فجرت استقالة رئيسة وزراء نيوزيلندا، جاسيندا أرديرن، الصادمة تساؤلات عدة، منها تراجع "العمر الافتراضي" للسياسيين في الدول الديمقراطية خلال العقدين الماضيين، فما علاقة منصات التواصل الاجتماعي بهذا التحول الدرامي؟
كانت أرديرن قد أصدرت، الخميس 19 يناير/كانون الثاني، إعلاناً بأنها لم تعد قادرة على مواصلة قيادة البلاد وستتنحى في موعدٍ أقصاه أوائل فبراير/شباط المقبل، ولن تسعى لإعادة انتخابها.
وقالت أرديرن (42 عاماً)، وهي تغالب دموعها، إن الأعوام الخمسة والنصف التي أمضتها في رئاسة الوزراء كانت صعبة، وإنها مجرد بشر وتحتاج إلى التنحي، وأضافت في مؤتمر صحفي: "هذا الصيف كنت آمل أن أجد طريقة للاستعداد ليس فقط لعام آخر بل لولاية أخرى، لأن هذا هو ما يتطلبه هذا العام. لكن لم أتمكن من ذلك".
نعم، الزعماء بشر، ولكن!
بررت جاسيندا، التي أصبحت رئيسة لوزراء نيوزيلندا عام 2017 وكانت وقتها في سن 37 عاماً فقط لتصبح أصغر امرأة تتولى رئاسة الحكومة في العالم، قرارها المفاجئ والصادم لكثيرين داخل نيوزيلندا وخارجها، بأنها "لم تعد قادرة على العطاء".
وقالت في مؤتمر صحفي: "أعلم أنه سيكون هناك كثير من النقاش في أعقاب هذا القرار حول ما يسمى بالسبب (الحقيقي)… الجانب الوحيد المثير للاهتمام الذي ستجدونه هو أنني، وبعد المرور بست سنوات من التحديات الكبيرة، بشر"، مضيفة: "الساسة بشر. إننا نقدم كل ما في وسعنا، لأطول فترة ممكنة، ثم يحين الوقت. وبالنسبة لي، لقد حان الوقت".
كانت أرديرن قد ظهرت على الساحة الدولية لأول مرة في عام 2017، عندما أصبحت أصغر رئيسة حكومة بالعالم في سن 37، وأطلقت بشغفٍ حملة من أجل حقوق المرأة ووضع حد لفقر الأطفال وعدم المساواة الاقتصادية في البلاد.
وبعد ثمانية أشهر من توليها رئاسة الوزراء، أصبحت ثاني زعيمة منتخبة تلد في أثناء توليها المنصب، بعد رئيسة الوزراء الباكستانية بناظير بوتو. واعتبرها كثيرون جزءاً من موجة من القيادات النسائية صاحبات النهج التقدمي، مثل رئيسة الوزراء الفنلندية سانا مارين.
وترسخ أسلوبها القيادي المتعاطف من خلال رد فعلها على إطلاق النار بمسجدين في كرايستشيرش في عام 2019 والذي أسفر عن مقتل 51 مسلماً وإصابة 40 آخرين. وقال فريد أحمد، وهو أحد الناجين من المذبحة وقُتلت زوجته فيها، لـ"رويترز": "دعوتها العالمية إلى الوحدة بين البشر بتعاطف جعلتني أبكي بفرح في ذلك الوقت، وتجعلني أبكي الآن". وأضاف: "لطفها وحكمتها وجهودها من أجل عالم يسوده السلام كانت مثالاً رائعاً لقادة العالم".
وسرعان ما وصفت أرديرن الهجوم بأنه "إرهابي" وارتدت الحجاب عندما التقت الجالية المسلمة في اليوم التالي، وقالت لهم إن البلد بأكمله "متَّحد في الحزن". وقطعت وعداً بإصلاح رئيسي لقانون الأسلحة وأوفت به في غضون شهر.
ثم جاءت جائحة فيروس كورونا لتؤكد المعدن الصلب والنادر لنوعية القائد التي تجسدها أرديرن، إذ نالت رئيسة الوزراء استحساناً من الأطياف السياسية كافة، بسبب استراتيجيتها في التعامل مع الجائحة، ففرضت إجراءات من بين الأكثر صرامة في العالم، لكنها أسفرت أيضاً عن واحد من أقل معدلات الوفيات.
ورغم ذلك، بدأت شعبية أرديرن في التراجع خلال العام الماضي، في ظل زيادة التضخم إلى أعلى مستوياته في 30 عاماً تقريباً، وارتفاع معدلات الجريمة. وأصبحت البلاد منقسمة سياسياً بشكل متزايد حول قضايا مثل إصلاح حكومي للبنية التحتية للمياه وبرنامج للانبعاثات الزراعية. وتراجعت شعبية أرديرن وحزب العمال في استطلاعات الرأي.
لماذا تراجع العمر الافتراضي للزعماء الغربيين؟
لكن بعيداً عن حالة أرديرن في نيوزيلندا، والتي اكتسحت منافسيها وصولاً إلى السلطة عام 2017، لتصبح رئيس الوزراء الـ40 لنيوزيلندا بفضل موجة الدعم الشعبوية التي وُصفت بـ"هوس جاسيندا"، يبدو أن أغلب الدول الديمقراطية تشهد مؤخراً ظاهرة "تدوير" الزعماء بصورة متكررة، فماذا يحدث؟
صحيفة The Times البريطانية نشرت تحليلاً عنوانه "لماذا أصبحت فترة صلاحية زعماء عالمنا قصيرة؟"، انطلق مما حدث لجاسيندا أرديرن، إذ بعد مضي خمس سنوات ونصف السنة من نجاحها في أن تصبح أصغر أنثى على رأس حكومة في العالم وهي في عمر الـ37، خرجت جاسيندا الآن لتُعلن استقالتها قائلةً إنها لم تعد تمتلك "الطاقة الكافية" للقيادة.
إذ قد ينسب المتهكمون عدم بقاء جاسيندا في السلطة إلى كونها أول زعيمة من "جيل الألفية"، لكن يبدو أن قرار جاسيندا يعكس اتجاهاً سائداً على مستوى العالم. إذ من الواضح أن فترة صلاحية القادة السياسيين من مختلف الأجيال أصبحت أقصر.
ولا يبدو أن الزعماء يستمرون فترات طويلةٍ اليوم كما كان الحال في السابق، بدايةً بالرئيس الأمريكي السابق، دونالد ترامب الذي حكم لفترةٍ واحدة، وصولاً إلى رؤساء الوزراء الستة في إيطاليا خلال 10 سنوات، وانتهاءً بسياسة الباب الدوار التي شهدتها بريطانيا عام 2022.
كما شهد العالم حالات مثل استسلام شخصيات مثل ديفيد كاميرون بمجرد خسارته استفتاء الخروج من الاتحاد الأوروبي، وذلك قبل أن تتفشى جائحة كورونا، التي جعلت مهمة رئيس الوزراء اليوم أصعب من المعتاد. بينما تعقد نيوزيلندا انتخاباتها كل ثلاث سنوات، لكن آخر مرة حكمتها حكومة ما لفترةٍ واحدة كانت في 1972.
وصحيحٌ أن فيروس كورونا مثّل محنةً لا تتكرر في العمر مرتين، وأثّر على العديد من القادة، لكن ما الذي أصاب المرونة السياسية يا تُرى؟ إذ تنص القاعدة العامة على أن الناخبين يسأمون أصحاب السلطة بعد 10 سنوات من الحكم، فلماذا يقفز العديد من القباطنة من سفنهم قبل أن تغرق حياتهم المهنية فعلياً؟
شهدت الديمقراطيات القديمة ظهور 68 زعيماً جديداً في العقد الثاني من القرن الـ21، وهو أكبر معدل مسجل منذ 40 عاماً. لكننا شهدنا تولي 22 زعيماً جديداً للسلطة منذ تفشي الجائحة عام 2020، مما يعني أن العقد الجاري قد يتفوق على جميع العقود السابقة من حيث معدل تدوير القادة.
وتربعت النمسا على عرش قائمة الدول ذات الزعماء الجدد منذ عام 2010، وذلك بتبديلها رؤساء الحكومة في ثماني مناسبات. وتليها اليونان بسبعة تغييرات، ثم أستراليا وفنلندا وإيطاليا بستة تغييرات. ولا تحتل المملكة المتحدة موقعاً بعيداً في القائمة، حيث شهدت خمسة رؤساء مختلفين للحكومة منذ عام 2010. فما الذي يحدث؟
منصات التواصل الاجتماعي في قفص الاتهام
ماثيو غودوين، أستاذ كلية السياسات والعلاقات الدولية في جامعة كينت، قال للصحيفة البريطانية إن منصات التواصل الاجتماعي ودورات الأخبار المنهكة على مدار الساعة تلعب دوراً رئيسياً في هذه الظاهرة.
إذ كان القادة يتمتعون بالوقت الكافي للتفكير في الأخطاء وصياغة الردود المحسوبة قبل ظهور الإنترنت. أما العصر القائم على الوسوم/الهاشتاغات، فبدأ يفرض عليهم المساءلة والاعتذار فوراً، بينما تُقابَل السياسات غير الرائجة بدعوات الاستقالة قبل دخولها حيز التنفيذ.
وأوضح غودوين: "لم يمض وقت طويل منذ أن أخبرونا بأن جاسيندا أرديرن هي النجمة الجديدة التي ستعيد صياغة النظام الغربي. لكننا شهدنا تأثير الأزمات المتعاقبة على مدار العامين الماضيين، بما في ذلك ارتفاع التضخم وتكاليف المعيشة، مما صعّب على شاغلي المناصب مهمة الاحتفاظ بتحالف الداعمين على المدى الطويل.
"لكن منصات التواصل الاجتماعي أدخلت بعداً جديداً إلى عالمنا السياسي. ونعلم أن الناخبين أصبحوا يغيرون وجهات نظرهم السياسية اليوم أكثر من أي وقتٍ مضى. إذ بدّل 60% من الناخبين البريطانيين انتماءاتهم الحزبية على مدار السنوات الـ10 الماضية، أي إننا نشهد معدلات تقلّب قياسية في حيواتنا السياسية.
"ويبدو أن زمن الولاءات القديمة قد ولّى، وأصبحنا اليوم أمام تقلبات كبيرة لم نشهد مثلها من قبل. وأعتقد أن هذه الصيحة تجلت لدى الديمقراطيات الغربية الأخرى، حيث شهدت دول مثل السويد وكوريا الجنوبية معدلات مشابهة من الاضطراب السياسية".
ويوافقه في الرأي السير أنتوني سيلدون، مؤلف كتاب "المنصب المستحيل: تاريخ رئاسة وزراء بريطانيا The Impossible Office The History of the British Prime Minister"، حيث أشار سيلدون إلى عامل آخر من عوامل الحياة المعاصرة، وهو كثافة الاتصالات الآنية التي يبدو أنها تتطلب ردوداً فورية.
إذ كانت مارغريت ثاتشر تنام أربع ساعات فقط، لأنها كانت تأخذ القيلولة في مؤخرة سيارتها من طراز دايملر، بينما يتوقع الناس من غالبية الساسة اليوم أن يردوا على رسائل البريد الإلكتروني أثناء التنقل.
وأوضح السير أنتوني قائلاً: "تكمن المفارقة في أننا نتوقع من الشخصيات الأصغر أن تتمتع بصحةٍ ومرونة عقلية أفضل، لكنهم يغادرون المنصب مبكراً. وكان رؤساء الوزراء يرحلون في السابق نتيجة اعتلال صحتهم وقرب وفاتهم. لكن تعقيدات الوظيفة زادت بلا شك، كما هو الحال مع انقسامات الأحزاب. ويبدو أن المطالب الهائلة للوظيفة قد زادت أيضاً".
وأردف السير أنتوني: "سيقول أي شخصٍ ساخر، إن جاسيندا أرديرن تغادر منصبها بسبب سوء النتائج في استطلاعات الرأي، لكن سقف المتوقع من رؤساء الوزراء أصبح مرتفعاً للغاية هذه الأيام. وأصبحوا مطالبين بحل مشكلات فيروس كورونا وأزمة ارتفاع تكاليف المعيشة.
"ولا شك في أن جونسون كان سيحتفظ بمنصبه لولا جائحة كوفيد. وحتى قبل الجائحة، كتبت في كتابي أن طريقة عمل رؤساء الوزراء اليوم تزيد من صعوبة المنصب. إذ تتمتع تلك الشخصيات بمعدلات عالية من الإحساس بالواجب، ويشعرون بالذنب نتيجة الأشياء التي يعجزون عن تنفيذها. ويجب أن تتمتع بطبيعة باردة الأعصاب حتى تتجاهل كل ذلك، لكن القادة المعاصرين لم ينشأوا بهذه الطريقة".
بينما توجد نتيجة وحيدة غير مقصودة لهذا السير السياسي الناقل وسريع الحركة، وتتمثل في بروز مفهوم العودة السياسية مرةً أخرى. ولم تعد هذه الفكرة مقصورةً على قادة القرن الـ20 مثل تشرشل وريتشارد نيكسون.
حيث إن الطبيعة قصيرة الأجل للمناصب السياسية المعاصرة تعني أن القادة -الذين احتفظوا بنفوذهم- سيكونون على استعداد لتكرار المحاولة. وبهذا عاد لويس إيناسيو لولا دي سيلفا إلى السلطة رئيساً للبرازيل، كما عاد بنيامين نتنياهو إلى منصبه في دولة الاحتلال. بينما يتطلع بوريس جونسون ودونالد ترامب إلى فرصةٍ ثانية. لهذا فإن العزاء الوحيد للتقلبات التي يشهدها جيل الساسة المعاصرين اليوم يتمثل في أنهم يعوّضون قصر فترات حكمهم بالمثابرة.