أصبح الجدل حول التجسس الصيني على الولايات المتحدة وبقية الدول الغربية محوراً أساسياً في الصراع بين بكين وواشنطن، في ظل قناعة أمريكية بأن جزءاً من التقدم الصيني الحالي المذهل جاء من مصادر أمريكية أو غربية، أغلبها غير شرعية.
إنه جزء من صراع أوسع، حيث تسعى الصين جاهدة لاكتساب المعرفة التكنولوجية لتشغيل اقتصادها وتحديها للنظام الجيوسياسي الغربي، بينما تبذل الولايات المتحدة قصارى جهدها لمنع ظهور منافس جاد للقوة الأمريكية، حسبما ورد في تقرير لموقع هيئة الإذاعة البريطانية "BBC".
وقبل سنوات، قالت تقارير أمريكية إن عمليات القرصنة والتجسس الصينية كبّدت الولايات المتحدة، نحو 12 تريليون دولار، وتهدّد بالإطاحة بريادتها للعالم.
الصين بنت أسلحتها عبر القرصنة على واشنطن
في عام 2007، تعاملت شركة لوكهيد مارتن الأمريكية مع هجوم إلكتروني هادر عندما سرق قراصنة صينيون، حسب المزاعم الأمريكية، مستندات تقنية تتعلق بتطوير طائرة F-35. الشبحية التي تمثل أكبر مشروع عسكري في التاريخ من حيث التكلفة.
تفاصيل الاختراق، التي تم الكشف عنها في النهاية في الوثائق التي سربها إدوارد سنودن، هي مجرد مثال واحد على المحاولات الصينية لسرقة تكنولوجيا الطيران الأجنبية؛ في الآونة الأخيرة عام 2017، طارد قراصنة صينيون متعاقدي الدفاع الأستراليين من طراز F-35، للحصول على مزيد من المعلومات حول المقاتلة المتطورة.
ونتيجة لذلك، عندما توفرت صور عن قرب للطائرة الشبحية J-20، أيقونة سلاح الجو الصيني نظرة ظهر نظام استشعار يشبه إلى حد بعيد نظام الاستهداف الكهروضوئي لوكهيد مارتن (EOTS) الموجود في مقدمة F-35، حسبما ورد في تقرير لمجلة The National Interest الأمريكية.
كما يعتقد أن الطائرة الصينية الشبحية JF-31 التي لم تدخل الخدمة، تشبه لحد كبير الطائرة الأمريكية إف 25.
كما تبين أنه إضافة إلى عمليات التجسس الصيني على أمريكا، فإن استفادة الصين من التكنولوجيا الأمريكية العسكرية تتم أحياناً بشكل شرعي، وأن البنتاغون يساعد بكين، دون أن يدري، على تطوير قدراتها العسكرية، عبر شراء المؤسسات العسكرية الصينية بشكل مباشر أو غير مباشر التكنولوجيا الأمريكية العسكرية المتاحة في الأسواق، التي طورت بتمويل البنتاغون حسبما كشفها تحقيق استقصائي لصحيفة The Washington Post الأمريكية تضمن حوارات مع علماء صينيين عاملين في المجال العسكري.
وسرقة الأسرار التجارية جذابة لأنها تتيح للبلدان "القفز إلى سلاسل القيمة العالمية بسرعة نسبية – وبدون تكاليف، من حيث الوقت والمال، للاعتماد الكامل على القدرات المحلية"، كما قال نيك مارو من وحدة المعلومات الاقتصادية بـ"BBC".
ولكن اليوم مع تركيز الولايات المتحدة على التصدي للقرصنة والتجسس الصيني، يثار تساؤل هل تستطيع واشنطن وقف نزيف الأفكار تجاه الصين وهل تستطيع حقاً وقف تقدم الصين التكنولوجي.
أحكام قاسية بالسجن لردع التجسس الصيني على الولايات المتحدة
مؤخراً حُكم على المواطن الأمريكي ذي الأصول الصينية تشنغ شياو تشينغ الموظف السابق في شركة جنرال إلكتريك، بالسجن لمدة عامين لنقله أسراراً بشأن HG توربينات الغازية والبخارية وشفرات التوربينات في محركات الطائرات من شركته للصين.
الأسرار التي نقلها قيمتها بالملايين، وتم إرسالها إلى شريكه في الصين. سيفيد ذلك الحكومة الصينية في نهاية المطاف، وكذلك الشركات والجامعات التي تتخذ من الصين مقراً لها.
وفي نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، حُكم على المواطن الصيني Xu Yanjun، الذي قيل أنه جاسوس محترف، بالسجن لمدة 20 عاماً بتهمة التآمر لسرقة أسرار تجارية من العديد من شركات الطيران والفضاء الأمريكية بما في ذلك جنرنال إليكتريك.
وقبل ذلك اتهمت الولايات المتحدة في لائحة اتهام مُفصَّلة وزارة أمن الدولة الصينية بالوقوف وراء الاعتداء العدواني على أنظمة Exchange المرتبطة بالبريد الإلكتروني التابعة لشركة مايكروسوفت هذا العام.
وأدانت وزارة العدل الأمريكية بصورة منفصلة 4 مواطنين صينيين لتنسيق اختراق أسرار تجارية من شركات في قطاعات الطيران والدفاع والمستحضرات الدوائية الحيوية وصناعات أخرى.
إنهم في كل مكان
في يوليو/تموز الماضي، قال كريستوفر راي، مدير مكتب التحقيقات الفدرالي، أمام تجمع لقادة الأعمال والأكاديميين في لندن إن الصين تهدف إلى "نهب" الملكية الفكرية للشركات الغربية حتى تتمكن من تسريع تنميتها الصناعية والسيطرة في النهاية على الصناعات الرئيسية.
وحذّر من أن الصينيين يتطفلون على الشركات في كل مكان "من المدن الكبيرة إلى البلدات الصغيرة – من Fortune 100s إلى الشركات الناشئة، الأشخاص الذين يركزون على كل شيء من الطيران، إلى الذكاء الاصطناعي، إلى الأدوية".
في ذلك الوقت، قال المتحدث باسم وزارة الخارجية الصينية آنذاك تشاو ليجيان إن السيد راي كان "يلوث الصين"، ولديه "عقلية الحرب الباردة".
استشهد السيد وانج بحكاية كتبها رئيس سابق للبحث والتطوير لشركة Fortune 100، والذي أخبره أن "الشخص الذي أوكل إليه أكثر من غيره لنقل التكنولوجيا للصين- شخص قريب جداً له لدرجة أن أطفالهم نشأوا معاً، وتم العثور على اسمه في النهاية على جدول الرواتب من الحزب الشيوعي الصيني.
وقال "شرح لي بلطف أن الجواسيس في كل مكان".
في بيان وزارة العدل بشأن تشنغ، قال آلان كوهلر جونيور من مكتب التحقيقات الفيدرالي إن الصين تستهدف "البراعة الأمريكية"، وتسعى إلى "إسقاط مكانتنا" كزعيم عالمي.
كان تشنغ مهندساً متخصصاً في تكنولوجيا ختم التوربينات وعمل على العديد من تقنيات احتواء التسرب في هندسة التوربينات البخارية. وقالت وزارة العدل إن مثل هذه الأختام تعمل على تحسين أداء التوربينات "سواء عن طريق زيادة الطاقة أو الكفاءة أو إطالة العمر الافتراضي للمحرك".
وتعتبر توربينات الغاز التي تشغل الطائرات عاملاً محورياً في تطوير صناعة الطيران في الصين.
أبرز المجالات التقنية التي تهتم بها الصين
وتُعد معدات الطيران والفضاء من بين 10 قطاعات تستهدفها السلطات الصينية من أجل التنمية السريعة لتقليل اعتماد البلاد على التكنولوجيا الأجنبية وتجاوزها في نهاية المطاف.
فرغم التقدم الصيني في مجالات عديدة ما زالت تواجه تحديات في تطوير وإنتاج محركات موثوقة للطائرات تغنيها عن المحركات الروسية للطائرات الحربية والمحركات الغربية للطائرات المدنية.
لكن التجسس الصناعي الصيني يستهدف مجموعة واسعة من القطاعات الأخرى أيضاً.
ووفقاً لراي وانغ، المؤسس والرئيس التنفيذي لشركة كونستليشن ريسيرش الاستشارية ومقرها وادي السيليكون، فإن المجالات التي تهتم الصين بنقل التكنولوجيا الغربية فيها تشمل التطوير الصيدلاني وتكنولوجيا النانو – الهندسة والتكنولوجيا، التي يتم إجراؤها على المستوى النانوي للاستخدام في مجالات مثل الطب والمنسوجات والأقمشة والسيارات. النانومتر هو جزء من المليار من المتر.
ويشمل أيضاً المستحضرات الصيدلانية والهندسة الحيوية – تقليد العمليات البيولوجية لأغراض مثل تطوير الأطراف الاصطناعية المتوافقة حيوياً ونمو الأنسجة المتجدد.
لماذا يختلف التجسس الصيني عما كانت تفعله كوريا واليابان؟
وقال مارو إن التجسس الصناعي في الماضي من دول مثل اليابان وكوريا الجنوبية وتايوان وسنغافورة كان مصدر قلق. ومع ذلك، بمجرد تحول شركات هذه الدول إلى قادة ابتكاريين في السوق في حد ذاتها تبدأ في الرغبة في حماية ملكيتها الفكرية، وتبدأ حكوماتهم في إصدار تشريعات للتعامل مع القضية بجدية أكبر.
ولكن الأمر مختلف مع الصين، إذ يقول مارو: "مع زيادة ابتكار الشركات الصينية خلال العقد الماضي، شهدنا تعزيزاً ملحوظاً لحماية حقوق الملكية الفكرية المحلية جنباً إلى جنب".
صفقة منع القرصنة بين أمريكا والصين تحولت إلى "مزحة"
كانت هناك محاولات لكبح جماح القرصنة على وجه التحديد.
في عام 2015، أبرمت الولايات المتحدة والصين صفقة تعهد فيها الجانبان بعدم تنفيذ "سرقة إلكترونية للملكية الفكرية، بما في ذلك الأسرار التجارية أو غيرها من المعلومات التجارية السرية من أجل منفعة تجارية".
بحلول العام التالي، كانت وكالة الأمن القومي الأمريكية قد اتهمت الصينيين بانتهاك الاتفاقية، على الرغم من أنها أقرت بأن كمية محاولات اختراق بيانات الحكومة والشركات قد انخفضت "بشكل كبير".
لكن المراقبين يقولون إن التأثير الإجمالي للاتفاق كان ضئيلاً. قال وانغ إنها كانت "مزحة" بسبب عدم تطبيق القانون. كان التجسس الإلكتروني الصيني في الولايات المتحدة "واسع الانتشار" ويمتد إلى المختبرات الأكاديمية. وقال لـ"بي بي سي": "لقد كان يحدث في كل جانب من جوانب الأعمال التجارية الغربية".
ومع ذلك، أشار ليم تاي وي من جامعة سنغافورة الوطنية إلى أنه لا توجد "دراسات نهائية غير متنازع عليها" حول مدى انتشار هذه الظاهرة.
وقال: "يعتقد البعض أن هناك تراجعاً قصيراً في التجسس الإلكتروني الصيني ضد الولايات المتحدة، لكنه استأنف مستواه السابق بعد ذلك. ويعتقد آخرون أن الاتفاق فشل بسبب الانهيار الشامل في العلاقات الأمريكية الصينية".
وها هي بكين تستبدل محاربي الجيش بوكالة استخباراتية
وبعد تولي الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب الحكم وتسريعه الصراعات التجارية والتوترات الأخرى مع الصين، استُؤنِفَت عمليات الاختراق والقرصنة الصينية. وقد لاحظ مسؤولو الاستخبارات الأمريكيون تغيُّراً بحلول عام 2018: تنحى مخترقو جيش التحرير الشعبي جانباً واستُبدِلوا بعملاء يعملون بأمر من وزارة أمن الدولة الصينية، المسؤولة عن الاستخبارات والأمن والشرطة السرية الصينية.
وبحسب مسؤولي استخبارات وباحثين، لم تنبع اختراقات الملكية الفكرية، التي أفادت الخطط الاقتصادية الصينية، من جيش التحرير الشعبي، بل من شبكة فضفاضة من الشركات والمتعاقدين الذين يمثلون واجهة أمامية، بما في ذلك مهندسون عملوا لصالح بعض شركات التكنولوجيا الرائدة في البلاد.
وفي حين تظل هجمات التصيد الاحتيالي قائمة، صارت شركات التجسس تتوارى وتستخدم أساليب متطورة. تشمل هذه الأساليب "يوم الصفر"، أو استغلال الثغرات الأمنية في البرامج المستخدمة على نطاق واسع مثل أنظمة Exchange من شركة مايكروسوفت، وهي أساليب يكون الدفاع عنها أصعب وتسمح للمخترقين الصينيين بالعمل دون اكتشافهم لفترات طويلة.
الاستحواذ على الشركات والبعثات الجامعية يلعبان دوراً في هذه الاختراقات
استفاق الغرب متأخراً على واقع أن الصين تخترق أغلى ما يملك: جامعاته، وشركاته، بل وتستحوذ على بعضها وتنقل منها التكنولوجيا المتقدمة، وهي تفعل ذلك تارة علناً وأخرى سراً، ووصل الاستحواذ الصيني على شركات غربية إلى مؤسسات عاملة في المجال العسكري.
ما يقلق الغرب من هذه العملية أنها ليست بريئة إطلاقاً، فكثير من عمليات الاستحواذ الصيني على شركات غربية تتم عبر شركات صينية حكومية، وحتى لو جرت عبر شركات صينية خاصة، فلا فرق بين سيطرة الحزب الشيوعي الصيني على الشركات الخاصة والحكومية.
كما اكتسبت الصين أيضاً الخبرة من خلال جعل الشركات الأجنبية التي تسلم لها التكنولوجيا بموجب اتفاقيات المشاريع المشتركة مقابل الوصول إلى السوق الصينية. على الرغم من الشكاوى، نفت الحكومة الصينية دائمًا الاتهامات بإكراه الشركات الأجنبية على فعل ذلك.
واتهمت الولايات المتحدة أيضاً الجامعات الصينية بلعب دور حاسم في القرصنة الصينية من خلال تجنيد الطلاب في شركات الواجهة وإدارة عمليات الأنشطة الاقتصادية الرئيسية لها، مثل تلك المتعلقة بالمرتبات، كما أن هناك اعتقاداً واسعاً الآن أن المبتعثين والباحثين الصينيين في الجامعات الغربية يمثلون مصدراً لنقل التكنولوجيا والعلم لبكين.
بعد شنها حرب الرقائق الإلكترونية.. هل تستطيع أمريكا منع تقدم بكين؟
وفي الوقت نفسه، تحاول الولايات المتحدة الآن بشكل مباشر منع تقدم الصين في صناعة أشباه الموصلات المتقدمة – وهي حيوية لكل شيء من الهواتف الذكية إلى أسلحة الحرب – قائلة إن استخدام الصين للتكنولوجيا يشكل تهديدًا للأمن القومي.
في أكتوبر/تشرين الأول 2022، أعلنت واشنطن عن بعض ضوابط التصدير الأوسع حتى الآن، والتي تتطلب تراخيص للشركات التي تصدر الرقائق إلى الصين باستخدام أدوات أو برامج أمريكية، بغض النظر عن مكان صنعها في العالم. كما تمنع إجراءات واشنطن المواطنين الأمريكيين وحاملي البطاقة الخضراء من العمل في بعض شركات الرقائق الصينية، وحاملي البطاقة الخضراء هم مقيمون دائمون في الولايات المتحدة ولديهم الحق في العمل في الدولة.
ويسلط خبراء الصناعة الضوء على أن تطوير إنتاج الرقائق المتطورة سيكون تحدياً هائلاً للصين، ويرون في الوقت ذاته أن جهود الولايات المتحدة لقطع الطريق على المشترين الصينيين ستثبت في النهاية أنها تضر بشكل كبير بالشركات الغربية، حسبما تنقل عنهم Bloomberg.
فالتاريخ الصناعي الحديث يشير إلى أن الصين ستنتصر من حيث المنافسة، حسب الوكالة الأمريكية.
فعلى سبيل المثال، أصبحت الشركات الصينية الآن الرواد العالميين في مجال السكك الحديدية عالية السرعة، بعد أن التقطت التكنولوجيا التي تحتاجها في أعقاب تنفيذ عمليات البناء الأولية من قبل الشركات الأجنبية، وضمن ذلك شركة Siemens AG الأوروبية وAlstom SA.
"هذه المنتجات هي تقنيات وليست أدوات سحرية"، حسبما قال دان وانغ، محلل التكنولوجيا الصيني في Gavekal Dragonomics، لوكالة Bloomberg.
وأضاف أن المهمة الصينية هي إعادة اختراع كثير من العجلات الموجودة بالفعل لدى الآخرين (والصينيون لهم خبرة لا تضاهى في استنساخ التكنولوجيا).
ويرى أنه من المحتمل أن تؤدي هذه الإجراءات إلى تحفيز الصين على تسريع الاكتفاء الذاتي في كثير من التقنيات المختلفة على المدى الطويل".
ويزداد الأمر حساسية بالنسبة لبكين في ظل مخاوفها من احتمال تعرضها لحصار غربي مثل ما حدث مع روسيا، ولذا تحسباً لهذا الاحتمال، فإنها تسرع وتيرة محاولة تطوير تقنياتها، سواء بتكثيف البحث العلمي أو تكثيف القرصنة والتجسس أو التكامل بين النهجين.
في هذه الحالة ستكون أمريكا قد قدمت خدمة جليلة لبكين.
ومع احتجاج الصين أيضاً بأمنها القومي، من المرجح أن يزداد التدافع على التفوق التكنولوجي بين أكبر اقتصادين في العالم.
لكن وانغ يعتقد أن الولايات المتحدة لا تزال تحتفظ بالأفضلية.
وقال: "أخبرني أصدقائي في مجال الأمن السيبراني عندما يخترقون المواقع الصينية، أن التكنولوجيا الوحيدة الجديرة بالاهتمام التي يمكنهم العثور عليها هناك هي الملكية الفكرية في الولايات المتحدة".