تصاعدت التوترات في البلقان خلال عام 2022، ووصلت ذروتها في شهر ديسمبر/كانون الأول 2022 على طول الحدود بين صربيا وكوسوفو، وذلك تزامناً مع تقديم كوسوفو طلبها الرسمي لعضوية الاتحاد الأوروبي في 15 من الشهر نفسه.
ردًا على ذلك؛ طلبت وزارة الدفاع الصربية من بعثة الناتو في كوسوفو الإذن بإرسال وحدة محدودة من الشرطة والجيش إلى كوسوفو، بينما أغلق متظاهرون من الأقلية الصربية بعض الطرق في شمالي كوسوفو، وتبادل مسلحون مجهولون النار مع الشرطة الكوسوفية وألقوا قنبلة صوتية على أفراد من بعثة الاتحاد الأوروبي (EULEX) المكلفة بتسيير دوريات الأمن في المنطقة، في المقابل أغلقت السلطات في كوسوفو معبرين حدوديين مع صربيا.
وأمر الرئيس الصربي ألكسندر فوتشيتش في 27 ديسمبر/كانون الأول، برفع حالة الاستعداد القتالي للقوات المسلحة ووضعها في حالة تأهب قصوى، كما أمر قائدَ جيشه بالتوجه إلى الحدود مع كوسوفو، وسط تصاعد التوتر بين البلدين.
وقال وزير خارجية صربيا إن بلغراد مستعدة للتدخل في حالة وقوع هجوم على الصرب في شمال كوسوفو ومنطقة ميتوهيا الجنوبية الغربية، وفي المقابل وضعت سلطات كوسوفو قواتها في حالة تأهب قصوى، وتعهد رئيس وزراء كوسوفو ألبين كورتي بأن بلاده "ستدافع عن نفسها بقوة وحسم".
هل تضع توترات صربيا وكوسوفو أوروبا على أعتاب حرب جديدة؟
بدأ تصاعد التوترات بين صربيا وكوسوفو نهاية شهر يوليو/تموز 2022، بعد أن اندلعت مظاهرات في شمال كوسوفو ضد قرار رئيس الوزراء كورتي، الذي يلزم الأقلية الصربية للمرة الأولى بالتخلي التدريجي عن لوحات ترخيص السيارات القديمة الصادرة عن صربيا، واستبدالها باللوحات الجديدة التي أصدرتها كوسوفو، وبعد أيام من الاحتجاجات، استجابت حكومة كوسوفو لضغوط الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، وقامت بتأجيل تنفيذ القرار المثير للجدل.
تجددت الاضطرابات العرقية في كوسوفو مرة أخرى في مطلع شهر ديسمبر/كانون الأول الحالي، وذلك بعد تظاهر المئات من الأقلية الصربية احتجاجاً على اعتقال ضابط شرطة صربي سابق، سبق أن استقال للاعتراض على قرار لوحات الترخيص. في المقابل، نشرت سلطات كوسوفو قوات الشرطة في المناطق الشمالية ذات الأغلبية الصربية؛ ما أدى إلى تفاقم التوترات التي أصبحت الأعنف منذ عام 2004.
لماذا ترفض صربيا انضمام كوسوفو للاتحاد الأوروبي؟
أعلنت كوسوفو استقلالها عام 2008، لكنها لم تكتسب بعد عضوية الأمم المتحدة كدولة مستقلة ذات سيادة؛ فبينما اعترف بها من قبل حوالي 110 دولة، إلا أن صربيا لم تعترف بدولة كوسوفو، ولا تزال تعتبرها جزءاً من أراضيها، كما لا تزال كل من روسيا والصين تعتبرها جزءاً من صربيا، كما أن هناك خمس دول في الاتحاد الأوروبي هي إسبانيا واليونان وقبرص ورومانيا وسلوفاكيا، لا تعترف باستقلال كوسوفو؛ بسبب مخاوف من حركات انفصالية وأقليات عرقية مماثلة داخل حدودها أو بسبب علاقات تاريخية وثيقة مع صربيا.
تضم منطقة غرب البلقان ست دول: ألبانيا، البوسنة والهرسك، الجبل الأسود، صربيا، كوسوفو، ومقدونيا الشمالية، جميعها لم ينضم بعد للاتحاد الأوروبي، وازدادت أهميتها الجيوسياسية في أعقاب الغزو الروسي لأوكرانيا؛ الأمر الذي دفع الاتحاد الأوروبي إلى تكثيف جهوده للمساعدة في إدارة نزاعات المنطقة والمضي قدماً في دمج دول غرب البلقان مع الاتحاد؛ حيث إن عدم الاستقرار في المنطقة، من شأنه أن يمنح روسيا فرصة لتمدد نفوذها في عمق القارة الأوروبية.
يقول موقع أسباب المتخصص بالتحليلات السياسية والاستراتيجية، إن الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي يشكل أولوية رئيسية لكل من صربيا وكوسوفو، حيث تقدمت الأخيرة رسمياً في منتصف الشهر الجاري بطلب منح صفة المرشح لعضوية الاتحاد الأوروبي، وهي المرحلة التي تسبق الشروع في محادثات الانضمام.
في حين بدأت صربيا مفاوضات الانضمام مع الاتحاد الأوروبي في عام 2014، وليس من المستبعد أن التصعيد من جانب صربيا يرتبط بطلب عضوية كوسوفو، لأن انضمامها للتكتل الأوروبي ينهي مسألة الاعتراف الدولي باستقلال كوسوفو، بحسب "أسباب".
تُحقق مفاوضات الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي مكاسب اقتصادية ضخمة للدول المنخرطة في تلك المفاوضات، وتعد صربيا أكبر متلقٍّ إقليمي للمساعدات المالية التي تسبق الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، علاوة على ذلك: فإن الاتحاد الأوروبي هو الشريك الاقتصادي الرئيسي لدول غرب البلقان، فضلاً عن الكثير من المساعدات المالية التي تتدفق من بروكسل إلى المنطقة بعد الغزو الروسي لأوكرانيا، فعلى سبيل المثال؛ قدّم الاتحاد الأوروبي دعماّ مادياً لدول غرب البلقان بمقدار مليار يورو للمساهمة في مواجهة أزمة الطاقة في المنطقة.
ما الذي تحتاجه صربيا وكوسوفو لدخول الاتحاد الأوروبي؟
يضع الاتحاد الأوروبي تسوية النزاع الإقليمي وتطبيع العلاقات شرطاً رئيسياً لكل من صربيا وكوسوفو لتحقيق عضوية الاتحاد الأوروبي، وهو ما يمثل حافزاً قوياً لكلا الجانبين على تخفيف التوترات، وبمعنى آخر: فإن تفاقم الصراع بين صربيا وكوسوفو لن يؤدي فقط إلى تعطيل مسار انضمام الدولتين إلى الاتحاد الأوروبي، ولكن أيضاً ستكون له عواقب فورية على اقتصاد كلا البلدين.
في الوقت عينه؛ يساهم وجود قوات حفظ السلام التابعة لحلف الناتو (KFOR)، والتي يبلغ قوامها 4000 جندي في شمال كوسوفو، في الحد من تصاعد العنف العرقي في المنطقة، كما تعمل قوات (KFOR) بمثابة رادع قوي ضد أية محاولات من صربيا بإرسال قوات إلى كوسوفو، ما يمنع أيضاً تحول الاضطرابات العرقية إلى صراع أوسع بين الدولتين الجارتين في غرب البلقان.
من جانب روسيا، تعتمد استراتيجية موسكو في التعامل مع منطقة غرب البلقان على استغلال التوترات العرقية والانقسامات الأخرى بهدف زيادة زعزعة الاستقرار في أوروبا، وكذلك منع دول المنطقة من الاتجاه غرباً والانضمام إلى الاتحاد الأوروبي أو حلف شمال الأطلسي الناتو.
لذلك؛ تواصل موسكو تقديم دعمها الدبلوماسي والمالي للزعيم القومي لصرب البوسنة ميلوراد دوديك، الذي يدعو للانفصال الكامل لإقليم "صربسكا" عن البوسنة والهرسك، كما أن هناك اتهامات لروسيا بالوقوف خلف محاولة الانقلاب الفاشلة في الجبل الأسود في عام 2016، كجزء من جهود موسكو لمنع الجبل الأسود من الانضمام إلى الناتو.
أما من جانب الصين؛ فقد ضخت بكين في السنوات القليلة الأخيرة استثمارات ومساعدات مالية ضخمة في منطقة البلقان، وعلى عكس المساعدات التي تقدمها واشنطن وبروكسل، والتي غالباً ما تكون مشروطة بمكافحة الفساد أو تعزيز سيادة القانون، فإن معظم مساعدات بكين تأتي بشروط قليلة؛ ما يجعلها أكثر جاذبية لدول المنطقة، ومع ذلك؛ لا تزال الاستثمارات الصينية بعيدة عن حجم الاستثمارات الأوروبية في المنطقة؛ فعلى سبيل المثال؛ يقدر الاستثمار الصيني في صربيا، والتي تعد أكبر متلقٍّ للأموال الصينية في منطقة البلقان، بنحو 1% فقط من إجمالي الاستثمار الأجنبي المباشر في صربيا، مقارنة بحصة تبلغ 70% للاتحاد الأوروبي.
يدرك الاتحاد الأوروبي أن عدم تقديم خطوات عملية ملموسة في مسار انضمام دول غرب البلقان للاتحاد يمكن أن يفتح الباب أمام تزايد النفوذ الروسي والصيني في المنطقة، أو أن يدفع بعض القادة الإقليميين لإثارة نزاعات عرقية بشكل أكبر بهدف الضغط على أوروبا لتقديم مرونة أكثر في عملية الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، الأمر الذي دفع بروكسل مؤخراً لاتخاذ خطوات عملية عندما منحت البوسنة والهرسك صفة "مرشح" للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، على الرغم من النظام السياسي الهش في ساراييفو وتجدد الاضطرابات العرقية بين الحين والآخر.
هل يمكن احتواء التوترات المتصاعدة في البلقان؟
في النهاية، ما زال من المتوقع احتواء التوترات الحدودية والتهديدات المتصاعدة بين صربيا وكوسوفو، ومنع تحولها إلى اضطرابات عرقية واسعة أو التحول إلى مواجهة بين الدولتين؛ وذلك بسبب الوجود الكبير لقوات حفظ السلام التابعة للناتو (KFOR)، بالإضافة إلى الضغط الدبلوماسي الغربي الذي يستثمر رغبة البلدين في الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي في تحفيزهما لخفض التوترات وتطبيع العلاقات.
من المتوقع في المدى القصير أن تركز المفاوضات التي يقودها الاتحاد الأوروبي بين صربيا وكوسوفو على احتواء الاضطرابات في شمال كوسوفو، بينما سيواصل الاتحاد على المدى البعيد جهوده لحل النزاعات الجوهرية بين صربيا وكوسوفو، والتي ما زال من غير المتوقع أن تسفر في المدى المنظور عن تسوية ما يتفق فيه الجانبان على تطبيع العلاقات.
ويبقى الوضع في مناطق شمال كوسوفو ذا حساسية شديدة؛ إذ إن العديد من جوانب الحياة اليومية في المنطقة، مهما بدت بسيطة، لا تزال تحمل دلالات عرقية، ما يعني أن تجدد الاضطرابات العرقية يظل احتمالاً قائماً في أي وقت، كما تبدو هشاشة حساسية الوضع غير مفاجئة بالنظر لحساسية الانقسام العرقي في منطقة غرب البلقان بصورة عامة.