تتعقد الأزمة الاقتصادية والاجتماعية في مصر أكثر فأكثر مع تفاقم تراجع العملة المحلية مقابل الدولار بنسبة بلغت الأربعاء 104% في المصارف الحكومية قبل أن تتراجع قليلاً لنسبة 91%. وفقد الجنيه المصري مجملاً 50% من قيمته منذ مارس/آذار عقب تخفيضه استجابةً لمطالب صندوق النقد الدولي، وفق ما نقلته وكالة الأنباء الفرنسية عن مصادر حكومية.
والوضع النقدي المتأزم في مصر يزيد من تعقيد الظروف المعيشية للمواطن المصري في أكبر بلد عربي ديموغرافياً، حيث يبلغ عدد سكانه حسب بعض المصادر، نحو 104 ملايين نسمة، خاصة أن نسبة التضخم تجاوزت -وفق بيانات رسمية- 21%. وتتأثر القدرة الشرائية للمواطن المصري بشكل غير مباشر بالتحولات السلبية في قيمة العملة المحلية، بحكم أن البلد يستورد غالبية حاجياته، ويكون مطالباً بشرائها بالعملة الصعبة مقابل الجنيه في أسوأ حالاته النقدية.
فكيف أدى تراكم الفشل السياسي والاقتصادي في تدهور عملة البلاد وتأزم الحالة الاجتماعية فيها؟
مصر تذعن لخطط صندوق النقد الدولي.. والديون لا تتوقف عن الارتفاع
الشهر الماضي، وافق صندوق النقد الدولي على منح مصر قرضاً بقيمة ثلاثة مليارات دولار تسدد على 46 شهراً. ولكن هذا القرض ليس سوى قطرة في بحر؛ إذ تُثقل كاهل الدولة ديون تُقدر بحوالي 42 مليار دولار، يجب عليها سدادها خلال السنة المالية 2022-2023.
يقول المحلل السياسي والخبير في العلاقات الدولية المصري محمد اليمني إن "الوضع صعب للغاية، وله مسبباته السياسية والاقتصادية طبعاً". وهذه يحددها الخبير الاقتصادي المصري عبد النبي عبد المطلب في "ارتفاع أسعار القمح والحبوب في البورصات العالمية بنسبة وصلت إلى 40%، ما أدى إلى زيادة الطلب المصرى على الدولار، حيث إن مصر من أكبر الدول المستوردة للقمح. وتبلغ الواردات المصرية من القمح ما قيمته 3 مليارات دولار".
ويشدد اليمني على الأضرار الجانبية للحرب الروسية – الأوكرانية التي تدفع ثمنها مصر اليوم بسبب ارتفاع أسعار القمح والحبوب. فيوضح قائلاً للوكالة الفرنسية: "نحن مقبلون على كارثة إن لم تتوقف هذه الحرب، التي أثرت على دول الاتحاد الأوروبي بأكملها وليس مصر فقط، وإن كان بمستوى أكثر".
أما بقية الأسباب الاقتصادية التي أدت لهذا الوضع، فيوردها عبد المطلب في النقاط التالية:
– خروج ما يقرب من 25 مليار دولار من استثمار الأجانب في أذون وسندات الخزانة المصرية خلال فترة مارس/آذار – يوليو/تموز 2022. وقد تسبب هذا الخروج في انخفاض الاحتياطي النقدي لدى البنك المركزي من 40 مليار دولار إلى 33 مليار دولار.
– ارتفاع الأسعار العالمية أدى إلى ارتفاع كافة أسعار الواردات. وارتفعت قيمة الواردات من 68 مليار دولار فى نهاية يونيو/حزيران 2021 إلى 87 مليار دولار فى نهاية يونيو/حزيران 2023.
ويراقب المصريون بقلق كبير هذا التدهور في قيمة عملتهم المحلية. وأكثر ما يشغل بالهم حالياً هو مستقبل الجنيه، إذا أخذنا فى الاعتبار معاناة السوق المصري حالياً من نقص بعض الخامات ومستلزمات الإنتاج، ومعاناة بعض المصانع من توفير احتياجاتها من هذه المستلزمات وضغوط رجال الأعمال لتعديل قواعد الاستيراد المطبقة حالياً.
أخطاء سياسية واقتصادية متراكمة
هذه الأزمة، بالنسبة لليمني، "لا تبشر بالخير، خاصة في ظل تخلي دول الخليج عن مساعدة مصر، وهي: السعودية، والإمارات، وقطر.. التي كانت تساعد القاهرة في بعض الأزمات والأوقات منذ سنوات كثيرة جداً. والرئيس السيسي تحدث في الموضوع بوضوح في الفترة الأخيرة. وقال فيما معناه: "لم تساعدنا الدول التي كانت تقوم بذلك في الماضي. وليس أمامنا إلا خيار الاعتماد على أنفسنا"، كما يشير اليمني.
ويُعزى هذا التخلي الخليجي عن مساعدة مصر كونها "فقدت ثقلها السياسي عربياً ولم تعد تتمتع بوزنها التقليدي في الدبلوماسية العربية سواء بالمنطقة أو دولياً. منذ عبد الناصر وحتى مبارك كان دورها الدبلوماسي وازناً، وكانت سياساتها تختلف كثيراً عن التعاطي الدبلوماسي الحالي"، حسب اليمني.
مع هذه الظروف، تجد القاهرة نفسها في مهمة في غاية الصعوبة لتوضيح الرؤية حول مستقبل الجنيه المحلي وتوفير الدولار. ولذلك فمصر، بحسب الخبير الاقتصادي عبد المطلب، "ليس أمامها إلا خياران لا ثالث لهما فى الوقت الحالي. الأول: دعم من الأشقاء والأصدقاء في شكل تدفقات دولارية نقدية بما لا يقل عن 14 مليار دولار، وأعتقد أنه لا توجد بوادر لهذا الدعم. وسيكون المسلك الثاني وهو الخيار الأصعب، "الاستمرار فى سياسة التقشف وتقييد الواردات، ولا أعتقد أن مجتمع الأعمال والشعب سيتحمل هذه السياسات لفترات طويلة".
واتخذت الحكومة المصرية قرارات عدة نشرتها الجريدة الرسمية الإثنين، لترشيد الإنفاق العام لمواجهة الأزمة، بينها تأجيل تنفيذ أية مشروعات جديدة لم يتم البدء فيها ولها مكون دولاري واضح.
ويتم تحميل المسؤولية للحكومة المصرية، بحكم "الأخطاء المتراكمة" التي ارتكبت في "إدارة ملف السياسة النقدية"، كما يلفت عبد المطلب. وبينها "السماح بدخول الأموال الساخنة"، إضافة إلى "عدم اتخاذ إجراءات عاجلة للتعامل مع أزمتها وتركها تخرج دون تعويض"، ثم "تقييد الواردات أو وقفها دون وجود بديل محلي".
ولذلك، يشدد عبد المطلب، "فإنني أرى أن حل المشكلة الاقتصادية المصرية الحالية، يستلزم وجود آليات مبتكرة لاستعادة ثقة المواطن والمستمر المصريين. وأعتقد أن إصدار شهادات استثمار دولارية طويلة الأجل بعائد مرتفع قد يساهم في حل سريع لجزء من الأزمة، حسب تعبيره.
ويستطرد الخبير الاقتصادي: "بالتأكيد تمتلك الحكومة الكثير من الأدوات لحل الأزمة، فعلى سبيل المثال يمكن لها زيادة المعروض من السلع الغذائية فى منافذها بأسعار مخفضة، أو السماح باستيراد مكونات الأعلاف والزيوت وغيرها من المواد الغذائية أو المحسوبة على صناعة الغذاء، برسوم جمركية مخفضة. كذلك تستطيع تشديد الرقابة على الأسواق بحيث تمنع رفع التجار للأسعار دون مبررات حقيقية، كما يمكنها الدخول كمشترٍ ومسوق لبعض المحاصيل الهامة مثل القمح والأرز، لموسم أو موسمين".
يرسم المحلل اليمني صورة شبه قاتمة عن السياسة الاقتصادية للحكومة قائلاً: "كنا نأمل أنه مع بداية 2023 تلوح بارقة أمل ويعلن عن خطط حكومية لحل الأزمات الكثيرة في هذا التوقيت، خاصة منها المرتبطة بارتفاع أسعار المواد الغذائية الأساسية. لكن لا يوجد شيء من ذلك. فبعض المواد الغذائية ارتفع ثمنها بأكثر من 30 جنيهاً. وهذه المؤشرات ستزيد من تفاقم الوضع. فالأمور الاقتصادية لا تبشر بخير أبداً. الحكومة فشلت فشلاً ذريعاً ولا بدَّ من استقالات أو إقالات جماعية ولا بد من تحرك داخلي في بعض الوزارات وفي بعض المناصب المهمة جداً".
مصر تعِد بإنهاء المكانة الشركات العسكرية للحصول على قرضٍ من "النقد الدولي"
وأصدر صندوق النقد الدولي في 10 كانون الثاني/يناير 2023 تقريراً يوضّح فيه الالتزامات التي قطعتها الحكومة المصرية على نفسها مقابل الحصول على قرض جديد من الصندوق قيمته حوالي 3 مليارات دولار، هو الرابع الذي حصلت عليه مصر منذ العام 2016.
وعلى الرغم من إعلان الاتفاق الأولي في 27 تشرين الأول/أكتوبر 2022، فقد استغرقت المباحثات لتحديد نطاقه الكامل عشرة أشهر. النتيجة مثيرة. فبحسب صندوق النقد، يشمل الاتفاق على "رزمة سياسات شاملة للحفاظ على الاستقرار الاقتصادي العام، وإحياء مخفّفات الصدمات، وتمهيد الطريق أمام النمو الشامل الذي يقوده القطاع الخاص".
يركّز حيّز كبير من ذلك على تحقيق "انتقال قابل للبقاء نحو نظام مرن لتبادل العملة، وسياسة نقدية تهدف إلى تخفيض التضخم تدريجياً، وتوحيد المالية لضمان مسارٍ تنازلي للدين العام، مع تعزيز نظام الحماية الاجتماعي للمُعَرّضين". وعلى الرغم من أهمية هذه المسائل، فإن جزءاً من هذا الخطاب هو نمطي، بينما معالجة أزمة العملة المحتدمة في مصر لم تعد بجديدة.
بل إن اللافت في الموضوع هو ذهاب الاتفاق الأخير إلى أبعد من ذلك في وضع "الإصلاحات البنيوية الواسعة النطاق"، وتقليص "بصمة الدولة" في الاقتصاد، وتعزيز "الحوكمة والشفافية" في الصدارة.
وفي انعكاس لهذا التوجه، يستند الاتفاق الأخير إلى وثيقة "سياسة ملكية الدولة" التي أطلقت الحكومة مسودّتها الأولى في حزيران/يونيو الفائت، والتي وعدت فيها بـ"تخارج" الدولة كلياً من عدد قد يصل إلى 79 من القطاعات الاقتصادية، وتقليص دور الدولة في 45 قطاعاً آخر، مع زيادة دور الدولة في بضع عشرات من القطاعات الأخرى.
ويقول تقرير لمعهد كارنيغي الأمريكي نشر يوم الخميس 12 يناير 2023، ربما كانت الحكومة تقوم بحركة مسرحية فحسب بغية الحصول على قرض جديد من صندوق النقد الدولي، وثمة شكوك حول الجدوى الفعلية للسياسة. فقد لاحظ نائب رئيس الوزراء السابق، زياد بهاء الدين، أنه سبق تبنّي غالبية الآليات المطروحة لتحقيق غايات السياسة رسمياً في مراحل عدّة، من دون أثرٍ ملحوظ.
لكن، وعلى الرغم من ذلك، فقد نُسِجت إشارات كثيرة إلى تلك السياسة في نص الاتفاق الأخير مع صندوق النقد، ما يُصَعِّب على مصر التلكؤ بشكل ظاهر كثيراً. هذا، وليس من قبيل الصدفة أن قام الرئيس عبد الفتاح السيسي بالمصادقة رسمياً على سياسة ملكية الدولة في 29 كانون الأول/ديسمبر الفائت، أي عشية إصدار الصندوق الاتفاق؛ بل ويشير الاتفاق صراحةً إلى مصادقته، ويشير بشكلٍ مقصود إلى تلك السياسة باعتبارها "المقياس الهيكلي" للتقدم.
على الرغم من أهمية الإطار العام المعروض أعلاه، فإن المسألة الاستثنائية هي شموله الشركات العسكرية المصرية. يناقض ذلك الانطباع الأولي عند مراجعة إعلان اتفاق القرض في تشرين الأول/أكتوبر الفائت، بأن الصندوق كان قد تراجع عن إلقاء ثقله لوضع هذه الشركات على أجندة الحوار مع السلطات المصرية.
على العكس من ذلك، التزمت الحكومة المصرية في "مذكرة السياسات الاقتصادية والمالية" التي سلّمتها إلى صندوق النقد، وهي ملحقة بالاتفاق، بتوضيح "تعريف الدولة" في وثيقة "سياسة ملكية الدولة" وبـ"العرض صراحةً أنه [أي التعريف] يشمل جميع الشركات المملوكة كلياً أو جزئياً من قبل هيئة متصلة بالدولة، بغض النظر عن الإطار المؤسسي الذي أُنشئت الشركة بموجبه".
ولدرء الإبهام أو الالتباس، تعدّد المذكرة الشركات العسكرية تحديداً في عدد شركات القطاع العام وقطاع الأعمال العام، والهيئات الاقتصادية، والشركات المشتركة والشراكات المشمولة في هذا التعريف.
ثم تلقي المذكرة المزيد من الضوء على مغزى هذه الالتزامات. فمن جهة أولى، تعد المذكرة بتقليص الإعفاءات الكثيرة التي تضفي الأفضليات والامتيازات على الشركات المملوكة للدولة في منافستها القطاع الخاص في السوق وتمنع تسوية الملعب، وهو أمر لطالما أثار امتعاض القطاع الخاص والمؤسسات المالية الدولية كصندوق النقد.
ولقد استفادت الشركات العسكرية من إعفاءات فاقت إلى حد بعيد ما تتمتع به شركات وهيئات الدولة الأخرى، ومنها الإعفاء من ضريبة الدخل والضريبة العقارية وغيرهما، وضريبة القيمة المضافة، والرسوم الجمركية، والرسوم الإدارية المتنوعة، وسقوف معدلات تبادل العملة الصعبة، ورسوم النقل، وغيرها. ولكن تعد المذكرة بِـ"إزاحة كافة إعفاءات الشركات المملوكة للدولة" عن الشركات العسكرية كذلك.
كذلك، تعد الحكومة المصرية بتحسين الإجراءات الجمركية ومشاركة المعلومات مع القطاع الخاص، ما يعني بالضرورة تقييد الشركات العسكرية المتمتعة بالتسهيلات الرسمية وغير الرسمية في تخليص وارداتها، أم إعاقة واردات منافسيها المدنيين.
أما الأمر المثير حقاً، لو تم تنفيذه، فهو خطة ترشيد تخصيص أراضي الدولة لاستخدامات الجهات المدنية، العامة والخاصة على حدٍّ سواء، والذي تسيطر عليه وزارة الدفاع. وتعد المذكرة أيضاً بإرغام "كبار المسؤولين في جميع الشركات المملوكة للدولة" على تسليم كشوفات بأصولهم الشخصية وبالتصريح عن مدى التزامهم بهذا الواجب.
وسيخضع المديرون إلى عقود عمل تستند إلى الأداء، وأعضاء مجالس الإدارة إلى إجراءات شفافة لاختيارهم وإلى توجيهات واضحة تحدّد مؤهلاتهم المطلوبة ورواتبهم ومكافآتهم. أخيراً وليس آخراً، ينبغي تحويل ما بين 25 و100% من عائدات بيع الأسهم في الشركات، كل بحسب تصنيفه القانوني، إلى وزارة المالية أم موازنة الدولة العامة.