اقتحم مناصرو الرئيس اليميني السابق جايير بولسونارو قصر الرئاسة والكونغرس ومقر المحكمة العليا في برازيليا، اعتراضاً على فوز اليساري لولا دا سيلفا بالرئاسة، فكيف وصل "فيروس" دونالد ترامب إلى البرازيل؟ وهل يتفشى عالمياً؟
كان بولسونارو، الرئيس الشعبوي الملقب بـ"ترامب البرازيل"، قد خسر الانتخابات الرئاسية في جولتها الثانية يوم 30 أكتوبر/تشرين الأول 2022، وتم تنصيب دا سيلفا رسمياً مطلع يناير/كانون الثاني الجاري، لكن التشكيك في الانتخابات ونتائجها من جانب الرئيس الخاسر أدى في نهاية المطاف إلى أحداث شبه كربونية مما شهدته الولايات المتحدة يوم 6 يناير/كانون الثاني 2021.
كيف بدأت قصة "ترامب" البرازيل؟
قبل الدخول إلى تفاصيل محاولة "الانقلاب" اليمينية في البرازيل، من المهم التوقف قليلاً عند أبرز المحطات التي أدت إليها. فالرئيس السابق بولسونارو ينتمي إلى اليمين المتطرف، وهو رئيس شعبوي يشبه كثيراً الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، ومن هنا جاءت التسمية "ترامب البرازيل".
أما منافسه، الرئيس الحالي لولا دا سيلفا، فهو سياسي يساري يبلغ من العمر 76 عاماً، تولى رئاسة البرازيل فترتين متتاليتين من 2003 حتى 2011، قدم خلالها برامج إصلاح اقتصادي ركزت على الجانب الاجتماعي وتحسين حياة الفقراء بصورة أكسبته شعبية هائلة.
وتعرّض دا سيلفا للمحاكمة والسجن بتهم فساد في قضية أطلق عليها "عملية غسيل السيارة" قبل أن تنقض المحكمة العليا الحكم، وترشح دا سيلفا للرئاسة في مواجهة بولسونارو، الذي كانت شعبيته قد تراجعت كثيراً بسبب تعامله مع جائحة كورونا بالأساس.
هذه هي الصورة العامة التي ألقت بظلالها على الانتخابات الرئاسية الأخيرة في البرازيل، بين بولسونارو ودا سيلفا. وشهدت الحملة الانتخابية والمناظرة التلفزيونية بينهما مؤشرات واضحة على أن ما تسبب فيه ترامب في الولايات المتحدة يمكن جداً أن يتكرر في البرازيل. فالسمات الشخصية لبولسونارو مشابهة لدونالد ترامب، وبخاصة الخطاب الشعبوي اليميني الذي يشكك في "مؤسسات الدولة العميقة" ولا يحترم العلم كثيراً.
وكان تعامل بولسونارو مع جائحة كورونا يكاد يكون متطابقاً مع تعامل ترامب. فمنذ بداية الوباء استَخفَّت الحكومة البرازيلية بخطورة الفيروس الذي أنهك جسد دولة تعدادها 120 مليوناً. ودعا بولسونارو الشعب للاستمرار في حياتهم الطبيعية، واستمع له عدد كافٍ -إما بسبب الفقر، أو السياسة، أو الملل- ما قوَّض إجراءات احتواء غير متكافئة مع حدة الفيروس.
وكانت لبولسونارو تصريحات كارثية مثل الربط بين لقاحات كورونا واحتمالات الإصابة بالإيدز، ما أدى إلى حظره من نشر فيديوهات على قناته في يوتيوب لفترات متقطعة، كما حذف فيسبوك وتويتر كثيراً من المنشورات للرئيس السابق، بحسب تقرير لفرانس برس.
ترامب أيضاً كان يسلك نفس المسار في التعامل مع الوباء القاتل، فمرة صرح بأنه أقل خطورة من الإنفلونزا، ومرة أوصى بتناول عقار هيدروكسي كلوروكين للوقاية من الفيروس، وكلها معلومات مضللة بالتأكيد، لكن أنصار الرئيس الأمريكي السابق يصدقون كل ما يصدر عنه بطبيعة الحال.
التشكيك في نزاهة الانتخابات
عندما خسر ترامب الانتخابات الرئاسية أمام منافسه جو بايدن في نوفمبر/تشرين الثاني 2020، رفض الاعتراف بالنتيجة، ووصف ما حدث بأنه "سرقة وتزوير"، داعياً أنصاره إلى عدم قبول النتيجة، وحثهم على القدوم من أنحاء الولايات المتحدة الأمريكية إلى واشنطن يوم 6 يناير/كانون الثاني 2021 تزامناً مع جلسة الكونغرس للتصديق على نتيجة الانتخابات، وكانت النتيجة اقتحام الكونغرس في مشهد مأساوي وعبثي شاهده العالم أجمع ونال كثيراً من هيبة أمريكا وسمعتها كدولة ديمقراطية.
وعلى خطى ترامب، سار بولسونارو، فخلال الحملة الانتخابية عام 2022، صدرت عن الرئيس البرازيلي تصريحات متعددة، تطعن في نظام الانتخابات الإلكتروني المطبق في البرازيل، كما لوّح مراراً بأنه قد لا يقبل النتيجة حال خسارته، إذ قال نصاً: "الله وحده يمكنه هزيمتي"، مضيفاً أن هذه الانتخابات لها ثلاث نتائج محتملة دون سواها بالنسبة له وهي: "الفوز أو السجن أو الموت".
كما وصف بولسونارو استطلاعات الرأي بـ"الكاذبة"، وقال عن معهد استطلاع الرأي "داتافولها" الذي منحه 32% فقط من نوايا التصويت مقابل 45% للويس إيناسيو لولا دا سيلفا: "هنا ليست كذبة داتافولها". وأضاف: "هنا تسود الحقيقة"، خلال خطاب في حشد غفير من مؤيديه بمناسبة احتفالات البلاد بمرور قرنين على نيل استقلالها.
ثم شكك بولسونارو، الذي خسر انتخابات 30 أكتوبر/تشرين الأول، دون دليل في مصداقية نظام التصويت الإلكتروني في البلاد، ما أدى إلى تأجيج حراك يتسم بالعنف من المشككين في النتائج.
واقتحم أنصاره، الأحد 8 يناير/كانون الثاني 2023، مبنى الكونغرس والقصر الرئاسي والمحكمة العليا في برازيليا، على طريقة أحداث اقتحام أنصار ترامب مبنى الكونغرس الأمريكي قبل عامين.
وجاء مشهد الآلاف من أنصار بولسونارو، الذين يرتدون ملابس صفراء وخضراء، وهم ينشرون الفوضى في العاصمة بعد أشهر من الانتخابات، تتويجاً لحملة ممتدة من الشحن والاستعداد من جانب هؤلاء عبر منصات التواصل الاجتماعي، بحسب تقرير لصحيفة Washington Post الأمريكية.
فخلال الأسابيع الماضية، عجّت منصات التواصل الاجتماعي في البرازيل بالدعوات لمهاجمة محطات الوقود ومعامل التكرير وإغلاق الطرق والبنية التحتية للبلاد، إضافة إلى إطلاق "حفل صرخة الحرب"، وهو مصطلح يهدف إلى تجمع أنصار بولسونارو في برازيليا لإسقاط حكومة دا سيلفا.
والسبب هو الزعم بأن "الانتخابات مسروقة"، فانتشر هاشتاغ "أوقفوا السرقة" بسرعة كما تنتشر النار في الهشيم، وهو الهاشتاغ نفسه الذي استخدمه ترامب وأنصاره في أمريكا قبل عامين. وأصبح تويتر أكثر منصات التواصل الاجتماعي ترويجاً لتلك المزاعم في البرازيل.
كان إيلون ماسك، مالك تويتر، قد فصل جميع العاملين في تويتر في البرازيل، باستثناء عدد قليل يعملون في إدارة المبيعات، وهو ما أدى إلى غياب أي رقابة على المحتوى تقريباً.
وتحدثت مصادر من تويتر إلى "واشنطن بوست" عن تداعيات قرار ماسك، مؤكدين أن فصل 8 أشخاص في ساو باولو كانت مهمتهم مراقبة المحتوى المخالف لسياسات تويتر، قد تسبب في انتشار المعلومات المضللة بشأن تزوير الانتخابات وكذلك الدعوات للتجمع في برازيليا، وخط سير أتوبيسات مخصصة لنقل أنصار بولسونارو.
ماذا يعني اقتحام مقرات الحكومة لدا سيلفا؟
اقتحام أنصار بولسونارو للقصر الرئاسي والكونغرس ومقر المحكمة العليا مثّل مشكلة فورية للولا دا سيلفا، الرئيس الذي تم تنصيبه قبل أسبوع وتعهد بتوحيد أمة مزقتها الشعبوية القومية التي كان ينتهجها سلفه.
وأظهرت لقطات تلفزيونية محتجين يقتحمون المحكمة العليا والكونغرس ويرددون شعارات ويحطمون الأثاث، وقدرت وسائل الإعلام المحلية أن نحو ثلاثة آلاف شخص يشاركون في ذلك.
ونفذ المقتحمون أعمالاً تخريبية داخل مقر المحكمة العليا، بحسب صور على مواقع التواصل الاجتماعي أظهرت محتجين يحطمون نوافذ المبنى العصري. وأحاط متظاهرون مسلحون بالعصي برجل شرطة يمتطي حصاناً وأنزلوه من عليه.
وأعلن الرئيس لولا دا سيلفا نشر قوات أمن فيدرالية في العاصمة برازيليا على أن يستمر ذلك حتى 31 يناير/كانون الثاني الجاري. وألقى لولا باللوم على بولسونارو في الاقتحامات، واشتكى من القصور الأمني في العاصمة قائلاً إنه سمح "للفاشيين والمتعصبين" بالتخريب وإشاعة الفوضى.
وأضاف لولا أنه سيتم تحديد هوية جميع مثيري الشغب ومعاقبتهم، متعهداً بالقضاء على ممولي هذا الحراك. ولولا بعيد الآن عن العاصمة، إذ يقوم بزيارة رسمية إلى ولاية ساو باولو، بحسب رويترز.
وغادر بولسونارو، الذي نادراً ما تحدث علناً منذ خسارته الانتخابات، البرازيل متوجهاً إلى فلوريدا قبل 48 ساعة من انتهاء ولايته وكان غائباً عن تنصيب لولا. وربما تؤدي مشاهد العنف في برازيليا إلى تضخيم المخاطر القانونية على بولسونارو الذي لم يعلق حتى الآن على عمليات الاقتحام، ولم يرد فريدريك واصف، محامي عائلة بولسونارو، على طلب رويترز للتعليق.
وقال حاكم برازيليا إيبانيس روشا لرويترز إنه تم نشر كل قوات الأمن لمواجهة مثيري الشغب. وكتب بعد ذلك على تويتر أنه أقال أندرسون توريس، أكبر مسؤول أمني لديه والذي كان وزيراً للعدل في حكومة بولسونارو.
ومع انتشار شائعات عن احتمال حدوث مواجهة، أذن وزير العدل فلافيو دينو بنشر قوة الأمن العام الوطنية. وكتب على تويتر: "هذه المحاولة العبثية لفرض الإرادة بالقوة لن تنجح".
بايدن يلوم ترامب.. والعالم يترقب
وأثارت تلك الأحداث ردود فعل فورية من جانب واشنطن، إذ طلبت السفارة الأمريكية في برازيليا من مواطنيها تجنب المنطقة التي تشهد الأحداث حتى إشعار آخر.
وكتب دوجلاس كونيف، القائم بالأعمال الأمريكي في برازيليا، على تويتر: "لا مكان للعنف في بلد ديمقراطي.. إننا نندد بشدة بالاعتداءات على مؤسسات السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية في برازيليا، والتي تعد أيضاً هجوماً على الديمقراطية. لا يوجد مبرر لهذه الأعمال!".
وقال مستشار الأمن القومي الأمريكي جيك سوليفان إن بلاده تدين أي محاولات لتقويض الديمقراطية في البرازيل. وأضاف على تويتر: "الرئيس (جو) بايدن يتابع الموقف عن كثب ودعمنا للمؤسسات الديمقراطية البرازيلية لا يتزعزع. الديمقراطية البرازيلية لن تهتز بسبب العنف".
أما بايدن نفسه فقد قال الأحد إن الوضع في البرازيل "مروع"، وقال وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن على تويتر إن واشنطن تضم صوتها إلى لولا في الدعوة إلى وقف الهجمات فوراً.
وقال السيناتور بوب مينينديز، رئيس لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ الأمريكي، على تويتر: "أدين هذا الهجوم الشائن على المباني الحكومية في البرازيل بسبب التجاهل الأهوج من قبل بولسونارو الغوغائي لمبادئ الديمقراطية".
وأضاف: "لا يزال إرث ترامب يسمم نصف الكرة الأرضية بعد سنتين منذ السادس من يناير. إن حماية الديمقراطية ومحاسبة الأطراف الشريرة أمر ضروري".
وسارع زعماء في أمريكا اللاتينية إلى التنديد بمشاهد الاقتحام والعنف، إذ كتب الرئيس الكولومبي جوستافو بيترو على تويتر: "كل تضامني مع لولا وشعب البرازيل.. الفاشية تقرر القيام بانقلاب". وقال رئيس تشيلي جابرييل بوريك إن حكومة لولا تحظى بدعمه الكامل "في مواجهة هذا الهجوم الجبان والشرير على الديمقراطية".
الخلاصة هنا هي أن في داخل البرازيل، حيث تفشى "فيروس" ترامب الرافض لخسارة الانتخابات، لا أحد يمكنه التكهن بما إذا كانت الأمور ستنتهي عند هذا الحد أم أنها مرشحة للتصعيد. أما خارج البرازيل، فمن المؤكد أن القلق من أن يتفشى "الفيروس" داخل دول أخرى قد ارتفع بشدة.