نظَّمت قطر "أفضل نسخة من كأس العالم على الإطلاق"، وحقَّق المغرب المركز الرابع في المونديال، فهل انتهى عصر التمثيل المشرف وتحوّل العرب من "ضيف خفيف" إلى منافس شرس تنظيماً وأداء؟
رغم أنه منذ فازت قطر بتنظيم كأس العالم 2022 لم يمر يوم تقريباً إلا وكانت الدولة العربية هدفاً لهجوم مصدره الغرب، بغرض التشويه والتشكيك، لكن عندما حانت اللحظة كانت قطر على مستوى الحدث الأبرز في كرة القدم، فأصبح الانبهار سيد الموقف، وتوالت شهادات الإشادة والإعجاب من الغرب نفسه.
كرة القدم هي اللعبة الشعبية الأولى في العالم، وبالمنطقة العربية تحديداً، دون منازع وبفارق شاسع، ومنذ حفل الافتتاح المبهر يوم 21 نوفمبر/تشرين الثاني وحتى حفل الختام ومباراة النهائي بين فرنسا والأرجنتين، الأحد 18 ديسمبر/كانون الأول 2022، عاش الجميع مونديالاً استثنائياً بكل المقاييس، من قدرة حاملي التذاكر على حضور أكثر من مباراة في اليوم الواحد، إلى مشاهدة تلفزيونية قياسية تجاوزت المليار مشاهد، قبل انتهاء أفضل دور مجموعات في تاريخ المونديال منذ نسخته الأولى عام 1930.
قطر.. أفضل نسخة من كأس العالم على الإطلاق
نظمت قطر أول كأس عالم لكرة القدم في المنطقة العربية، ويا له من تنظيم مبهر، وضع منظمي النسخة 23 من البطولة في مأزق باعترافهم. وعلى أرضية الملاعب الثمانية التي استضافت المباريات، تحطمت أرقام قياسية، ووقعت مفاجآت لم يكن أحد يتوقعها على الإطلاق قبل بداية كأس العالم قطر 2022.
جياني إنفانتينو، رئيس الاتحاد الدولي لكرة القدم (الفيفا)، اعتبر أن مونديال قطر هو "أفضل كأس عالم على الإطلاق"، حيث أظهر قدرة فائقة على جمع الناس، مضيفاً أن البطولة إجمالاً حققت نجاحاً استثنائياً، بعدما جذبت 1.7 مليون شخص في مناطق الجماهير، بواقع 80 ألف مشجع يومياً. وبلغ متوسط الحضور الجماهيري 52 ألف شخص في المباراة الواحدة، بزيادة نحو 5000 متفرج مقارنة بالنسخة الماضية من البطولة، التي أقيمت في روسيا.
وقال إنفانتينو إن 3.27 مليون متفرج، محلياً ودولياً، تابعوا البطولة قبل مباراتين على نهايتها. وبلغ إجمالي المتفرجين في النسخة الماضية 3.03 مليون متفرج، وأضاف "لقد كانت ناجحة جداً جداً، لكن أمسك الخشب، تتبقى مباراتان، سنركز حتى النهاية، وبعدها سنؤكد بالطبع تلك المشاعر التي تراودنا الآن".
أقيمت مباريات كأس العالم قطر 2022 على 8 ملاعب، تم تشييد 7 منها خصيصاً من أجل البطولة، إضافة إلى تجديد ملعب ثامن كان موجوداً من قبل، وأصبحت الملاعب جميعاً جاهزة تماماً لاستقبال المباريات، وأقيمت بالفعل نسخة استثنائية من بطولة كأس العرب برعاية الفيفا، قبل عام كامل من انطلاق كأس العالم، للوقوف على جاهزية كافة الاستعدادات لاستضافة الحدث الكروي الأبرز عالمياً.
وبشهادة جميع أطراف اللعبة الأكثر شعبية حول العالم، من مسؤولين ونجوم سابقين وحاليين، إلى الجماهير وعشاق الساحرة المستديرة، عاش الجميع تجربة متميزة على جميع الأصعدة، من الأجواء المثالية إلى سهولة التحرك والإقامة وحضور الفعاليات اليومية في أمان تام وحرية تغنى بها الجميع، باستثناء من أرادوا أن يفرضوا آراءهم ومعتقداتهم على الدولة العربية المستضيفة.
التنظيم القطري يفتح الباب لمزيد من الاستضافة العربية
أحد نجوم كرة القدم الإنجليزية السابقين، جون بارنز، كان أحد الذين تناولوا الانتقادات الغربية لأول دولة عربية ومسلمة تستضيف كأس العالم، ووصف الموقف الغربي بأنه "عجرفة وجهل بالقوانين"، في مقال له بصحيفة التايمز البريطانية.
وقال بارنز إن "الزمن تغير، ولم يعد مقبولاً أن يسمح الأوروبي لنفسه بإعطاء الدروس للعالم ويعلمهم ما هو الخطأ وما هو الصواب، ويشعر بأن من حقه أن يربي ويعلم ويحضر الشعوب والثقافات التي يراها دونية، الأمور لم تعد تسير بهذه الطريقة".
وأضاف نجم نادي ليفربول السابق أن البعض استغرب أن المشجعين الإنجليز الذين ذهبوا إلى الملاعب وهم يرتدون زي الصليبيين لم يجدوا ترحيباً بهم في قطر: "هذا دليل على جهلنا، وقلة وعينا"، مشبهاً هذه التصرفات بأن يأتي "مشجعون ألمان إلى ملعب ويمبلي، في لندن، مرتدين زي النازية، ويتوقعون منا أن نرحب بهم".
وفيما يتعلق بقرار منع ارتداء قادة المنتخبات الأوروبية شارة المثليين، قال بارنز إن "قطر دعت الجميع إلى نهائيات كأس العالم، مثليين وغير مثليين، ولكنها طالبت الجميع باحترام عاداتها وثقافتها وقوانينها، وهذا يعني عدم إظهار الميول الجنسية في الأماكن العامة، فكل شخص حر في حياته، ولكن عليه احترام قوانين البلاد، سواء وافق عليها أم لم يوافق".
وأضاف أن "شارة المثليين تروج لأمر مخالف للقانون في قطر، حتى إذا لم نوافق على ذلك، فالذين يزورون بلادنا لا نسمح لهم بالترويج لما هو مخالف للقانون عندنا، فما نراه نحن مجرد شارة ملونة يراه القطريون رمزاً ينتقد ويتحدى قوانينهم وثقافتهم".
لا شك أن التنظيم الاستثنائي لهذه النسخة من كأس العالم قطر 2022 يفتح الباب على مصراعيه أمام دول عربية أخرى، للسعي إلى تكرار التجربة، وقد أعلنت السعودية بالفعل عن سعيها لتنظيم كأس العالم 2030، والألعاب الأوليمبية، خصوصاً أن المملكة ستستضيف الألعاب الأوليمبية الآسيوية عام 2034.
وتستعد السعودية لتقديم ملف مشترك مع مصر واليونان، لاستضافة النسخة 24 من المونديال، خصوصاً أن الفيفا قد عاد إلى التنظيم المشترك، بإسناده النسخة المقبلة 2026 للولايات المتحدة والمكسيك وكندا.
وتمتلك كثير من الدول العربية جميع المقومات التي تؤهلها بالفعل لاستضافة الأحداث الرياضية الكبرى، سواء أكانت دولاً خليجية أخرى، بخلاف قطر والسعودية، أو دولاً عربية إفريقية مثل المغرب ومصر والجزائر، ولجميعها باع طويل في استضافة الأحداث الرياضية القارية.
فاستضافة قطر للمونديال في أجواء تحترم العادات والتقاليد العربية والإسلامية، وخروج البطولة بهذه الصورة المبهرة والاستثنائية، تؤكد على رسالة الرياضة عموماً، وكرة القدم خصوصاً، التي تهدف إلى الوحدة وتنحية الخلافات والاختلافات جانباً.
وهذا بالتحديد ما عبّر عنه إنفانتينو عندما دافع عن قرار الفيفا بمنع الفرق من وضع أي رسائل على القمصان أو شارة القائد، حيث أبلغ الصحفيين "لا يتعلق الأمر بالمنع، وإنما باحترام القواعد، داخل المستطيل الأخضر نلعب كرة القدم، يجب عليك احترام الملعب، هذا ليس بجديد".
وقال إنفانتينو: "الجماهير تريد أن تمضي 90 دقيقة أو 100 دقيقة و120 دقيقة مع ركلات الترجيح دون التفكير في شيء آخر، مجرد الاستمتاع بلحظة بسيطة من السعادة والفرح والعواطف".
وأضاف: "يجب علينا أن نمنح هؤلاء الجماهير لحظة يتناسون فيها مشاكلهم ويستمتعون بكرة القدم، بعيداً عن المباراة، يمكن للجميع التعبير عن وجهة نظرهم وآرائهم"، بحسب رويترز.
كيف قلب المغرب موازين مشاركات العرب في كأس العالم؟
أما من حيث الأداء في هذه النسخة الاستثنائية من كأس العالم، فقد حققت المنتخبات العربية نتائج لم يكن أحد يتوقعها، بل ولعب منتخب المغرب 7 مباريات في نسخة واحدة من المونديال للمرة الأولى في تاريخ المشاركات العربية.
وخلال 21 نسخة من كأس العالم، كان العرب "ضيفاً خفيفاً" رغم تحقيق بعض الانتصارات التي اعتبرت مفاجآت من الصعب أن تتكرر، لكن النسخة العربية من المونديال شهدت وجود منتخب عربي ضمن المربع الذهبي، كما حققت السعودية وتونس الفوز على طرفي المباراة النهائية.
ورغم أن المشاركة العربية الأولى في كأس العالم ترجع إلى النسخة الثانية 1934 في إيطاليا، عندما شارك منتخب مصر، ورغم أن وجود العرب في المونديال أصبح ثابتاً منذ نسخة 1978، فإن المشاركات العربية لم تتخطَّ دور الـ16 قبل مونديال قطر.
وإجمالاً، حققت المنتخبات العربية 17 فوزاً في جميع نهائيات كأس العالم منذ 1930 حتى 2022، منها 6 انتصارات خلال مونديال قطر 2022، أي أن المونديال العربي تنظيماً (النسخة 22)، شهد تحقيق أكثر قليلاً من ثلث الانتصارات العربية في النسخ الـ21 السابقة.
ولا يتوقف الأمر هنا عند الأرقام فقط، فالسعودية حققت فوزاً تاريخياً على الأرجنتين، التي وصلت إلى المباراة النهائية، كما فازت تونس أيضاً على الطرف الآخر في النهائي وهو المنتخب الفرنسي.
وإذا كان فوز السعودية على الأرجنتين خلال المباراة الافتتاحية في المجموعة قد تسبب، بصورة أو بأخرى، في مغادرة المنتخب العربي للبطولة بعد تلقي هزيمتين متتاليتين من بولندا والمكسيك، فإن تونس كانت قاب قوسين أو أدنى من التأهل للدور الثاني، بعد أن فازت على فرنسا، لولا فوز أستراليا المفاجئ على الدنمارك.
أما انتصارات المغرب فقد تحققت، خلال دور المجموعات، على بلجيكا (المصنف الثاني عالمياً) وكندا، ليتصدر أسود الأطلس مجموعتهم بعد أن كانوا قد تعادلوا مع كرواتيا (وصيف مونديال روسيا 2018)، ثم فاز المغرب على إسبانيا بركلات الترجيح، ليتأهل إلى ربع النهائي، ويفوز على البرتغال بهدف نظيف ليتأهل إلى نصف نهائي كأس العالم قطر 2022.
نعم، خسر المغرب في نصف النهائي أمام منتخب فرنسا، ثم خسر مباراة المركز الثالث أمام كرواتيا، لكن حالة الحزن التي خيمت على الجماهير العربية عموماً، والمغربية خصوصاً، بعد المباراتين، توضح أن الطموحات العربية في كأس العالم قد أصبحت بلا سقف، وأن مصطلح "التمثيل المشرف" قد ولَّى إلى غير رجعة.
فأسود الأطلس منتخب شاب، يدربه مدرب وطني شاب هو وليد الركراكي، وهي مؤشرات مهمة على أن ما شهدته الملاعب القطرية من إنجاز عربي غير مسبوق وارد تكراره، وربما تجاوزه في المونديال المقبل.
كما أن ما حققه المنتخب المغربي يفتح الباب على مصراعيه أمام منتخبات عربية أخرى، للسير على الدرب نفسه، خصوصاً أن منتخبات مثل الجزائر وتونس ومصر والسعودية وغيرها من المنتخبات العربية لا تنقصها الإمكانيات البشرية والمادية، كي تحقق إنجازات مونديالية تسعد جماهيرها من عشاق الساحرة المستديرة.
الخلاصة هنا هي أن ما حققه العرب في مونديال قطر، تنظيماً ونتائج، يشير إلى أن القادم يبدو أكثر إشراقاً للرياضة العربية عموماً، ولكرة القدم بشكل خاص، فهل انتهى عصر "التمثيل المشرف"؟.