تمكَّن الاتحاد الأوروبي من تقليص اعتماده على روسيا في الحصول على الطاقة، منذ أن أعلنت المفوضية في 19 أكتوبر/تشرين الأول 2022، تمكنها من الاستغناء عن ثلثي وارداتها من الغاز الروسي بالتحول إلى موردين آخرين. والواقع أن هذا التحول بدا أملاً بعيد المنال في الربيع الماضي حين غزت روسيا جارتها أوكرانيا، ومن ثم تحولت من شريك تجاري للاتحاد الأوروبي إلى تهديد عسكري.
إلا أنه ما زال في حاجة إلى مزيد من العمل لضمان استمرار ذلك على المدى الطويل خصيصاً بعد ارتفاع أسعار الغاز في أوروبا هذا العام، بعد أن خفضت روسيا شحنات الغاز في أعقاب الهجوم على أوكرانيا، ما أدى إلى ارتفاع تكاليف الوقود ونمو التضخم.
وإذا أراد الاتحاد الأوروبي أن يستقل بنفسه عن الاعتماد على الطاقة الروسية، فإنه يجدر به أن يتعلم من تجربة إحدى دوله في هذا السياق؛ هذه الدولة هي ليتوانيا كما يقول تقرير لموقع The Conversation الأسترالي، التي استطاعت بعد إعلان استقلالها عن الاتحاد السوفييتي في عام 1990، أن تُهيَّأ نفسها للتعامل مع السياق الجيوسياسي المعقد الذي تقع فيه للحفاظ على أمن طاقتها.. كيف ذلك؟
ما الدروس التي يمكن لدولة مثل ليتوانيا تقديمها لأوروبا في الحفاظ على أمن الطاقة؟
1- عدم التخلي عن الطاقة النووية
لم يكن طريق ليتوانيا إلى الاستقلال في مجال الطاقة سهلاً؛ فقد كانت الطاقة النووية هي الركن الأساسي الذي تعتمد عليه البلاد في تأمين 77% من طاقتها الكهربائية، إلا أنها اضطرت في عام 2004 إلى إغلاق مفاعلين من مفاعلات محطة "إغنالينا" للطاقة النووية ضمن الشروط المسبقة للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي.
استعانت ليتوانيا بعد ذلك بالغاز الطبيعي والنفط الروسي بديلاً عن الطاقة النووية. وبحلول عام 2011، كان الغاز والنفط يمثلان 75% من مصادر الطاقة لدى البلاد، وكانت البلاد تعتمد اعتماداً كبيراً على واردات الهيدروكربونات من روسيا.
واجهت أوروبا المعضلة نفسها بعد الغزو الروسي لأوكرانيا، فقررت ألمانيا في أكتوبر/تشرين الأول إبقاء محطاتها النووية الثلاثة قيد التشغيل حتى عام 2023 على الأقل. أما بولندا فشرعت في بناء 3 محطات للطاقة النووية. وأعلنت هولندا كذلك عن نيتها إنشاء محطتين للطاقة النووية.
على النحو نفسه، فإن فرنسا، التي لطالما اعتمدت خلال تاريخها الحديث على الطاقة الذرية، كشفت عن عزمها العودة إلى الطاقة النووية، وقدَّم الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في نوفمبر/تشرين الثاني مشروع قانون يخفف من لوائح التخطيط المقيِّدة لبناء المفاعلات النووية.
تولِّد الطاقة النووية 25% من كهرباء أوروبا حالياً، ومن المتوقع أن تنخفض حصة الطاقة النووية إلى نسبة تراوح بين 12% و15% بحلول عام 2050، على الرغم من هذه الخطط. والسبب في ذلك أن الدول الأوروبية تنوي إغلاق الكثير من المفاعلات القديمة، وتخطط لبناء معظم المفاعلات الجديدة خارج أوروبا.
2- اتَّباع خطة استقلال طاقة استراتيجية
أقرَّت ليتوانيا إنهاء الاعتماد على روسيا في مجال الطاقة هدفاً واضحاً للبلاد فيما يُعرف بـ"استراتيجية استقلال الطاقة النووية" في ليتوانيا. ومن ثم حين بدأت روسيا في إيقاف تصدير الغاز إلى الاتحاد الأوروبي الربيع الماضي، كانت فيلنيوس قادرة على التخلي عن الغاز الروسي لأنها كانت تستعد للأمر منذ سنوات.
الواقع أن ليتوانيا أدركت حاجتها إلى قطع روابط الاعتماد على الطاقة القادمة من موسكو في عام 1993، فقد أوقفت موسكو إمدادات الطاقة آنذاك لعدم السداد، أو هكذا قالت. ومن ثم بدأت الحكومة الليتوانية في تنويع موردي النفط، واستحثت ليتوانيا الخطى في عام 2006، بعدما ألغت روسيا خطط تفعيل فرع خط أنابيب "دروجبا" المار عبر ليتوانيا. وفي عام 2021، شرعت الدولة في تحويل ميناء بوتينغي إلى محطة لاستيراد النفط.
نتيجة لذلك، تمكنت ليتوانيا من تنويع واردات النفط منذ عام 2006، وتمكنت من التوقف تماماً عن استيراد النفط الروسي بحلول يونيو/حزيران 2022. وتستجلب ليتوانيا نفطها حالياً من السعودية وكازاخستان وبريطانيا والولايات المتحدة والنرويج.
أما العنصر الثاني المهم في استراتيجية الطاقة الليتوانية، فكان تكثيف الربط الكهربائي مع بولندا، والدول الاسكندنافية. ومن ثم تقلصت واردات الكهرباء من روسيا وبيلاروسيا في عام 2019 إلى نحو 50% فقط من واردات ليتوانيا. وبحلول عام 2022، صارت 70% من واردات الكهرباء في ليتوانيا تأتي من السويد، و30% من لاتفيا.
واستند المكون الثالث في استراتيجية ليتوانيا إلى الحدِّ من واردات الغاز الطبيعي الروسي على مدى السنوات العشر الماضية. وتضمن ذلك بناء محطة ميناء "كلايبيدا" المخصصة لضخ الغاز الطبيعي المسال في عام 2014، وهو ما ساعد البلاد في تنويع مصادر توريد الغاز. ومن ثم انخفضت واردات الغاز الطبيعي الروسي بنسبة 60% من عام 2011 إلى عام 2019، ثم تقلصت إلى الصفر بحلول مايو/أيار 2022.
3- تنويع مصادر الطاقة والاستثمار بها
لم تقتصر ليتوانيا على تنويع الموردين، وإنما عملت على زيادة استثماراتها في تنويع الوسائل التكنولوجية للحصول على الطاقة، فخفضت الحكومة حصة الغاز الطبيعي من إجمالي الطاقة عن طريق الاستثمار في الطاقة المتجددة وتعزيز حصتها من الكتلة الحيوية [إنتاج الطاقة من مواد نباتية أو حيوانية] المستخدمة في تدفئة مناطق مختلفة في البلاد.
يقول موقع The Conversation إن المحصلة من ذلك أن أوروبا بدأت تدرك أن ليتوانيا نموذج واعد ينبغي الاقتداء به في مجال أمن الطاقة، لا سيما أنها استطاعت أن تكون جزيرة من الاستقرار في بحر أوروبا الشرقية المضطرب، وتمكنت من تقديم نفسها بين مناطق الاستثمارات الناشئة، على الرغم من الجوار الجغرافي والاقتصادي المزدحم بالأزمات.