركية ناجمة عن تفاقم عجز الميزان التجاري، جراء ارتفاع الواردات التركية لأسباب عدة، منها أن أنقرة مستورد كبير للطاقة، كما أنه رغم صادراتها الكبيرة، فإن كثيراً من سلعها المصدرة ليست ذات قيمة مضافة عالية وبها مكون أجنبي كبير، إضافة للأزمات السياسية، والخلاف التركي مع الغرب ودول الخليج وروسيا في بعض الأوقات الذي ضغط على الاقتصاد التركي معنوياً، إضافة لسلسلة من الأزمات مرتبطة بسوريا والإرهاب وجائحة كورونا التي أثرت على السياحة التي تمثل مصدر دخل شديد الأهمية لتركيا.
وتبين لأردوغان أن الدفاع عن الليرة عبر استنزاف احتياطي الدولار، مسار ليس له نهاية، كما أن رفع الفائدة لتشجيع الناس على الاحتفاظ بالليرة لن يفيد إلا المضاربين، بينما سيفاقم ديون البلاد، وسيضر المنتجين، فقرر خفض الفائدة، مقابل توفير حماية للمودعين المحليين إذا تراجعت الليرة عبر تعويضهم عن الفارق.
في المقابل، راهن أردوغان على أن تخفيض الفائدة والذي يعلم أنه سيصاحبه بعض الانخفاض في سعر العملة، سيعزز النمو الاقتصادي وبالأخص قطاعي التصدير والسياحة، وبالتالي تقليل فجوة ميزان المعاملات الجارية وميزان المدفوعات الذي هو المشكلة الأساسية في الاقتصاد التركي مع تحسين العلاقات مع الكتل المالية الرئيسية المحيطة بتركيا مثل الغرب وروسيا والخليج، لتعزيز التجارة والاستثمار معها، بما في ذلك إيداعها أموالاً لدى أنقرة.
لا تعني تجربتا تركيا وماليزيا أنه يجب على الدول النامية رفض سياسات صندوق النقد الدولي، خاصة أن كثيراً من الدول المعتمدة على الصندوق، لا تمتلك رؤية أفضل من رؤيته على أوجه قصورها.
البعض التزم بشروط الصندوق ثم نجح لاحقاً
هناك دول التزمت بشروط صندوق، ونجحت حتى ولو بعد حين، وتعتبر إندونيسيا التي عانت كثيراً من الأزمة المالية الآسيوية في التسعينيات، نموذجاً.
فبعد انهيار النظام السابق في هذه الدولة الآسيوية الكبيرة، ودخولها في أزمة اقتصادية خانقة لسنوات، تحولت إندونيسيا بعد أعوام صعبة لدولة ديمقراطية راشدة نسبياً، لديها مؤسسات ناجحة، ولم تكرر الأخطاء السابقة من التوسع في الديون وترك الفساد على عواهنه، والاتفاق غير الرشيد، وباتت العملة الإندونيسية مستقرة نسبياً ولدى البلاد اقتصاد منفتح بقاعدة إنتاجية صناعية زراعية كبيرة.
أما أحد شروط صندوق النقد الأكثر إثارة للجدل، فهي موقفه من التجارة الدولية وحقوق الشركاء الأجانب.
فدوماً يشترط صندوق النقد على الدول التي يفرض عليها برامجه الالتزام الحرفي بحرية التجارة الخارجية أي عدم فرض قيود على الاستيراد.
ومع أن حرية التجارة الخارجية باتت مسألة مبدئية في الاقتصاد في العصر الحالي، إلا أن إصرار الصندوق على التمسك الحرفي بها في أوقات الأزمات، ليس فقط من سبيل المبادئ، بل لأنه يمثل مصالح الدول التي تموله التي تريد إبقاء أسواق الدول النامية مفتوحة.
وهو أمر مثير للجدل؛ لأن ما تتجاهله أغلب الأدبيات الغربية الليبرالية الاقتصادية الملهمة عادة للصندوق أن أغلب التجارب الاقتصادية الناجحة في العالم، شهدت شكلاً من أشكال تفضيل المنتج المحلي، سواء عبر تعريفات جمركية أو قيود فنية أو بيروقراطية غير معلنة أو حتى عبر الحشد الإعلامي، فضلاً عن دعم المنتج المحلي عبر تخفيض سعر العملة.
ولكن الشرط الأساسي لهذا التفضيل للمنتج المحلي في هذه التجارب التي تظهر بشكل أساسي في آسيا هو أن يكون هذا المنتج لديه فرصة تنافسية وأن هذا التفضيل بمثابة مهلة وأداة للتحفيز والتدريب وليس قوقعة للتكاسل.
أما شرط الصندوق المثير للجدل الآخر، فهو حرصه على المستحقات المالية للشركاء الأجانب سواء قروض أو تحويلات مالية للشركات الأجنبية، ورغم أنه يبدو شرطاً منطقياً، ومفيداً للاقتصاد، إلا أن إعطاءه أولوية على حقوق الفاعلين المحليين يبدو أنه تعبير الصندوق عن مصالح مموليه الكبار.
الخلاصة: هل يجب الاستجابة لشروط الصندوق؟
رغم أوجه القصور في إصلاحات وسياسات صندوق النقد الدولي وافتقادها للخيال الإيجابي الذي ميز التجارب الاقتصادية الناجحة في العالم، فإنه يظل أفضل من الخيال المدمر الذي يتسم به كثير من حكام دول العالم الثالث وأودي ببلادهم إلى أزمات دفعتهم لحضن الصندوق غير المريح.
في كثير من الأحيان يقول الصندوق أو يفرض حقائق بديهية لا يستطيع الفاعلون المحليون قولها أو لا يعرفونها بسبب غلبة العقلية الشعبوية، مثل مطالبته حكم العالم الثالث بوقف مشروعات البنية الأساسية الباذخة أو غير الضرورية أو ترشيد دعم الوقود الذي يذهب أغلبه لغير مستحقيه.
كما أنه في كثير من الأحوال فإن المشكلات تظهر في الدول المقترضة من الصندوق، لأنها لم تنفذ طلباته، في مصر عام 2016، طلب الصندوق خلال توقيعه اتفاق قرض ضخم بقيمة 16 مليار دولار من الحكومة المصرية التمسك بسياسة تحرير سعر الصرف، وتقليل المشروعات القومية.
ما حدث بعد أن خرجت البلاد من أزمة 2016، أن البنك المركزي رفع سعر الجنيه، ثم ثبته بطريقة غير رسمية الأمر الذي أدى إلى إنهاء التعويم بشكل واقعي، كما بالغ في رفع أسعار الفائدة لاجتذاب الأموال الساخنة، وتوسعت الحكومة في المشروعات القومية، وأدت العوامل السابقة (التي هي كلها مخالفة لنصائح الصندوق) لتفاقم الديون ثم جاءت الحرب الأوكرانية لتدخل البلاد في أزمة جديدة.
كما تظهر تجربتا روسيا وإندونيسيا اللتين لم تحتاجا للعودة للصندوق بعد أزمتيهما الكبيرة في التسعينيات، أن سبب دخول بعض الدول المقترضة من الصندوق دوامة القروض والتعثر مجدداً نابع في الأغلب، من حكام هذه الدول وليس من سياسات صندوق النقد الدولي.
ولكن تظل روشتة الصندوق المكررة ومحدودة التطوير مجرد وسيلة للخروج من الأزمات ودعوة لتطبيق المبادئ الاقتصادية البديهية التي يتجاهلها حكام دول العالم الثالث ومعارضوهم على السواء، وأبرزها ألا تتوسع في الاقتراض والإنفاق، وأن تهتم بالصناعة، وألا تدعم واردات الدول المنافسة برفع سعر عملتك لمستوى غير واقعي وأن تحارب الفساد، وألا تمتلك الحكومة مرافق الإنتاج لأنها لا يجب أن تكون طرفاً وقاضياً في الوقت ذاته، بل يجب أن تكون شروط المنافسة متساوية للجميع.
ولا يعني هذا أن روشتة صندوق النقد هي بمثابة تمهيد لنهضة أو معجزة اقتصادية مثل الصين واليابان وكوريا، فمثل هذه التجارب الرائدة تحتاج إلى رؤية اقتصادية وسياسية واجتماعية بها قدر من الابتكار وفهم لشروط النهضة وطبائع الشعوب أعلى كثيراً مما هو متوافر لدى بيروقراطية الصندوق وخبرائه الذين يظلون في الوقت ذاته أفضل على عيوبهم من بيروقراطية وحكام أغلب دول العالم الثالث المضطرة للجوء للصندوق.