شهدت إيران عدة إضرابات عمالية هذا الشهر، منها إضراب امتد في أرجاء البلاد طيلة 3 أيام وكان من أكبر الإضرابات التي شهدتها الجمهورية الإيرانية منذ عقود. وقد أبرزت تلك الإضرابات شيئاً من الدور الذي يمكن أن يضطلع به العمال في الانتفاضة التي تجتاح البلاد منذ سبتمبر/أيلول، كما يقول تقرير لصحيفة The Washington Post الأمريكية.
وأضربت مجموعات صغيرة من عمال النفط في جنوب إيران يوم السبت 17 ديسمبر/كانون الأول، مطالبين بزيادة الأجور وتحسين ظروف العمل، لا سيما بعد أن أقرت الحكومة إجراءات محدودة مماثلة خلال الاحتجاجات، التي اشتعلت في أعقاب مقتل الشابة الإيرانية مهسا أميني، وزادها تأججاً انتشار الفقر والسخط من التدهور الاقتصادي المتواصل منذ سنوات بسبب العقوبات الغربية وسوء إدارة الدولة.
لماذا تعد الإضرابات العمالية مفتاحاً لنجاح الاحتجاجات في إيران؟
طالب كثير من المتظاهرين أثناء الاحتجاجات بإزاحة رجال الدين عن الحكم في إيران، وتفكيك أجهزة القمع التي تعتمد سلطتهم عليها، لكن البلاد لم تشهد حتى الآن اضطرابات عمالية واسعة النطاق تُزيد من ثقل الاحتجاجات، على نحو ما فعلت الإضرابات العمالية في الإطاحة بالشاه في الثورة الإيرانية عام 1979، وترجع بعض أسباب ذلك إلى أن الدولة ما زالت تحتفظ بسيطرة شبه كاملة على المنظمات العمالية، وإن كان بعض المراقبين والخبراء يقولون إن تلك السيطرة معرضة للخطر تحت وطأة الفقر المدقع وتشتت العمالة.
صمدت الاحتجاجات صموداً بارزاً حتى الآن، فقد تواصلت واشتدت رغم حملة القمع المتصاعدة، إلا أنها وصلت إلى ما يمكن وصفه بالطريق المسدود، فالمحتجون لم يرضخوا للقمع الحكومي العنيف لكنهم عاجزون في الوقت نفسه عن فعل شيءٍ يقلب الوضع الراهن. وتشير البيانات الصادرة عن وكالة أنباء "هرانا" الحقوقية إلى مقتل أكثر من 500 شخص واعتقال نحو 18 ألفاً حتى الآن، فضلاً عن إعدام شخصين ومواجهة آخرين لعقوبة الإعدام بعد إدانتهم باتهامات مرتبطة بالاحتجاجات.
أقدم بعض العمال المنظمين على المجازفة بمساندة الحركة الاحتجاجية، لكن فؤاد كيخسروي، من نقابة العمال الإيرانيين المستقلة، يرى أن الحركة تحتاج إلى مساندة ملايين العمال الساخطين وإغلاق القطاعات الكبرى -حقول النفط والمصانع ووسائل النقل العام- لكي تتمكن من التغلب على "آلة القمع" الحكومية، كما تنقل الصحيفة الأمريكية.
ما هي نقابة العمال الإيرانيين المستقلة؟
تستند نقابة العمال الإيرانيين المستقلة إلى مجموعة تكونت في عام 2006 لتمثيل العمال المفصولين والعاطلين عن العمل، ثم توسعت لتشمل موظفين من قطاعات صناعية وخدمية، وهي تصارع الحظر الإيراني المفروض على تكوين النقابات المستقلة.
ويقول كيخسروي إنه على الرغم من مساعيهم الحثيثة، فإن "القمع الشديد الذي يمارسه النظام" قطع الطريق على المساعي المبذولة طيلة عقود لحشد العمال و"مواجهة [النظام] بصفوف متحدة".
قال بيمان جعفري، المؤرخ العمالي لـ"واشنطن بوست"، إن النظام أنشأ مجموعات عمالية معتمدة من الدولة، لكن العمال المستقلين انخرطوا في نضال متواصل لمحاربة انخفاض الأجور، وتأخر المدفوعات، والعقود غير المنتظمة، والظروف غير الآمنة، وتآكل قيمة معاشات التقاعد، في ظل الاقتصاد الذي تهيمن عليه النخب المرتبطة برجال الدين والحرس الثوري الإيراني.
أشار الجعفري إلى أن إضرابات العمال، وإن تزايدت وتيرتها، فإن أهدافها تتركز على المطالب الاقتصادية وليست السياسية، فالأخيرة لا تزال تبدو "غاية باهظة الثمن" للعمال. وهذا هو الأمر الذي تحاول الحركة الاحتجاجية الحالية تغييره.
مشاركة العمال في الاحتجاجات تتزايد
ومع أن انضمام العمال بجميع نقاباتهم إلى الاحتجاجات لا يزال أملاً بعيد المنال، فإن مشاركة العمال تزداد يوماً بعد يوم. وكان العصيان المدني الجماعي في المدة من 5 إلى 7 ديسمبر/كانون الأول أحد أبرز الأمثلة على هذه المشاركة، فقد أُغلقت المحلات وأفرغت المكاتب وعمَّ الهدوء المخيف أسواق نحو 50 مدينة. وكان في صدارة هذا العصيان المناطق ذات الأغلبية الكردية، وبضع نقابات مستقلة مثل "المجلس التنسيقي لنقابات المعلمين الإيرانيين"، الذي يضم في عضويته مجموعة كبيرة من النساء.
انضم إلى العصيان المدني عمال من مختلف القطاعات. وقال مربِّي دواجن يعمل بمدينة ساري شمالي إيران إنه أوقف الإنتاج وقطع التعاملات المالية مع مؤسسات الدولة في أحد أيام العصيان المدني، وأضاف: "حجبت عنهم المال الذي سيتحول لاحقاً إلى رصاص يقتلني ويقتل أطفالي".
وشاركت أستاذة جامعية من مدينة كرج، تحدثت شريطة عدم الكشف عن هويتها، في الاحتجاجات التي واكبت العصيان في الشوارع. وقالت إنها أضربت عن العمل بعد أيام من مقتل أميني، واستقالت من العمل بعد ضغوط من المدرسة عليها لكي لا تشارك في الحركة الاحتجاجية، وقالت: "يكفيني فخراً ألا يكون لي صلة بأي نظام فاسد".
"خطوة مهمة إلى الأمام"
يقول جعفري لـ"واشنطن بوست" إن إضرابات ديسمبر/كانون الأول كانت "خطوة مهمة إلى الأمام، لكن كفة المشاركين في الاحتجاجات لا تزال أخف وزناً"، فالعصيان لم يشمل سوى شريحة صغيرة من العمال، ولم يحصل على أي مساندة من نقابات العمال التي تقرها الدولة، ولم يشارك فيه عمال الصناعات الكبرى، مثل النفط والنقل، اللازمة لتعطيل الاقتصاد. كذلك فإن الإضرابات التي شهدها "القطاع الصناعي هي استمرار لمجموعة من الإضرابات الممتدة بشأن المطالب الاجتماعية والاقتصادية" في السنوات الماضية.
لطالما كان الناشطون العماليون بإيران في طليعة الكفاح ضد الاستبداد، وقد أسهمت الإضرابات الجماعية في مختلف قطاعات الصناعة أواخر عام 1979 في إسقاط محمد رضا شاه. لكن السلطة حصرت التنظيم الجماعي للعمال بعد ذلك في النقابات والمجالس التي تعترف بها الدولة.
قال جعفري إن طهران بدأت في التسعينيات خطوات الخصخصة وما يرتبط بها من سياسات أدت إلى تدهور ظروف العمل وتدني الأجور بعد أن زاد اعتماد الدولة على التعاقد مع الشركات الخاصة الكبرى.
ضاق العمال ذرعاً بالقيود المفروضة عليهم، فعمد سائقو الحافلات التي تخدم طهران وضواحيها إلى تنظيم أول اتحاد عمالي مستقل في الجمهورية الإيرانية عام 2004، وتبعهم في ذلك عمال في مصنع لقصب السكر، ومعلمون، وعمال في مصنع للصلب في إصفهان، وعمال في قطاع النفط، وغيرهم.
قمع شديد تتعرض له النقابات العمالية المستقلة
لكن أجهزة الأمن مكَّنت الدولة من إبقاء تلك النقابات تحت السيطرة. فقد قمعت السلطة الإضرابات بعنف، واعتقلت كبار الناشطين العماليين ورؤساء النقابات المستقلة. وسجنت السلطات إسماعيل عبدي، الأمين العام لنقابة العمال المستقلين، في عام 2015.
تقول تارا سبهري فر، من منظمة هيومان رايتس ووتش، إن "المجتمع المدني المنظم يحاول جاهداً مساندة الاحتجاجات، لكن ناشطيه عاجزون عن الاضطلاع بدور قيادي بسبب شدة القمع. فقد بذلت الدولة جهوداً حثيثة منذ سنوات طويلة للسيطرة على النشاط العمالي المنظم" في البلاد.
وقال زيب كالب، باحث الدكتوراه في جامعة كاليفورنيا بلوس أنجلوس والمتخصص في الحركات العمالية الإيرانية، إن ضعف مشاركة العمال في الاحتجاجات يرجع إلى "هشاشة تنظيماتهم" و"تشتتهم" في وظائف وعقود منخفضة الأجر. واستند إلى بيانات حكومية للقول إن نحو ثلثي العمال في قطاع النفط الإيراني، الذي يحظى بدعم كبيرة ويخضع للسيطرة الأمنية، عمال يعملون بعقود مؤقتة وليس لديهم وسيلة مركزية لتنظيم أنفسهم والعمل على تحسين أمنهم الوظيفي.
وقال جعفري إن النساء، اللواتي يتصدرن الانتفاضة، يمثلن رسمياً 18% من سوق العمل الإيراني، لكن معظمهن يعمل بوظائف غير رسمية، مثل الخدمات المنزلية، ومن ثم فليس لديهم وسيلة للتنظيم النقابي.
وأشار جعفري إلى أن العقوبات الاقتصادية الأمريكية والغربية "قوَّضت قدرة العمال على التنظيم والإضراب، لأنها عززت من قبضة النخبة الحاكمة على الاقتصاد المعزول عن العالم".
ويرى كيخسروي أن المصاعب لا تزال هائلة، والتوقعات عالية، "فـ"الإضرابات العمالية تثقل كاهل المجتمع الإيراني". وقال كالب إن "الحركة الاحتجاجية تحتاج إلى مزيد من الوقت، والعمال كذلك. يتعين أن ينزل كثير من الناس إلى الشوارع لكي يتجاسر العمال وينضمون إليهم".