إثر تدني نسبة المشاركة في الانتخابات التشريعية الأخيرة بتونس، ظهرت مبادرات سياسية تبحث عن التموقع في مرحلة "ما بعد سقوط المشروعية الشعبية عن الرئيس قيس سعيد"، بحسب محللين تونسيين.
بينما ذهبت حركة مؤيدة لسعيد، في تصريحات للأناضول، إلى أنه لا يوجد صراع شرعيات ولا أزمة سياسية، وإنما أزمة اقتصادية اجتماعية، معتبرة أن هذه المبادرات تصب في "اتجاه غير صحيح".
وفي الدور الأول من الانتخابات المبكرة، في 17 ديسمبر/كانون الأول الماضي، بلغت نسبة المشاركة 11.22%، وهو ما اعتبرته أحزاب سياسية فشلاً لإجراءات سعيد الاستثنائية، ودعت إلى انتخابات رئاسية مبكرة.
وهذه الانتخابات أحدث حلقة بسلسلة إجراءات استثنائية بدأ سعيد فرضها، في 25 يوليو/تموز 2021، وأبرزها حل مجلس القضاء والبرلمان وإصدار تشريعات بمراسيم رئاسية، وإجراء انتخابات تشريعية مبكرة، وإقرار دستور جديد عبر استفتاء، في يوليو/تموز 2022.
وتعتبر قوى تونسية تلك الإجراءات "تكريسا لحكم فردي مطلق"، بينما تراها قوى أخرى "تصحيحاً لمسار ثورة 2011″، التي أطاحت بالرئيس آنذاك زين العابدين بن علي (1987-2011).
أما سعيد، الذي بدأ في 2019 فترة رئاسية تستمر 5 سنوات، فقال إن إجراءاته "ضرورية وقانونية"، لإنقاذ الدولة من "انهيار شامل".
وفي 23 ديسمبر/كانون الأول 2022، كشف الأمين العام المستقيل من التيار الديمقراطي، غازي الشواشي، عن مشروع مبادرة تضم شخصيات معروفة لـ"بلورة خارطة طريق (…)، لإنقاذ البلاد من الوضع الاقتصادي والاجتماعي والسياسي المتردي".
كما يستعد الاتحاد العام للشغل (أكبر نقابة عمالية)، ورابطة حقوق الإنسان، وهيئة المحامين لإطلاق "مبادرة إنقاذ وطني"، بهدف إجراء حوار لمعالجة الأزمة.
فيما اقترح كمال العكروت، مستشار الأمن القومي بعهد الرئيس الراحل الباجي قايد السبسي، فتح حوار "والتحكيم بين القوى الحية (الوازنة)، ورئيس الجمهورية لوضع تصور للفترة الانتقالية".
"فشل" مشروع الحكم
اعتبر المحلل السياسي، بولبابة سالم، أن تلك المبادرات "ظهرت الآن لأن الانتخابات أثبتت فشل وانتهاء مشروع الحكم الذي أراده سعيد".
وتابع: "المشروعية الشعبية التي كان يتحدث عنها الرئيس أصبحت سراباً، مع وجود أزمة اقتصادية واجتماعية قاسية، من أسبابها الأزمة السياسية.. الجميع أدرك أن البلاد تسير نحو الهاوية".
سالم أردف أن "الرأي العام داخل وخارج تونس، تبيّن له بعد الانتخابات أن المقاطعة الكبيرة لها أوضحت أن الرئيس ليس له العمق الشعبي الذي كان يتحدث عنه".
وفي هذا الوضع "كثرت المبادرات، والجميع يريد أن يكون جزءاً من تسوية الأزمة، وجزءاً من المرحلة القادمة التي ستشهد تغيُّرات"، وفق سالم.
وأضاف: "حتى مَن كانوا يساندون الرئيس ومسار 25 يوليو (تموز) أصبحوا يريدون المساهمة في طبخة جديدة، أو إيجاد تموقع جديد لأنهم أدركوا أن المشروع انتهى".
ومتفقاً مع سالم، قال أستاذ العلوم السياسية، أيمن البوغانمي، للأناضول إن "نتائج الانتخابات تعكس تراجع الحجة الأساسية التي قامت عليها منظومة سعيد، في 25 يوليو (تموز)، وهي الشعبية".
تغيير الرئيس
وحول ما إذا كانت توجد رغبة على الساحة السياسية في تغيير الرئيس، أجاب سالم: "بالطبع هذا موجود، وهناك رؤيتان".
الرؤية الأولى، وفق سالم، "فيها خارطة طريق، مع دعوة الرئيس إلى إجراء انتخابات رئاسية جديدة، وهذه الخطوة فيها مرحلة انتقالية بالعودة لدستور 2014 (دستور الثورة)".
وتابع: "هذا ما تطرحه جبهة الخلاص وحلفاؤها الذين يرون أنه لا بديل الآن عن دستور 2014 لاستعادة الشرعية وإلغاء المرسوم 117 (سبتمبر/أيلول 2021، الذي يقول الرافضون إنه حوّل كل السلطات إلى الرئيس)، والدعوة سريعاً إلى انتخابات رئاسية ثم تشريعية، وبالطبع يكون البرلمان القديم في الصورة".
و"هناك رؤية أخرى مثل مبادرات المنظمات الوطنية، التي قد تدعو لخارطة طريق وانتخابات تشريعية جديدة، والرئيس مُطالب بتعديل مساره وإلغاء الدور الثاني للانتخابات (بداية فبراير/شباط المقبل)"، بحسب سالم.
واستطرد: "وجوه سياسية (بينها الشواشي) تقول بضرورة إقالة أو استقالة الرئيس سعيد، وتدعو لانتخابات رئاسية جديدة، في حين ترى عبير موسي، (رئيسة الحزب الدستوري الحر)، أن منصب الرئاسة أصبح شاغراً، وتدعو لانتخابات رئاسية".
سالم، اعتبر أن هذه "المبادرات والرؤى تهدف إلى التموقع فيما بعد هذه المرحلة، لذلك نشطت سوق المبادرات، وأزعجت الرئيس، واعتبر أنها تهدد السلم المدني، والجميع يتطلع لمرحلة ما بعد سعيد".
أي مرجعية دستورية؟
"قد يكون ذلك صحيحاً"، بهذا الرد لم يستبعد بوغانمي احتمال أن هذه المبادرات تهدف لإيجاد بديل عن سعيد.
لكنه اعتبر أنها تطرح مشكلة فـ"كلها تقريباً لا ترتكز على مرجعية قانونية أو دستورية.. المقترح الذي يقوم على مرجعية دستورية يجب أن يوضح على أي مرجعية: دستور 2014 أم 2022؟ لا يمكن أن نترك الأمور مفتوحة".
واستطرد: "الإشكال ليس أن تأتي بحكومة أو رئيس جديد، بل أعقد من ذلك بكثير، وهو كيف سنتعامل مع دستور 2022، الذي يخالف كل المعايير الديمقراطية والأعراف الدستورية، هل سيبقى إذا رحل سعيد وإذا أتى رئيس جديد فبأي صلاحيات؟".
و"المشكل أنه ليس هناك شجاعة للعودة إلى المرجعية الوحيدة التي يمكن أن تنقذ البلد، وهو دستور 2014″، بحسب البوغانمي.
واعتبر أنه "حتى الآن المبادرات محتواها ضعيف، بسبب التردد في تبني الحل الوحيد الممكن، وهو العودة لدستور 2014، مع الحفاظ على الديمقراطية".
من ساندوا 25 يوليو
وحول مبادرة الاتحاد العام للشغل، اعتبر البوغانمي أنه "لا يمكن الحديث عن مبادرة، فالمحتوى هو تجميع المنظمات فقط".
وأردف: "الاتحاد بدأ صراعاً مع الرئيس، وانقطع حبل الود بينهما، والمشكل أنهم قبلوا بـ25 يوليو.. والسؤال هو: لماذا يريدون لمن سلموا له رقابهم ألا يذبحهم.. لماذا يريدونه أن يتوقف الآن؟!"
وتابع: "هذه معضلة كل من دخل تحت سقف 25 يوليو، ومن لم يكن واضحاً في معارضة الخروج عن الدستور.. هم يريدونه (الرئيس) أن يفعل ما يريدون وهو يريد أن يفعل ما يريده وله الحق".
موقف سعيد
وبالنسبة لمدى استجابة الرئيس لهذه المبادرات، خاصة التي تدعو لحوار، رجح سالم أن "سعيد لن يستجيب للمبادرات".
وأردف: "سعيد لا يؤمن بالأحزاب والأجسام الوسيطة، وسيواصل مشروعه، والدليل أنه بدأ في ملاحقة معارضيه، ورأينا قضايا سياسية بالجملة".
وأكثر من مرة، نفى سعيد اتهامات باستهدافه المعارضين عبر ملفات قضائية، واتهم أطرافاً (لم يسمها) بالفساد والتآمر على الدولة.
واستطرد سالم: "في العادة الرئيس أو القائد يقوم بخطوة للوراء عندما يرى مثل هذه النتائج، لكن يبدو أن سعيد مواصل في طريقه، ويرفض كل المبادرات ودعوات الحوار".
فيما اعتبر بوغانمي، أن "المبادرات حركة احتجاجية سياسية فقط، وقدرته (سعيد) على إفشالها كبيرة جداً، فهي دون محتوى، وهو يملك الدولة ووسائل القوة، وهم (أغلب المبادرين) الذين مكنوه أو دعوه إلى ذلك وهم في ورطة".
وأضاف أن "هناك واقعاً قد يتجاوز الجميع، وهو حراك الشارع، وما لم يحصل هذا، وهو بعيد مبدئياً، فالقوة عند صاحب القوة، وكل أصحاب المبادرات ليس لديهم وسائل القوة، والرئيس سيحملهم للمحاكم".
اتجاه "غير صحيح"
أما رئيس المكتب السياسي لحركة "شباب تونس الوطني" (حراك 25 يوليو- مؤيد لمسار سعيد) عبد الرزاق الخلولي، فقال للأناضول إن "كل المبادرات تصب في اتجاه غير صحيح".
وتابع: "مبادراتهم ترتكز على اعتبار أن هناك أزمة سياسية، ويطرحون حلولاً لها. تجاوزنا الأزمة السياسية، ونعاني من أزمة اقتصادية اجتماعية مركبة".
وقادة المعارضة "حوّلوا وجهتهم عن الأزمة الاقتصادية والأوضاع الاجتماعية المتردية وارتفاع الأسعار، إلى ما يُسمى بحل الصراع السياسي، ويعتبرون أن هناك أزمة شرعية"، بحسب الخلولي.
وأردف: "ننفي وجود أزمة شرعيات بعد 25 يوليو (2021)، وبعد الاستفتاء على الدستور، لذلك قدمنا مبادرة تطرح حلولاً لمعالجة الأزمة الاقتصادية والاجتماعية".
واستطرد: "لديهم نوايا في إدخالنا في صراع شرعيات وصراع سياسي، ونعتبر أن الصراع انتهى بعد صدور دستور 2022. أصبحت لنا شرعية ومشروعية للرئيس سعيد، ولنا خارطة طريق انتهت بالانتخابات وننتظر الدور الثاني".
وختم الخلولي بقوله "لا نرفض مبادرة الاتحاد العام للشغل، لأنها تذهب في حلول اقتصادية واجتماعية، ولا تقصي الرئيس سعيد باعتباره رئيس الجمهورية، ومن يُقصي الرئيس فنحن نرفضه".