بينما كان عام 2022، مؤلماً لمعظم دول وشعوب العالم، فإنه كان سعيداً بالنسبة لمنتجي الطاقة، خاصة الغاز والنفط، دولاً وشركات، ولكن هل يستمر هذا المسار أم تنقلب الأمور على منتجى الغاز والنفط، الإجابة قد نجدها في أزمات الطاقة السابقة.
وتكشف البيانات التاريخية عن ذروةٍ واحدة للطلب على الهيدروكربونات، ولكن اللافت أن التوقعات تُظهر ذروةً أخرى نهائية، أي أنه قد نشهد ارتفاعاً في استهلاك النفط والغاز والفحم يعقبه انخفاض قد لا يتعافى منه الطلب مجدداً.
يزداد هذا الاحتمال مع قرار البرلمان الأوروبي منع بيع السيارات العاملة بالوقود الأحفوري في دول الاتحاد الأوروبي عام 2035.
كما تظهر البيانات والرسوم التوضيحية أنه يمكن وصف الطاقة بأنها عالية التركيز والتوزيع في آنٍ واحد.
وربما انتشرت الأزمات، لكن خطط الاستجابة لها كانت وفيرةً أيضاً. وسنجد أينما نظرنا لمحات مستقبلية عن المشكلات والحلول الجديدة على حد سواء، حسبما ورد في تقرير لوكالة Bloomberg الأمريكية.
صدمة النفط الحالية سبق أن حدثت خلال حرب 1973
الهجوم الروسي على أوكرانيا كان بمثابة صدمة قديمة الطراز. حيث شهدت تلك الصدمة تداخل الحرب، مع التجارة، مع التبعية، مع السيادة لتُشكل مزيجاً مألوفاً لدى أي مؤرخ لأحداث القرن الـ20.
وتُذكرنا الشواهد التاريخية بأن الاتجاهات العالمية التي تبدو ثابتةً يُمكن أن تتغير سريعاً في أوقات الأزمات. ويُعَدُّ الارتباط بين النفط وبين الناتج المحلي الإجمالي خير مثالٍ هنا.
إذ كانت كثافة استهلاك النفط في إجمالي الناتج المحلي العام ترتفع بثبات قبل صدمة النفط عام 1973، حيث كانت اقتصادات العالم تحتاج المزيد من النفط مقابل كل وحدة إنتاج اقتصادي بمرور الوقت. وبلغت كثافة استهلاك النفط ذروتها في دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية خلال ذلك العام، بفضل الاستجابات الموضوعة للصدمة النفطية التي حدثت جراء تخفيض الدول العربية لإنتاج الخام بسبب الدعم الغربي ولا سيما الأمريكي لإسرائيل في حربها مع العرب عام 1973.
في المقابل، بلغت ذروة كثافة استهلاك النفط لدى بقية دول العالم بعد خمس سنوات من ذلك التاريخ.
ولا خلاف على صعوبة التغيير، لكن الصدمات القديمة تَعِدُ دائماً بفتح مسارات جديدة.
استهلاك الوقود الأحفوري قد يبدأ بالانخفاض بينما الطاقة الشمسية تصعد بقوة
تقول الوكالة الدولية للطاقة إننا نعيش "أول أزمة طاقة عالمية في التاريخ"، في ظل وجود عدة صدمات عميقة وواسعة النطاق. وتوصلت الوكالة بذلك إلى استنتاج مذهلٍ يعني أن استهلاك الوقود الأحفوري يقترب من ذروته النهائية، أي أنه سيبدأ بالانخفاض.
ونقترب من تلك الذروة حتى في أكثر السيناريوهات تحفظاً من جانب الوكالة الدولية للطاقة، التي تلتزم بترتيبات السياسة السائدة في النظر إلى الاقتصاد العالمي ولا تأخذ في اعتبارها أي اكتشافات تقنية فارقة.
ويمكنك إلقاء نظرةٍ مقربة لتلاحظ الاتجاهات المؤدية إلى تلك القمم، وخاصةً في قطاع الطاقة. إذ بلغ توليد الطاقة بالفحم ذروة نموه في العقد الماضي (بعيداً عن القفزة الاستثنائية التي شهدها في أعقاب كوفيد). كما بلغت طاقة الغاز الطبيعي ذروتها خلال الفترة نفسها أيضاً. بينما تواصل طاقة الرياح والطاقة الشمسية نموهما على الجانب الآخر.
وتوقعت الوكالة الدولية للطاقة إنتاج طاقة رياح وطاقة شمسية جديدة بمقدار 460 تيراواط/ساعة خلال العام الجاري، أي ما يعادل مقدار الطاقة التي استهلكتها فرنسا من كافة المصادر في عام 2019. بينما تتوقع شركة أبحاث الطاقة النظيفة BNEF إنتاج نحو 650 تيراواط/ساعة من طاقة الرياح والطاقة الشمسية في العام المقبل، أي أكثر من إجمالي الطاقة التي استهلكتها دولة مثل البرازيل في عام 2019.
المستهلكون الكبار يواصلون حرق مزيد من الغاز والنفط
أفاد تقرير اتجاهات تحول الطاقة السنوية من شركة BNEF بأن غالبية معدلات النمو في توليد الطاقة تتركز بدرجةٍ عالية في مناطق جغرافية بعينها. وبناءً عليه، سنجد أن أكبر 10 أسواق لطاقة الرياح شكّلت 89% من إجمالي السعة الجديدة بين عامي 2012 و2021. بينما تُعَدُّ الطاقة الشمسية أكثر انتشاراً بفارقٍ ضئيل، حيث مثّلت أكبر 10 أسواق للطاقة الشمسية نحو 85% من إجمالي المحطات الجديدة خلال الفترة نفسها. أما على صعيد الفحم، فسنجد أن الصين والهند شكلتا مجتمعتين نحو 78% من إجمالي سعة المحطات الجديدة لتوليد الطاقة بالفحم خلال السنوات الـ10 الماضية.
وإذا نظرنا إلى تلك البيانات من زاويةٍ أخرى، فسنجد أن الطاقة الشمسية تمثل سوقاً متوسعة. حيث كانت هناك 55 دولة تبني مشروعات للطاقة الشمسية بسعة تجارية تتجاوز الـ1 ميغاواط قبل عقدٍ من الزمن، بينما وصل الرقم إلى 112 دولة في العام الماضي. أما طاقة الرياح على الجانب الآخر، فلم تشهد القدر نفسه من الانتشار داخل دول أكثر.
شركات الطاقة تتوقف عن العمل في أستراليا رغم وفرة الإنتاج
أتحدث عن أستراليا كثيراً، لأنها تمثل واجهةً لمستقبل الطاقة، كما هو حال ولاية كاليفورنيا الأمريكية. حيث تُحرز أستراليا تقدماً على صعيد نشر مصادر الطاقة المتجددة، مع الحفاظ على ارتباطها القوي بأسواق الطاقة العالمية (رغم أنها ليست متصلةً بها مادياً في الواقع).
لكن في يونيو/حزيران من العام الجاري شهد توقف سوق الطاقة الأسترالي عن العمل. إذ قررت الشركة المشغلة لشبكة الطاقة الوطنية تحديد أسعار الغاز الطبيعي من أجل حماية المستهلكين، وذلك بالتزامن مع ارتفاع أسعار الغاز الطبيعي العالمية. ثم حددت أسعار الطاقة عند 300 دولار لكل ميغاواط/ساعة (بعد أن وصلت إلى 15.000 دولار لكل ميغاواط/ساعة في ذروتها بالسوق الفورية). ولا شك أن ذلك الرقم كان يعني خسارة شركات الطاقة للأموال مع بيع كل وحدة ميغاواط/ساعة. ولهذا توقفت العديد من شركات الطاقة عن العمل لأسباب اقتصادية، ولم يعد العرض كافياً لتلبية الطلب. مما دفع الشركة المشغلة لشبكة الطاقة إلى وقف كافة عمليات التداول الفوري، وتحولت البلاد إلى سوق للطاقة بلا سوق فعلياً.
انهيار دور الفحم والنفط في توليد الطاقة الكهربائية بأمريكا يقدم درساً مهماً
درس آخر من التاريخ. إذ توسع حجم توليد الطاقة الأمريكية بأكثر من 12 ضعفاً منذ عام 1950، ليرتفع من 300 تيراواط/ساعة سنوياً إلى أكثر من 4.000 تيراواط/ساعة. لكن المصادر الأساسية لتلك الطاقة أخذت عدة أشكال شديدة الاختلاف على مدار تلك العقود. حيث بلغ استهلاك الفحم ذروته ثم انهار، وارتفع استهلاك الطاقة النووية ثم تراجع، بينما أوشكت الطاقة النفطية على الاختفاء.
ولكن اليوم تنمو معدلات الاعتماد على الغاز الطبيعي ومصادر الطاقة المتجددة اليوم.
وليست تلك الاتجاهات من صنع السوق فقط. حيث جاء صعود الفحم، لأن الطاقة القائمة على النفط كانت شديدة التلوث وباهظة الثمن. بينما كان الغاز يُعتبر نادراً ومناسباً للاستخدامات الصناعية أكثر. ولهذا كان الفحم بمثابة حل للمشكلات الشائكة في أحد العقود، قبل أن يتحول إلى مشكلةٍ في حد ذاته خلال عقدٍ لاحق.
ومن المحتمل أن تسلك المنظومة التي نبنيها الآن مساراً مشابهاً، مما يمنحنا تذكيراً تحذيرياً، لكنه ليس تذكيراً سيئاً بالضرورة.
ولا خلاف على أن حل مشكلة وفرة الطاقة الخالية من الكربون سيخلق حلولاً جديدة ويفتح الباب أمام فرص جديدة أيضاً.
لا يعني وصول العالم إلى ذروة الطلب على الوقود الأحفوري أو اقترب هذه الذروة نهاية استهلاكه، ولكن سيعني هذا تراجع الطلب على الغاز والنفط والفحم بشكل يجعله أقل من الإنتاج، وكلما زادت هذه الفجوة، تراجعت الأسعار، وباتت السوق تعمل لصالح المستهلكين لا المنتجين.
وقد يكون خبراً غير سعيد لمنتجي الغاز والفحم الذي من المؤكد أنهم يعيشون أسعد أيامهم، ولكن السؤال إلى متى تستمر.