واجه الاقتصاد المصري أزمات خانقة خلال عام 2022 أفقدت الجنيه أكثر من نصف قيمته في مواجهة الدولار الأمريكي، فكيف أثر ذلك على المصريين ووجباتهم الأساسية؟!
كان التضخم السنوي لأسعار المستهلكين في المدن المصرية قد تسارع إلى أعلى مستوى في خمس سنوات عند 18.7%، في نوفمبر/تشرين الثاني 2022، من 16.2% في أكتوبر/تشرين الأول الذي يسبقه، كما تسارع التضخم الأساسي إلى 21.5% من 19% في أكتوبر/تشرين الأول.
ورفع البنك المركزي، مساء الخميس 22 ديسمبر/كانون الأول 2022، سعريْ عائد الإيداع والإقراض لليلة واحدة، بواقع 300 نقطة أساس، لتصبح عند 16.25%، و17.25%، و16.75% على الترتيب، وهو ما يزيد على التوقعات التي كانت عند 200 نقطة أساس.
ويستهدف المركزي وفق بيانه الأخير خفض معدل التضخم إلى مستوى 7% (2% نقطة مئوية) في المتوسط خلال الربع الرابع من عام 2024، ومستوى 5% (2% نقطة مئوية) في المتوسط خلال الربع الأخير من عام 2026.
كيف تأثرت وجبة "الكشري" بسعر الدولار؟
السبب الأبرز الذي يقود الاقتصاد المصري إلى أزمات أصبحت شبه يومية هو عدم وجود الوفرة الدولارية داخل الشارع المصري والقطاع المصرفي، الأمر الذي أدى إلى تراكم السلع المختلفة في الموانئ المصرية، وحدوث اضطرابات ملحوظة في أسعار الذهب وسعر صرف الدولار في السوق السوداء.
صحيفة The Washington Post الأمريكية نشرت تقريراً عنوانه "مع تفاقم الأزمة الاقتصادية في مصر، أصبح من الصعب العثور على وجبة بأسعار معقولة"، رصد تداعيات الأزمة الاقتصادية على تكاليف المعيشة.
إذ تعد وجبة الكشري، وهي مزيج من المعكرونة والأرز والعدس والحمص والبصل المقلي وصلصة الطماطم الحارة، أحد أرخص الأطعمة وأكثرها شعبية في مصر، فهي غنية بالكربوهيدرات والبروتينات التي يمكنها أن تُشعر حتى أشد الزبائن جوعاً بالشبع طوال اليوم. والجميع في مصر يأكلونه، من أغنى الأغنياء إلى أفقر الفقراء.
ولكن مع الارتفاع السريع في أسعار المواد الغذائية بعد الأزمة الاقتصادية المتفاقمة، أصبحت حتى الوجبات منخفضة التكلفة مرتفعة الثمن، وطالت تداعياتها زعماء الكشري مثل يوسف زكي، صاحب محلات كشري أبو طارق، وكذلك جيوب المصريين العاديين.
وتمر مصر الآن بواحدة من أسوأ فترات التضخم منذ سنوات، والمصريون العاديون هم من يدفعون ثمنها. إذ ارتفعت أسعار المواد الغذائية والمشروبات بنسبة 30.9% منذ هذا الوقت من العام الماضي. ومطلع هذا العام، بلغ سعر الصرف الرسمي للجنيه 15.6 مقابل الدولار، والآن وصل إلى 24.7. وفي السوق السوداء، يصل سعر الدولار إلى 33 جنيهاً.
وتضع البنوك قيوداً على سحب الدولارات حتى تتمكن من الاحتفاظ بما يكفي منها في البلاد. ويتخلى كثير من المصريين عن الرفاهيات -من التوقف عن تناول الطعام بالخارج إلى تأجيل حفلات الزفاف- على أمل أن تتراجع الأسعار قريباً.
ولكن لحسن حظ زكي، يظل الكشري من الوجبات الأساسية عند المصريين. ولجأ أبو طارق إلى تقديم وجبات أصغر حجماً لتجنب رفع الأسعار الذي يعرف أن زبائنه لن يتحمّلوه. ومع ذلك، تضاءلت أعداد الزبائن إلى حد ما. ويعمل لدى زكي عشرات الموظفين بين المطبخ وطاقم التقديم وفرق التوصيل، وعليه أن يدفع رواتبهم كما كان يفعل من قبل، عدا أن الأموال اللازمة لذلك لم تعد كما كانت من قبل.
وقال زكي للصحيفة الأمريكية إن الزبائن الذين كانوا يشترون "طبق كشري كبير، ربما يشترون الصغير، والناس قد يكتفون بوجبتين فقط عوضاً عن ثلاث".
الأزمة ضربت الجميع في مصر
مطعم زكي، الذي حقق نجاحاً منذ تسعينيات القرن الماضي -وظهر مرة في مسلسل أنتوني بورداين "No Reservations"- منحه ما يكفي من الدعم للتغلب على الأزمة. فزكي الذي عمل في بيع الكشري معظم سنوات حياته، من عربة والده في البداية ثم من مطعمه، شاهد الأسعار ترتفع وتنخفض على مر الزمن، و"لكن هذا لم يحدث من قبل"، على حد قوله.
وفي حي الزمالك الخاص بالأثرياء، يقدم أحمد رمضان (27 عاماً) حوالي 700 طلب كشري وغيره من الوجبات الجاهزة يومياً. ومعظم زبائنه طلاب وموظفون من الطبقة العاملة يذهبون إلى هناك كل يوم.
وبالمقارنة مع آخرين في حي إمبابة الفقير الذي يقطن به، يعتبر رمضان نفسه محظوظاً. فلديه عمل ثابت ويمكنه الذهاب على قدميه إلى مطعم الكشري في الزمالك كل يوم دون القلق من ارتفاع تكاليف المواصلات. أما على جيرانه، "فقد ازداد الوضع سوءاً، وعليهم توفير احتياجاتهم والاكتفاء بتناول الخضار والأرز. ماذا بيدهم ليفعلوه؟".
وارتفعت تكاليف الإمدادات ارتفاعاً كبيراً لدرجة أن مطعمه توقف قبل أسابيع قليلة عن تقديم أرخص طبق كشري، وغطى هذا الخيار في قائمته بقطعة شريط لاصق. وقال رمضان إنه حتى وقت قريب كان بإمكانه شراء طن أرز بحوالي 8000 جنيه مصري، وقال إنه يكلف الآن 18 ألف جنيه. وارتفعت تكلفة إمدادته من المعكرونة بحوالي 6000 جنيه. وحتى الحاويات والأكياس البلاستيكية المستخدمة في تغليف الوجبات أصبحت أغلى من ذي قبل.
لكن الزبائن مستمرون في الذهاب. وقال: "الناس لن يتوقفوا عن الأكل". وفي الجوار، في حي العجوزة، كان مدحت محمد (47 عاماً) يقف خلف منضدة مطعم على جانب الطريق ليبيع الفول والطعمية. يقول محمد وزملاؤه إن الفول والطعمية من الأطباق النباتية الأساسية عند المصريين، لكن الزبائن بدأوا في الاستغناء عنهما.
وقبل عام، كان سعر الشطيرة ثلاثة جنيهات ونصفاً، والآن أصبح أربعة ونصفاً. يقول محمد: "الحرب في أوكرانيا تسببت في ارتفاع أسعار الدقيق والنفط. وحين ارتفعت أسعارهما، ارتفعت أسعار جميع الأشياء الأخرى".
والآن، يشتري بعض الزبائن الفقراء الطعمية وحدها بدلاً من شطيرة، ويضعونها في الخبز المدعم، لتوفير بضعة جنيهات. وقال مدير المتجر، سيد الأمير، إنه حتى لو ضاعف المطعم أسعاره "فلن نحقق أرباحاً كبيرة".
وقال إن عديداً من المتاجر الأخرى تغلق أبوابها، لكنه سيفعل كل ما في وسعه لتجنب تسريح العمال. وقال، مشيراً إلى محمد والرجال الآخرين: "كل هؤلاء لديهم ثلاثة أو أربعة أطفال". وجميع موظفي المطعم يعملون في وظائف أخرى مثل توصيل الطلبات أو يعملون في مطاعم أخرى. وقال: "إنها لمعجزة أن الناس يتمكنون من العيش".
ما المتوقع في عام 2023؟
قالت الحكومة المصرية إنها أفرجت عن بضائع مكدسة في الموانئ بقيمة 5 مليارات دولار خلال الشهر الأخير من عام 2022، وإن هناك خطة لإدخال بضائع بمبلغ مماثل خلال الأسابيع الأولى من العام الجديد، وهو ما يفترض به أن يخفف قليلاً من الأزمة الخانقة، ويؤدي إلى وقف ارتفاعات الأسعار.
لكن متعاملين قالوا، الثلاثاء 27 ديسمبر/كانون الأول، إنه يُعتقد أن الهيئة العامة للسلع التموينية، مشتري الحبوب الحكومي في مصر، تنتظر موافقة البنك الدولي على شراء محتمل للقمح من خلال مناقصة.
وسيمول البنك الدولي أية مشتريات من المناقصة التي تأتي في إطار مشروع لدعم الأمن الغذائي والقدرة على الصمود في حالات الطوارئ، وأضاف المتعاملون أنه قد يتم الإعلان عن عملية الشراء في أي وقت خلال 48 ساعة.
وقالت الهيئة إن العروض يمكن أن تقدم من أجل 30 أو 40 أو 50 أو 55 أو 60 ألف طن شاملة تكاليف الشحن للتوريد في الفترة من 1 إلى 15 فبراير/شباط 2023 من أي منشأ في دفتر المناقصة، بحسب رويترز.
ووافق البنك الدولي في الآونة الأخيرة على تمويل تنموي بقيمة 500 مليون دولار لمصر لتوسيع شبكة الأمان الاجتماعي وبرنامج الحماية الاجتماعية.
لكن مصر لا تزال تواجه نقصاً في العملة الأجنبية على الرغم من خفضين كبيرين لقيمة الجنيه هذا العام، مع وجود فجوة آخذة في الاتساع بين سعر الصرف الرسمي للعملة المحلية مقابل الدولار والسعر في السوق السوداء.
وفرض البنك المركزي المصري في فبراير/شباط الماضي شرط استخدام الاعتمادات المستندية في معظم عمليات الاستيراد، ما تسبب في تباطؤ حاد في الواردات، وتراكم البضائع في الموانئ.
كما أدى ضعف الجنيه المصري إلى زيادة الطلب على السبائك والعملات الذهبية من قبل الأفراد من أجل الحفاظ على قيمة مدخراتهم، وتراجع السعر الرسمي للجنيه إلى نحو 24.7 مقابل الدولار نزولاً من 18.8 للدولار في مارس/آذار، ويتم تداوله عند حوالي 31 جنيهاً للدولار في السوق السوداء، بحسب رويترز. ويعتبر رفع البنك المركزي المصري أسعار الفائدة مؤخراً مؤشراً على أنه ربما يستعد لمزيد من الخفض في قيمة العملة.