انتهت القمة الأمريكية الإفريقية بوعود ضخمة قدمها الرئيس جو بايدن لقادة إفريقيا، مالية وسياسية، لكن لماذا يتشكك البعض في مدى التزام واشنطن بالتنفيذ؟ وما علاقة الصين بتلك الشكوك؟
كانت إدارة جو بايدن قد تجاهلت إفريقيا بشكل كامل منذ تولي المسؤولية في 20 يناير/كانون الثاني 2021، لدرجة أنه على مدى 9 أشهر كاملة لم يقم أي من كبار مسؤولي السياسة الخارجية في الإدارة بأي زيارة للقارة السمراء، إذ ركزوا على زيارة الحلفاء الأوروبيين ودول جنوب شرق آسيا، التي أصبحت أساسية في المنافسة بين أمريكا والصين.
لكن الأمور تغيرت تدريجياً وقام وزير الخارجية الأمريكي، توني بلينكن، بعدة زيارات إلى إفريقيا، كانت إحداها في أغسطس/آب الماضي، حين أعلن عن استراتيجية أمريكية جديدة للقارة السمراء تركز على الأهمية المتزايدة عالمياً لإفريقيا.
بايدن يعد بزيارة إفريقيا
صحيفة New York Times الأمريكية ألقت الضوء على ما قدمته إدارة بايدن من وعود سخية لزعماء القارة السمراء، إذ إنه بعد سلسلة من الوعود خلال قمة سعت إلى تجديد مكانة أمريكا في إفريقيا، أرسل الرئيس الأمريكي قادة القارة إلى أوطانهم الخميس، 15 ديسمبر/كانون الأول، مع وعد برد الزيارة -وهي الأولى من نوعها لرئيس أمريكي إلى إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى منذ عام 2015- رغم أنه رفض الكشف عن موعد الرحلة أو إلى أي دول.
أشاد العديد من القادة الخمسين تقريباً الذين قاموا بالرحلة إلى واشنطن علناً ببايدن على الحدث الذي استمر ثلاثة أيام، والذي تضمن التزاماً بقيمة 55 مليار دولار في الإنفاق الأمريكي في إفريقيا على مدار ثلاث سنوات، بالإضافة إلى عشرات الصفقات والمبادرات التجارية في مجالات مثل التكنولوجيا والفضاء والأمن السيبراني والأمن الغذائي والبيئة.
ومع اختتام القمة يوم الخميس، أكد بايدن أيضاً على أولويات أمريكا الأكثر تقليدية في إفريقيا عندما أعلن عن ملياري دولار أخرى للمساعدات الإنسانية الطارئة بالإضافة إلى 11 مليار دولار في إعلانات الأمن الغذائي الأخيرة.
سجلات اتصالات بايدن الخارجية تظهر أنه منذ تولى منصب الرئيس كان قد أجرى اتصالات بثلاثة فقط من زعماء 3 دول إفريقية، هي إثيوبيا وجنوب إفريقيا وكينيا، إضافة إلى اتصالين بالرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، علماً بأن واشنطن تصنف مصر كإحدى الدول العربية أو إحدى دول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، بحسب تقرير لمجلة Politico الأمريكية. ولم يقم بايدن بزيارة إفريقيا، باستثناء زيارته لمدينة شرم الشيخ المصرية، لحضور مؤتمر المناخ كوب27.
أما الرئيس السابق دونالد ترامب فقد كان أول رئيس أمريكي، منذ رونالد ريغان، لا يقوم بزيارة القارة السمراء على الإطلاق خلال فترته الرئاسية.
أما الرئيس الأسبق باراك أوباما فقد عقد القمة الأمريكية الإفريقية الوحيدة تاريخياً عام 2014، وذلك قبل القمة التي عقدها بايدن، وكان لقمة أوباما مع إفريقيا هدف محدد للغاية، وهو ضمان توفير إمدادات أكبر من الكهرباء للدول الإفريقية جنوب منطقة الصحراء.
لكن إدارة بايدن أرادت من القمة الأمريكية الإفريقية الثانية أن تكون عبارة عن رسالة تخلط بين الجوهر والرمزية أيضاً، وتأمل الإدارة بأن يكون الإعلان عن "زيارة بايدن للقارة" تأكيداً للرسالة بأن واشنطن جادة "هذه المرة" في تعميق علاقاتها مع القارة السمراء، بحسب تقرير لموقع Axios الأمريكي.
ما علاقة الصين بالشكوك في وعود واشنطن؟
لكن وراء الكواليس كان المسؤولون من عدة دول إفريقية، الذين تحدثوا لـ"نيويورك تايمز" شريطة عدم الكشف عن هويتهم لتجنب تحقير مضيفيهم الأمريكيين، أقل استحساناً بشأن القمة. قال البعض إنهم سمعوا وعوداً أمريكية كبيرة من قبل، لا سيما خلال القمة الأمريكية الإفريقية الافتتاحية لعام 2014 التي استضافها الرئيس باراك أوباما، والتي لم تتحقق وعودها.
وأشار آخرون إلى أن بعض وعود بايدن تعتمد على موافقة الكونغرس في وقت يظل فيه الاقتصاد الأمريكي متوتراً والحرب في أوكرانيا تبقى مصدر قلقٍ مهيمن.
وتسلط هذه الفجوة الضوء على التحدي الذي يواجه بايدن في عقد مثل هذه القمة الموسعة، وكسب ثقة القارة بمثل هذا الجاذبية الواسعة في وقت تتباين فيه ظروف قادتها بشكل كبير.
أكد القادة الأفارقة مراراً أنهم لا يريدون أن يُجبروا على الانحياز إما إلى جانب الولايات المتحدة أو إلى منافسيها الاستراتيجيين في القارة، لا سيما الصين وروسيا. وأوضح بايدن أنه سمع تلك المناشدات وكان يحاول تجنب تأطير القمة كجزء من منافسة استراتيجية.
قال بايدن للقادة الأفارقة: "لدينا الإرادة للعمل مع الأفارقة ونحن بحاجة إليكم. آمل أن نوضح الأمر اليوم وكل يوم، لا يقتصر الأمر على إظهار الإرادة فحسب، بل القيام بالعمل. وهناك الكثير من العمل الذي يتعين القيام به".
لكن الحديث الدبلوماسي تناقضه الحقائق على أرض الواقع، فبايدن وإدارته تجاهلوا إفريقيا بشكل واضح على مدى نحو عامين من فترته الرئاسية، ويرى البعض أن السبب الرئيسي وراء هذا الاهتمام المفاجئ هو المنافسة الاستراتيجية الشرسة مع الصين، والتي بدأتها واشنطن من أوروبا ومنطقة المحيط الهادئ والشرق الأوسط، ثم جاء الدور على القارة السمراء.
وهذا السبب تحديداً هو ما يجعل الشكوك عميقة من جانب البعض في إفريقيا، خصوصاً وأن الصين وروسيا، ودول أخرى، تستثمر بالفعل منذ سنوات وتطور علاقاتها مع الكثير من دول القارة، بينما كانت واشنطن تتجاهل القارة ومشاكلها المتعددة وقضاياها الشائكة.
وعلى الرغم من أن مسؤولاً أمريكياً بارزاً أكد لموقع أكسيوس قبل القمة أن الإدارة لن تركز هذا الأسبوع على "المنافسة مع الصين"، التي تعقد قمة صينية إفريقية كل ثلاث سنوات، سواء في ضيافة بكين أم على أراضي القارة السمراء.
وكان الرئيس السنغالي ماكي سول، الذي ترأس بلاده الاتحاد الإفريقي هذا العام، قد قال لصحيفة نيويورك تايمز قبيل القمة: "لن نسمح لأحد بأن يخبرنا ألا نعمل مع هذا أو ذاك، أو أن نعمل معه حصرياً. نريد أن تكون لنا علاقات عمل وتبادل تجاري مع الجميع. عندما نتحدث غالباً لا يستمع إلينا أحد، أو في كل الأحوال لا يستمعون بما يكفي من الاهتمام".
ولا تعني تصريحات الرئيس السنغالي سوى شيء واحد مؤكد، وهو أن بايدن وإدارته يواجهون تحدياً صعباً، فالتبادل التجاري بين الصين وإفريقيا خلال العام الماضي (2021) كان 5 أضعاف نظيره الأمريكي، كما أن بكين تقدم قروضاً ومشاريع بنية تحتية لا تقدمها واشنطن، بحسب غايدي مور، الذي كان وزيراً للأشغال العامة في ليبيريا، وحضر 3 قمم صينية إفريقية.
كيف سيتعامل بايدن مع ملفات إفريقيا الشائكة؟
رئيس النيجر محمد بازوم، في مقابلة مع نيويورك تايمز صباح الخميس، قال إن القمة نجحت في تعزيز الحوار بين الدول الإفريقية وإدارة بايدن. وقال إن "الولايات المتحدة تبدي اهتماماً متزايداً بإفريقيا، وتسمح لهم بفهم احتياجات القارة وما هو على المحك".
وكان أداء بعض القادة أفضل من غيرهم خلال فترة وجودهم في واشنطن (لم يُدع خمسة من القادة الأفارقة، في الغالب لأنهم وصلوا إلى السلطة من خلال انقلابات عسكرية).
التقى بايدن على انفراد في البيت الأبيض بقادة ست دول توشك على عقد انتخابات العام المقبل -جمهورية الكونغو الديمقراطية ونيجيريا وسيراليون والجابون وليبيريا ومدغشقر- حيث حثهم على إجراء انتخابات حرة ونزيهة. ونشر البعض لاحقاً صوراً "قبضة وابتسامة عريضة" مع بايدن في المكتب البيضاوي، وهي هدية تذكارية عزيزة لأي زائر يرغب في إظهار مكانته الجيدة مع الرئيس الأمريكي.
ومع ذلك، فقد ثبت أن الصور الأخرى التي التُقِطَت أصعب بالنسبة لبايدن، حيث أخذ بايدن استراحة من القمة لمشاهدة مباراة المغرب أمام فرنسا في نصف نهائي كأس العالم قطر 2022 مع حفنة من القادة الأفارقة، وهي المباراة التي أقيمت الأربعاء 14 ديسمبر/كانون الأول.
ولكن عندما ظهرت صورة على وسائل التواصل الاجتماعي أظهرت بايدن جالساً إلى جانب رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد، يشاهد المباراة، تسببت في إثارة ضجة بين الإثيوبيين.
أخذ المؤيدون الصورة، التي نشرها مستشار الأمن القومي الإثيوبي على تويتر، كإشارة إلى أن آبي عاد أخيراً إلى جانب بايدن بعد 15 شهراً من تهديد الولايات المتحدة بفرض عقوبات على الحكومة الإثيوبية بسبب سلوكها في الحرب الأهلية المدمرة في البلاد. لكن منتقدي آبي، بمن في ذلك مئات الإثيوبيين الذين تجمعوا خلف حواجز خارج قاعة القمة، ورددوا هتافات ضده، اعتبروا ذلك بمثابة خيانة.
وقالت متحدثة باسم مجلس الأمن القومي إن المقابلة حدثت في اجتماع غير رسمي وكان القادة يتجولون في القاعة. وأضافت أن الولايات المتحدة تحث على مواصلة تنفيذ اتفاق لإنهاء الأعمال العدائية في إثيوبيا، بما في ذلك انسحاب القوات الإريترية، ونزع سلاح قوات تيغراي، ومنح حق الوصول لمراقبي حقوق الإنسان الدوليين.
بالنسبة للأمريكيين، لم تكن القمة حول اختيار المفضلين أو تحديد المنتهكين. دُعِيَت جميع الدول التي تتمتع بسمعة طيبة مع الاتحاد الإفريقي، باستثناء إريتريا. في المقابل، شددت إدارة بايدن على التزامها بالشراكة -وهو تغيير ملحوظ في علاقة واشنطن بالقارة بعد إدارة الرئيس دونالد ترامب، وإيمانها بأن إفريقيا ستلعب دوراً حاسماً في التغييرات التي ستعيد تشكيل النظام العالمي.
وأغلقت الشوارع المحيطة بمركز المؤتمرات، وكانت صفارات المواكب الرئاسية الوامضة تسبب ضجيجاً دائماً في واشنطن طوال أيام الاجتماعات الثلاثة. وازدحمت أغلى فنادق المدينة بالوفود الرئاسية الإفريقية، حيث استغل المسؤولون القمة لعقد اجتماعات رسمية وغير رسمية مع الجيران الأفارقة.
لكن أفارقة آخرين في واشنطن -كثير منهم فروا إلى الولايات المتحدة منذ سنوات، هرباً من الاضطهاد أو سعياً وراء الرخاء- كانوا أقل تأثراً بالأمن المشدد.
قال حكيم سنكوح، الذي هاجر إلى الولايات المتحدة في عام 2014 من سيراليون، إن ضيوف بايدن كانوا جزءاً كبيراً من المشكلة في إفريقيا، وليس حلها. وقال: "هذه فرصة للولايات المتحدة لإحداث تغيير إيجابي". لكنه أضاف: "إنها أيضاً فرصة للقادة الأفارقة الفاسدين لاستغلال الشعوب الإفريقية ومواردهم".
وفي بيان مشترك بمناسبة اختتام الأحداث، قالت الولايات المتحدة والاتحاد الإفريقي إن القمة تعكس علاقة متطورة. وجاء في البيان: "إن شراكتنا مبنية على قناعة بأن حكومات وشعوب إفريقيا ستساعد في تحديد مستقبل النظام الدولي لمواجهة التحديات الأكثر إلحاحاً في عالمنا".
عدَّد رئيس الاتحاد الإفريقي، الرئيس السنغالي ماكي سال، أولويات إفريقيا بما في ذلك مكافحة الإرهاب، وتعزيز الديمقراطية، والتفاوض بشأن "انتقال عادل ومنصف للطاقة" مع الغرب. وطالب برفع العقوبات عن زيمبابوي، وانتقد اقتراح قانون أمريكي يسعى للحد من الأنشطة الروسية غير المشروعة في إفريقيا، مثل دعم المرتزقة. وحذر من أنه إذا مُرِّرَ مشروع القانون، فإنه "قد يضر بشدة بالعلاقة بين إفريقيا والولايات المتحدة".
بالإضافة إلى التخطيط لرحلته الخاصة إلى إفريقيا، قال بايدن إنه كان يرسل زوجته جيل بايدن، وكذلك نائبة الرئيس كامالا هاريس، ووزير الخارجية أنتوني بلينكن وغيرهم من كبار المسؤولين إلى القارة.
إذا نفذ الرئيس وعده بالزيارة فسيكون بايدن سادس رئيس منذ نهاية الحرب العالمية الثانية يسافر إلى إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى أثناء توليه منصبه. سافر بوش إلى الصومال في أسابيعه الأخيرة في منصبه لزيارة القوات الأمريكية وعمال الإغاثة الدوليين، بينما قام بيل كلينتون وجورج دبليو بوش وباراك أوباما برحلات طويلة عبر القارة، واستُقبِلوا بترحيبٍ من حشود غزيرة. أما ترامب، الذي شوّه سمعة البلدان الإفريقية، فلم يسافر إلى هناك قط أثناء رئاسته.